U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

أبو حيّان التوحيدي ..

 يلقّبونه بـ “أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء”، وحتّى هذا اللّقب ربّما كان ضيّقاً عليه، فهو، بالفعل،علّامة عصره وفهّامة زمانه على صُعدٍ شتّى: فكريّة وعِلميّة ولغويّة ونقديّة وأدبيّة وفلسفيّة ودينيّة وتاريخيّة، فضلاً عن إلمامه العميق بالتصوُّف على اختلاف طرائقه ومُندرجاته.

وقد ساعده على أن يكون كذلك، طبيعة عصره نفسها: القرن العاشر الميلاديّ (القرن الرابع الهجريّ) الذي كان عصراً مميَّزاً من عصور الحضارة العربيّة – الإسلاميّة في الانفتاح والتنوير والازدهار العِلميّ والمَعرفيّ العامّ.

وكان أبو حيّان التوحيدي وقتها كوكب عصره الساطع بتلك المَعارِف والعلوم التي أَثَّرت بدَورها على مُجمل مَسار الحضارة البشريّة المُعاصِرة وتطوّرها، فكانت، مثلاً المُمهِّد الرئيس لحضارة الغرب التي انفجرت في القرنَين التاسع عشر والعشرين.

وأحسب أنّ أروع مَن وصفَ القرن الرابع الهجري، ومَوقع التوحيدي فيه، كان البحّاثة اللّبناني الكبير د. علي شلق، صاحب كِتاب “أبو حيّان التوحيدي والقرن الرابع الهجري”، فهو يرى أنّ ذاك القرن الهائل والتوحيدي يقترنان في باله بتألُّقٍ واحد “لم أجد مثل الفارابي فيلسوفاً، ولا المتنبّي شاعراً، ولا الأخفش نحويّاً، ولا بديع الزمان الهمذاني أديباً ابتدع المَقامات، أو الأصفهاني أديباً، مؤرِّخاً، ناقداً، ولا البيروني وابن الهَيثم عالِمَين، أو ابن سينا جمع فأوعى، بل لأنّ أبا حيّان التوحيدي فيه من كلّ هؤلاء، كالعدسة البلّوريّة تجمع شتيت أشعّة الشمس في نقطة واحدة”.

وكان أبو حيّان التوحيدي (922 – 1023م) ابن بيئة مدينة بغداد التي كانت عاصمة العالَم الفكريّة في ذلك الوقت، يقتفي أثر الجاحظ ابن العصر الذي سبق عصره، وخصوصاً لجهة النسج على أسلوبه الساخر واعتماده اللّغة السهلة المُباشرة المتجنِّبة لأيّ تكلّف وسجع ومحسنّات بديعيّة. لكنْ من دون أن يمسّ ذلك كلّه من ريادته لمسألة التأسيس لفِكرٍ جديد وإبداعٍ جديد وحتّى أسلوب كتابيّ جديد؛ فكلّ مَن يقرأ نصوصه يلحظ أنّها مكتوبة بعربيّة اليوم.

وعلى الرّغم من أنّ أبا حيّان التوحيدي أَحرق قسماً كبيراً من كُتبه، احتجاجاً على مَن لا يَعُون ما تحتويه، وعلى أنّه لم يستفد منها في إصلاح عيشٍ وسدّ رمق، غير أنّ ما تبقّى منها كان كافياً لجعْله يتصدَّر كُتّاب عصره في الأهميّة، التي لم يحصّلها – مع الأسف – إلّا بعد وفاته بزمنٍ طويل. ومن أبرز كُتبه: “المُقابسات”، “الإمتاع والمؤانَسة”، “البصائر والذخائر”، “الهوامِل والشوامِل”، “أخلاق الوزيرَين”، “الإشارات الإلهيّة”، “الصداقة والصديق”، الذي يشكو فيه من سوء الأصدقاء وغدرهم، وأنّ الدنيا ما هي إلّا “تلك الدار التي امتلأت بالذئاب”.. و” أنّ الناس سِباع ضارية، وكلاب عاوية، وعقارب لسّاعة، وأفاع نهّاشة”.

ويتحدّث أبو حيّان في “الصداقة والصديق” أيضاً (475 صفحة من القطع المتوسّط) عن طبقات الناس وفئاتهم ومَواقفهم من الصداقة قائلاً: “أمّا الملوك فقد جلّوا عن الصداقة، لأنّ أمورهم جارية على القدرة. وأمّا خدمهم وأولياؤهم فعلى غاية الشبه بهم. وأمّا أصحاب الضِياع، فليسوا من هذا الحديث في عَيرٍ ولا نفير. وأمّا التجّار، فكسْب الدوانق سدَّ بينهم وبين كلّ مروءة. وأمّا أصحاب الدّين والوَرَع، فعلى قلّتهم، ربّما خلصت لهم الصداقة لبنائها إيّاهم على التقوى. وأمّا الكُتّاب وأهل العِلم، فإنّهم إذا خلوا من التحاسُد والتنافُس والتماري والتماحُك، فربّما صحّت لهم الصداقة وظهرَ منهم الوفاء، وذلك قليل”.

على أنّ كِتابه “الصداقة والصديق” هو أيضاً عبارة عن مُناجاةٍ لصداقة الذّات العميقة لذاتها وبثّ شكواها لنفسها: “فلقد فقدتُ كلّ مؤنس وصاحب، ومُرافِق ومُشفِق، ووالله لربّما صلّيت في الجامع، فلا أرى جنبي من يصلّي معي، فإنْ اتَّفق فبقّال أو عصّار أو ندّاف أو قصّاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتْنه، فقد أمسيتُ غريب الحال، مُستأنِساً بالوحشة، قانِعاً بالوحدة، مُعتاداً للصمت، مُلازِماً للحيرة، مُحتمِلاً للأذى، يائساً من جميع ما ترى”.

هكذا هو يخلط بين السخريّة من الذّات والشكوى لها بعدما فقدَ كلّ علاقة له بأصحاب القدرة الماديّة من أصحاب جاه وسلطان، فهو كان اتّصل ببعضهم، لكنّهم تجاهلوه، ولا يعرف أحد من دارسي التوحيدي سبب ذلك حتّى الآن، عِلماً أنّ بعض الحكّام العرب في عصره كانوا تنويريّين للغاية ومُقدِّرين للعِلم والعُلماء والشعراء والأدباء، يساعدونهم من دون منّة أو أيّ سياسة احتواء.

على أنّ هذا كلّه لم يمنع الرجل من الشغل بالنَّسخ والوراقة والعَيش المكتفي من عائداتهما، وإصراره على هذه المِهنة، والاستمرار بها، كان بدرجة أولى، لأنّها تجعله على اتّصال بمَعارف عصره وعلومه المتنوّعة والتي كان ينتج خلالها علماء عرب ومُسلمون الكثير من المصنّفات الفكريّة والتاريخيّة والأدبيّة واللّغويّة والدينيّة والفلسفيّة. وأبو حيّان كان يجري عمليّةَ مُوازَنةٍ بين تلك المَعارف وتجديد الواقع الاجتماعي من حواليه، إذ كانت الثقافة العربيّة – الإسلاميّة في عصره (طبعاً من خلال المُنخرطين فيها والمُنتجين لها) تتّصف بالعمق والجرأة في تناول الأمور وهضم عناصرها الحضاريّة.

وعلى العموم، كان التوحيدي غالباً انتقائيّاً في ما يختار من تصانيف لنسْخها وإعدادها من جديد والاستفادة منها كلّ الاستفادة، بحيث تندغم في سرّ شخصيّته، وأصل كينونته، وعنوان عبقريّته. ومعه، ومن خلال مؤلّفاته كلّها، لا ولادة من غير مخاض ومُعاناة وصبر، ولا نهوض لنصٍّ من نصوصه الناجزة، إلّا من قلبِ ذاتٍ عقلانيّة مُسدّدة نحو الأهداف والمَقاصد.

  • المُقابسات

أمّا كِتابه “المُقابسات”، الذي يُعدّ في نظر الكثير من النقّاد ودارسي التراث العربي الثّقاة من أهمّ مؤلّفاته على وجه الإجمال، فيتميَّز بنزعةٍ فلسفيّة، هي في رأي البعض عبارة عن لفتات ونقرات وليست كلّاً مُنسجِماً يؤدّي إلى موقفٍ من الوجود أو مَذهبٍ من مَذاهِب الفلسفة؛ وأبو حيّان فيها أقرب أن يكون كاتِباً مُفكّراً أكثر منه مُتفلسفاً. والكِتاب كناية عن مجموعة أسئلة وأجوبة دارت في مجلس أبي سليمان السجستاني، أحد كِبار أهل المنطق المعروفين في ذلك الزمان، وبحضور مجموعة من فرسان الكلام والمعرفة: ابن مسكويه، ويحي بن عدي، وأبو حسن العامري، وأبو محمّد السامرائي وغيرهم. وكانت المُساجلات تدور حول موضوعات فلسفيّة وصوفيّة وأدبيّة ولغويّة وأخلاقيّة ونفسانيّة. ويَذكر التوحيدي نفسه الهدفَ من كِتابه قائلاً: “واعلم أنّ الغرض كلّه من هذا الكِتاب، إنّما هو إيقاظ النَّفس، وتأييد العقل، وإصلاح السيرة، واعتياد الحسنة، ومُجانَبة السيّئة”.

أخيراً، نورد من كِتاب “المُقابسات” نماذج مُختلفة منها ما يدور حول النَّفس والعقل: “والإنسان متقوّم بالنَّفس التي إذا لحظها بعَينه التي له منها، ساغ له أن يُحدّثها، ويُحدِّث عنها، ويُحقِّق نبأها وحالها، وهي العقل بوجه آخر.. وهي هو، وهو هي”.

وحول الموسيقى نقرأ: “والموسيقى حاصل للنَّفس وموجود فيها على نَوع لطيف وصنف شريف. والموسيقار إذا صادف طبيعة قابلة، ومادّة مُستجيبة، وقريحة مواتية، وآلة منقادة، أفرغ عليها تأييد العقل والنَّفس لبوساً مونقاً، وتأليفاً معجباً، وأعطاها صورة معشوقة، وحليّة مرموقة، وقوّته في ذلك تكون بمُواصَلة النَّفس الناطقة”.

وحول الزمان والمكان نقرأ: “الظرف الزماني ألطف، والمكان أكثف من الزمان، فكأنّ الزمان من قِبَلِ النَّفس، والمكان من جوهر المُحيط”.

وبخصوص اليقظة والحلم نقرأ: “وأعلم أنّ اليقظة التي لنا بالحسّ هي النوم. والحلم الذي لنا بالعقل هو اليقظة”.

وحول الحزن والفرح يقول أبو حيّان التوحيدي: “الحزن أصل والفرح طارىء”.

هذا غيض من فيض مُقابسات أبي حيّان التوحيدي، هذا المُبدع الاستثنائي الذي عمّر مُتجاوِزاً سنّ التسعين، ومع ذلك ظلّ رجلَ الغربة والغرابة في مُجتمعه. لم يألفه مُجتمعه إجمالاً وظلّ هو غير أليف مع هذا المُجتمع. ولم تُعرف قيمته الاعتباريّة بين بني قومه والأقوام الأخرى، إلّا بعد قرون من رحيله.

يكفي ما قاله لي ذات يوم في باريس، كبير أدباء أميركا اللّاتينيّة خورخي لويس بورخيس: “أبو حيّان التوحيدي ضمير البشريّة جمعاء. لقد قرأتُ مُقابساته مليّاً. إنّه أستاذي وأستاذ الكثير من مُفكّري هذا العالَم وأدبائه”.

كتبه :أحمد فرحات



خاص لـ: مؤسّسة الفكر العربي

 

تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة