U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

ثلاث أفكار في الأمثال القرآنية :

لا يخفى على من اطلع على أمثال القرآن أنها من علوم القرآن المهمة، كيف لا، وقد قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}، وقال: {وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} وإذا كان هذا هو شأن الأمثال، فحريُّ بالمسلم - فضلًا عن المتخصص في الدراسات القرآنية - أن يعلمها ويعقلها .
ولما كانت الأمثال القرآنية بهذه المرتبة، فإنك تجد ابن عباس (ت: 68) يجعلها من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله والراسخون في العلم، فقد روى عنه الطبري في تفسير قوله تعالى: {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات} قوله: ((المحكمات: ناسخه، وحلالُه وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به .
والمتشابهات: منسوخه، ومقدَّمه ومؤخره، وأمثاله، وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به)) .
كما جعل ابن عباس (ت: 68) معرفة الأمثال القرآنية من الحكمة التي يؤتيها الله للعبد المسلم، فقد روى الطبري بسنده عن ابن عباس قال في قوله: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}: ((يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله)) .
هذا، وقد تكلَّم العلماء في أمثال القرآن من وجوه:
- معانيها .
- بلاغتها .
- ما تحتمله من استنباطات وفوائد علمية وعملية .
وقد ظهرت دراسات معاصرة كثيرة في أمثال القرآن، وقد ظهر لي أن أضيف إلى هذه الدراسات ثلاث أفكار تتعلق بهذه الأمثال، ولقد كنت أود تحبير هذه الأفكار، فلما طال عليَّ الأمد رأيت أن أطرحها كما كتبتها بادي الرأي، ولعلها تتنقح بتعليقات الأعضاء، وإليك هذه الأفكار:
أولاً: إن بعض الأمثال القرآنية تحتمل أكثر من نوع أو صورة .
وذلك يعني أنه سيكون الاختلاف في تحديد المراد بالمثل من باب اختلاف التنوع، إذا كان المثل يحتملها بلا تضادٍّ .
ويحسن أن يُنَبَّه على صحة انطباق المثل على ما يُذكر من تفسيره، وستأتي الإشارة إلى ذلك في المثال الآتي:
{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}.
فقد اختلف السلف في المعنى الذي ضُرِب به المثل على أقوال:
الأول: عن ابن عباس قال: ((سأل عمر أصحاب رسول الله  فقال: فيم تَرَون أنزلت: "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب" ؟ فقالوا: الله
أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا: "نعلم" أو "لا نعلم". فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها= قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه)) .
الثاني: عن السدي: ((هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا . فكذلك المنفق رياء)).
الثالث: عن ابن عباس: ((ضرب الله مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسنٌ . وقال قال: "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل" إلى قوله: "فيها من كل الثمرات" يقول: صنعه في شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها مهانًا، من أجل أنه [فخر على صاحبه] ووثق بما عنده، ولم يستيقن أنه ملاق ربه)).
فهذه ثلاثة أوجه في بيان ضرب المثل، وكلها يصدق عليها المثل، فهذا من اختلاف التنوع في صدق المثل على أكثر من صورة .
وإذا نظرت إلى بعض الأمثال بهذه النظرة، فإنه لا يتعبك النظر في البحث عن الراجح من معاني تفسير المثل، كما وقع عند بعض المعاصرين في النظر في المثلين اللذين ضُربا لحال المنافقين في سورة البقرة في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة 17 - 20]، فما ذكره السلف من المعاني ينطبق على حال المنافقين، وهو تفسير صحيح للمثلين .
ثانيًا:
 توارد بعض الأمثال على طرح القضية الواحدة:
لقد كان من حكمة الله في إنزال كتابه أن جعله كتابًا متشابهًا مثاني، فهو يكرر القصة مرة بعد مرة، والقضية مرة بعد مرة .
