بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
ترجمة، د. عبد الله العروي
فهذه قراءة موجزة لمتن روسو “عقيدة جبل السافوا” والذي ترجمه الدكتور العروي ب “دين الفطرة”، وقد عمدت فيها إلى التركيز على أهم مضامين الكتاب لجمهور القراء، دون تطويل ممل مع الاعتراف أن الاختصار هنا قد يكون مخلا في بعض الأحايين، وهذا من طبيعة القراءة التي عمدت إليها في هذا المقام، وهي إعطاء نبذة عن الكتاب أكثر من مناقشة مضامينه وتفصيلها وربطها بأصولها إلا ما رأيت ضرورة لبيانه أو تفصيل القول فيه.
التعريف بالكاتب:
هو جان جاك روسو المولود بجنيف سنة 1712، وكانت جنيف وقتها عاصمة المذهب البروتستانتي الكلفيني، لكنه ما لبث عن أن تحول إلى الكاثوليكية في ريعان شبابه خصوصا بعد انتقاله لإيطاليا عاصمة الكاثوليك ومقر الفاتيكان، ثم التحق بفرنسا حيث عايش عددا من الفلاسفة وتأثر بهم، لكنه وقتها اشتغل بالموسيقى بدل الفلسفة التي اشتغل عليها في مرحلة متأخرة وتميز اشتغاله بانتقاده اللاذع للفلسفة المادية، فأدانه جمع من الفلاسفة كفولتير وغيره. توفي سنة 1778 للميلاد.
نبذة عن الكتاب:
العنوان الأصلي للكتاب هو عقيدة قس من جبال السافوا Profession de foi du viciare savoyard وقد صدر هذا الكتاب لروسو سنة 1761، ويصعب فهم هذا الكتاب بمعزل عن كتاب آخر لروسو وهو العقد الاجتماعي.
وقد ترجم العروي هذا الكتاب ب “دين الفطرة”، وهي ترجمة مغايرة للعنوان الأصلي، وتحمل في طياتها حكما معياريا على طبيعة عقيدة القس، وهو ما يدفعنا للتساؤل، هل عقيدة قس جبل السافوا تمثل بحق دين الفطرة؟ هذا ما سنتبينه في خاتمة القراءة.
يوضع هذا الكتاب في سياق فلسفة الدين، وقد حكى العروي سبب ترجمته لهذا الكتاب بأنه من الكتابات التي تقترب من روح الفكر الإسلامي، وهو يحكي قصة قس مر بتجربة وجدانية فريدة، حيث رسم لنفسه عقيدة بسيطة بينة وصادقة لا تعارض فيها بين العقل والقلب وغايتها تحقيق الاطمئنان الفردي والاستقرار المجتمعي.
والكتاب في مجمله عبارة عن عظات موجهة من قس جبل السافوا إلى شاب، مخاطبا إياه ب “ولدي/ولدي العزيز/ الشاب الطيب…”، يحثه فيها على تنوير عقول العامة والابتعاد عن شبهات الفلاسفة وأوهام القساوسة، والمحور الرئيس لهذه التوجيهات هو الضمير، حيث انتقد فيها من يقول بعدمية الضمير، بإثبات أن الضمير لا ينفك يطيع أوامر الطبيعة ويعاكس كل قوانين البشر، ثم يحكي حكاية القس مع الحيرة والشك وانتقاده اللاذع لبعض مقررات الكنيسة التي تساعد على هذه الحيرة، بالإضافة إلى نقده للفلاسفة الذين دعوا إلى اتخاذ الشك عقيدة وآثار ذلك على ترسيخ الشقاء الإنساني ليخلص قائلا: “تبين لي أن أولى الأفكار وأعمها هي أبسطها وأقربها إلى العقل” [ص30]، ليستبدل بذلك فلسفة التبسيط بالتعقيد الفلسفي ، والتي تعدت حتى تفسيره لبعض الأمور من صميم الميتافيزيقا، ليدخل بعد ذلك في تحليل جدلية الحركة والمادة منتقدا بذلك مقالات الفلاسفة الماديين، لينتهي إلى الإيمان بوجود إرادة قارة وحكيمة تسير الكون، بدل معتقدات الماديين التي تقول إن المادة الجامدة قد أنتجت كائنا ذا حياة وإحساس، لكنه لم يدخل بعدها في جدالات حول ماهية الرب، مقرا أن “أكبر استخفاف بالرب ليس الغفلة عنه بل التفكير فيه بما لا يليق”. [ص48].
لذلك فبدل التفكير في ماهية الرب، فكر في ماهية الإنسان، مظهرا أنه كلما اجتهد لفحص جوهر اللامتناهي، أي الرب، زاده غموضا وعجز عن تصوره، فاكتفى بالإقرار بوجوده، وقد خلص في تأمله لماهية الإنسان المخلوق إلى أن الروح جزء من ماهية الإنسان، ليرجع بذلك إلى تأكيد مقالة الضمير وأثرها على تعزيز الأخلاق، وأي نفي للضمير فهو نفي للأخلاق، كما أكد روسو أن الفعل الإنساني مرتبط بالمشيئة الإنسانية فهو كائن حر، ولا يعني ذلك أن أفعاله التي فعلها وفق مبدأ الحرية تدخل في النظام الذي اختاره الخالق بتدبيره وحكمته، فلا يجب إضافته إليه، ونفهم من ذلك أن الشر مرتبط بالمشيئة الإنسانية لا الإلهية، لأن منع الشر لا يتم إلا بنفي حرية البشر وهو شر أكبر في قيمة الإنسان الذي أوجده الرب لا ليفعل الشر بل ليقبل على الخير مختارا، كما يقول جان جاك على لسان قس جبل السافوا. ومن ثَم ربط أصل الشر بالإنسان لا الإله لأنه فاعله عن اختيار.
بعد هذا التأمل في الإنسان انتقل إلى النظر في الحياة الآخرة وعلاقتها بالنفس الإنسانية متسائلا: هل النفس بطبعها باقية لا تفنى؟ ليجيب بأن الروح باقية لا تفنى.
ونلحظ أن روسو يؤسس لاستدلال مبني على الضمير لا العقل، لأن من عوارض العقل، كما يقول، التمويه فيخدع الإنسان بدل أن يرشده، أما الضمير فلا يخدع أبدا، على حد تعبيره، فأقر أنه يستشير قلبه في كل نازلة وهو يحدد الخير من الشر، فيسمع صوت الضمير ليحدد له، والضمير هو صوت الروح والشهوة، هو مبدأ يولد مع الإنسان ويوجد في سر النفوس، وعلى ضوئه يحكم الفرد، ولو صدم ميوله الشخصية، هو غريزة ربانية وصوت علوي لا يخفت، وبه يميز الإنسان الخير من الشر، ولولاه لما أحس بأي تفوق على الحيوان، هكذا يعرف روسو الضمير في عظات متفرقة.
وقد رفع روسو مرتبة الضمير حتى ألغى كل الوساطات بين الإنسان والإله، حتى الأنبياء، مما جعله ينكر منزلة النبوة، معتبرا أن دخول الوساطة في علاقة الإله بالإنسان هو السبب في تكثير الأديان وكذا تكثير الكتب (ويقصد بذلك الكتب السماوية) لذلك نجد له موقفا سلبيا تجاه الوحي، وهو منسجم مع موقفه تجاه العقل، لذلك قال: “فيما يتعلق بالوحي، لو كنت أرجح عقلا وأغزر علما لربما شعرت بصحته وبنفعه لمن سعد وآمن به. أما أنا فإني أرى من جهة أدلة مقنعة على صحته ومن جهة ثانية إشكالات متناقضة لا أستطيع ردها”.
وفي الأخير يقدم جملة توجيهات روحية وتربوية وأخلاقية منها التركيز على الصدق مع النفس والإخلاص والتواضع وقول الحق وفعل الخير والابتعاد عن التعصب.
ومع ذلك لا نجد لروسو موقفا سلبيا تجاه الأديان الثلاث، اليهودية والمسيحية والإسلام، إلا أنه قدم انتقادات لاذعة لفكرة الدين من حيث الأصل، وهو في ذلك يبتعد عن العلمية في التعامل مع الدين إلى التركيز على العرفانية المطلقة في التعامل مع الإله، ويظهر بجلاء تهافت هذا النظر في نقد الدين واختزاله في بوتقة ضيقة، فيعزل الدين عن أسسه وثوابته ليؤسس بذلك “دينا” جديدا، ركنه الأساس هو الضمير من غير وحي ولا نبي، وما أبعد هذا الدين الجديد عن مقتضيات “دين الفطرة” المبني على الوحي الإلهي من غير إنكار على الإله لاصطفائه أحدا من البشر، بل الوحي ترشيد لمسار التدين الإنساني، لا تضييقا له، كما جاء في الكتاب، وتعمييقا للفطرة والضمير الإنساني لا إلغاء لهما. ومن ثَم، فإن كل دين يتبرأ من الوحي فهو يبتعد عن الفطرة.
ومن هنا أعيد التساؤل، هل عقيدة قس جبل السافوا هي دين الفطرة كما ترجم الدكتور عبد الله العروي؟
هذا تقييم الدكتور العروي للعقيدة التي عرضها روسو على لسان قس جبل السافوا، إلا أنه من المؤكد أن من مقررات دين الفطرة بعض ما قيل من الكتاب بخصوص الضمير الحي والفاعل، لكن النظرة الشمولية لدين الفطرة تقتضي الإيمان بالوحي أساسا للحفاظ على مقتضيات الفطرة، وكليات الأخلاق، ولوازم الضمير.
وأحب أن أؤكد في خاتمة هذه القراءة الموجزة أن الدكتور طه عبد الرحمن قدم نقدا لبعض ما جاء في هذا الكتاب في كتابه “بؤس الدهرانية: النقد الائتماني لفصل الأخلاق عن الدين”.
إرسال تعليق