وبالنظر إلى أمثال القرآن يمكن أن نجد التشابه في المعنى الممثل به مع اختلاف المثل المضروب، كما قد نجد التكامل بين المثلين في طرح قضية من القضايا، وهذه الفكرة محل بحث يحتاج إلى استقراء وتتبع لأمثال القرآن، وأكتفي منها هنا بالتمثيل لذلك:
1 - إذا أخذنا بتفسير المثل في قوله تعالى: {أيود أحدكم أن تكون له جنة ...} الآية، على قول ابن عباس أنه مثل ضرب للكافر الذي يأتي يوم القيامة، ولا ينفعه عمله الذي عمل، فإنه سيكون نظيرًا للمثل في قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ} [إبراهيم: 18]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] .
فائدة موضوعية في الأمثال:
يمكن أن تُجمع الأمثال من جهة الموضوع، فتجمع الأمثال المضروبة في التوحيد وضده، والأمثال المضروبة في العمل الصالح وضده، والأمثال المضروبة في كفار، والأمثال المضروبة في اليهود والأمثال المضروبة في المنافقين ... الخ.
وبهذا ستظهر فوائد عديدة، منها:
- المحسوسات التي اختيرت لضَرْبِ الأمثال وعلاقتها بالممثل بهم .
- إحصاء من ضُرِبَ بهم المثل من حيث عدد الأمثال .
- الخفاء والوضوح في الأمثال وعلاقته بمن ضُرب بهم المثل .
- الألفاظ والأساليب التي اختيرت في ضرب المثل، وعلاقتها بموضوع المثل وبمن ضُرِب به المثل.
ثالثًا: شواهد من القرآن والسنة لتفسير الأمثال .
مما تحسن العناية به في موضوع الأمثال القرآنية ذكر الشواهد من القرآن والسنة على تفسير الأمثال، وقد يكون في السنة ما يفيد في جانب من جوانب تفسير المثل، فذكر الحديث النبوي يقوي ذلك المعنى الذي فُسِّر به المثل، ومن أمثلة ذلك:
1 - قال تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ}.
قال مقاتل بن سليمان (ثم ضرب الله مثل الكفر والإيمان، ومثل الحق والباطل، فقال: {أَنَزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا}، وهذا مثل القرآن الذى علمه المؤمنون، وتركه الكفار، فسال الوادي الكبير على قدر كبره، منهم من حمل منهم كبيراً، والوادي الصغير على قدره  فاحتمل السيل، يعنى سيل الماء، زَبَداً رَّابِياً، يعنى عالياً، وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار  أيضاً، ابتغاء حِلْيَةٍ، يعنى الذهب، والفضة.
ثم قال: أَوْ مَتَاعٍ ، يعنى المشبه، والصفر، والحديد، والرصاص، له أيضاً  زَبَدٌ مِّثْلُهُ، فالسيل زبد لا ينتفع به، والحلى والمتاع له أيضاً زبد، إذا أدخل النار أخرج خبثه، ولا ينتفع به، والذهب والفضة والمتاع ينتفع به، ومثل الماء مثل القرآن، وهو الحق، ومثل الأودية مثل القلوب، ومثل السيل مثل الأهواء، فمثل الماء والحلي والمتاع الذي ينتفع به مثل الحق الذي في القرآن، ومثل زبد الماء، ومثل المتاع الذي لا ينتفع به مثل الباطل، فكما ينتفع بالماء، وما خلص من الحلي، والمتاع الذى ينتفع به أهله في الدنيا، فكذلك الحق ينتفع به أهله في الآخرة، وكما لا ينتفع بالزبد وخبث الحلى والمتاع أهله في الدنيا، فكذلك الباطل لا ينتفع أهله في الآخرة، كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَاءً، يعنى يابساً لا ينتفع به الناس كما لا ينتفع بالسيل،  وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض ، فيستقون ويزرعون عليه وينتفعون به، يقول:  {كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال}  [ آية: 17 ]، يعنى الأشباه، فهذه الثلاثة الأمثال ضربها الله في مثل واحد) .
وهذا الذي ذهب إليه مقاتل من كون المثل في القرآن ومثل من أخذ به من المؤمنين ومن مثل من تركه من الكافرين يشير إليه الحديث الصحيح، وهو قوله : (إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكان منها طائفة قَبِلَتِ الماء فانبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأ، وذلك مثل ممن فقه في دين الله فنفعه ما بعثني الله به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) .
الشيخ مساعد الطيار .
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة