U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

• الشعر العربي الحديث و المعاصر: (نصوص تطبيقية). قصيدة: "المساء" لخليل مطران:


داء ألم, فخلت فيه شفائي من صبوتي, فتضاعفت برحائي
يا للضعيفين استبدا بي, وما في الظلم مثلٌ تحكم الضعفاء,
قلب أذابته الصبابة والجوى وغلالة رثت من الأدواء,
والروح بينهما نسيم تنهد في حالي التصويب و الصعداء
والعقل كالمصباح يغشى نوره كدري ويضعفه نضوب دمائي !
* * *
هذا الذي أبقيته, يا منيتي من أضلع وحشاشتي وذكائي,
عمرين فيك أضعت, لو أنصفتني لم يجدرا بتأسفي, وبكائي,
عمر الفتى الفاني, وعمر مخلد ببيانه, لولاك, في الأحياء,
فغدوت, لم أنعم كذي جهل, ولم أغنم كذي عقل ضمان بقاء !
يا كوكبا من يهتدي بضيائه يهديه طالع ظلة, ورياء,
يا موردا يسقي الورود, سرابه ظمأ إلى أن يهلكوا بظماء,
يا زهرة تحيي رواعي حستها وتميت ناشقها بلا إرعاء.
هذا عتابك, غير أني مخطئ أيرام سعدٌ في الهوى حسناء؟
حاشاك ! بل كتب الشقاء على الورى والحب لم يبرح أحب شقاء,
نعم الظلالة حيث تؤنس مقلتي أنوار تلك الطلعة الزهراء,
نعم الشفاء إذا رويت برشفة مكذوبة من وهم ذاك الماء,
نعم الحياة إذا قضيت بنشقة من طيب تلك الروضة الغناء,
إني أقمت على التعلة بالمنى في غربة قالوا: تكون دوائي,
إن يشفى هذا الجسم طيب هوائها أيلطف النيران طيب الهواء؟
أو يمسك الحوباء حسن مقامها هل مسكة في البعد للحوباء؟
عبث طوافي في البلاد, وعلة في علة منفاي لاستشفاء,
متفرد بصبابتي, متفرد بكآبتي, متفرد بعنائي,
شاك إلى البحر اضطراب خواطري فيجيبني برياحه الهوجاء,
ثاو عل صخر أصم, وليت لي قلبا كهذي الصخرة الصماء,
ينتابها موج كموج مكارهي ويفتها كالسقم في أعضائي
والبحر خفاق الجوانب, ضائق كمدأ كصدري, ساعة الإمساء,
تغشى البرية كدرة, وكأنها صعدت إلى عيني من أحشائي,
والأفق معتكر, قريح جفنه يغضي على الغمرات والأقذاء !
* * *
يا للغروب وما به من عبرة للمستهام ! وعبرة للرائي
أو ليس نزعا للنهار, وصرعة للشمس, بين مآتم الأضواء
أو ليس طمسا لليقين إلى مدى وإبادة لمعالم الأشياء,
حتى يكون النور تجديدا لها و يكون شبه البعث عود ذكاء !
* * *
ولقد ذكرتك والنهار مودع والقلب بين مهابة ورجاء,
وخواطري تبدو تجاه نواظري كلمى كدامية السحاب أزائي,
والدمع من جفني يسيل مشعشا بسنا الشعاع الغارب المترائي
والشمس في شفق يسل نظاره فوق العقيق على ذرى سوداء !
مرت خلال غمامتين تحدرا , و تقطرت كالدمعة الحمراء,
فكأن آخر دمعة للكون قد مزجت بآخر أدمعي لرثائي,
وكأنني آنست يومي زائلا, فرأيت في المرآة كيف مسائي!
تحليل القصيدة :
أولا : تقديم النص.
القصيدة تجربة وجدانية تناول فيها الشاعر أحاسيسه ومشاعره في المساء وهي لا تقبل التقسيم وانما يمكن تصنيفها الى مواقف .
م . الموقف الأول يخبرنا فيه الشاعر بمرضه وآثره على جسمه وعقله وروحه
ل . الموقف الثاني يلتمس في الشفاء في الغربة التي زادت من آلامه وأحزانه
ح . الموقف الثالث تواجد فيه الشاعر مع الطبيعة بتواجده مع البحر وصخوره وتواجده مع الأفق ومع الغروب ومغيب الشمس
ثانيا : المناقشة والتحليل :
يرى الدكتور مندور ظهور النزعة الوجدانية عند الشاعر رغم اتجاهه العام نحو تنكير نفسه ومشاعره الخاصة وأفكاره السياسية والاجتماعية بحكم خصائصه النفسية وظروف حياته فان طبيعته العاطفية استطاعت في بعض الأحيان ان تتغلب فتبرز سافرة قوية واذا به ينطلق في شعر وجداني مؤثر يشتغل حرارة وينتفظ ألما وتعتبر قصيدة المساء لوحة رسم عليها الشاعر آلامه وأحزانه فعقله وجسمه وروحه لحقها الضعف بحثا عن الدواء في كل المجالات فلم يجده وامتد ألمه الى الطبيعة فأثر فيها فجعلها تشارك الشاعر وترثيه وهذه القصيدة تمثل الناحية الوجدانية عند الشاعر لكنها وجدانية تغاير وجدانية الشعر العربي لأنها ليست منبثقة عن القلب مباشرة بل تمتزج بالخيال الشعوري ويسيطر الفكر على صياغتها ويظهر أن هذه النزعة كانت نتيجة تأثر الشاعر بالتيار الرومانسي الغربي أمثال ( الفرد دي موسيه ) القائل :
الرومانسيون يهزون قلوبهم بين جوانحهم لأنها مصدر العبقرية وأمثال بول هزار القائل : الرغبة بما تثيره من خوف او ضيق هي التي تدفعنا الى كل ما نقوم به وما يدور بخلدنا من أفكار .. ليزعم هؤلاء الذين لم يحبوا قط أنهم أسمة تفكيرا من غيرهم ما تشاء لهم فاني أجيبهم ان هناك أفكارا صحيحة لا حصر لها ولا سبيل الى وصولهم اليها لأنها محصورة في نطاق العاطفة حتى ليمكن ان يقال ان القلب له أفكاره الخاصة وناتج عن تأثره بتجربة حب حقيقية وأشار في حديثه الى ان مصدر شعره هو العاطفة ( وليس أكثر شعري هذا بين الطرس والمداد الا مدامع ذرفتها وزفرات صعدتها وقطعا من الحياة بددتها ثم نظمتها فتوهمت أني استعدتها ) ومن ذلك يظهر ان النزعة الوجدانية عند مطران وليدة عوامل نفسية وعوامل فنية غربية .
موقفه من الطبيعة:
نستطيع ان نقول ان الشاعر امتزج بالطبيعة بفضل ذلك الخيال حتى ليرى في مرآة تلك الطبيعة فكأنه يكون معها أصلا وصورة بحيث يمكن القول بأتننا نستشف في القصيدة ما يصح ان نسميه بالحلول الشعري فالشاعر حال في الطبيعة فرياح البحر صدى لاضطراب خواطره والصخرة الصماء ينتابها موج كموج مكارهه والبحر خفاق الجوانب ضائق كمدا كصدر الشاعر ساعة الامساء وكدرة البرية صاعدة الى عينه من الاحشاء والأفق معتكر قريح الجفن وهو يرى خواطري بعينه كدامية السحاب والدمع يسيل من جفنه مشعشعا بسني الشعاع الغارب والشمس في انحدارها الأخير بين السحاب كأنها آخر دمعة للكون تمتزج بدموع الشاعر لترثيه ومن كل ذلك تتكون المرآة التي يرى فيها الشاعر نفسه وهذه خاصية تتميز بها وجدانية مطران المركبة التي تمتزج بالطبيعة وتبادلها المعاني والأحاسيس وكأن الطبيعة عنده كائن حي يتمتع بكافة خصائص البشر من خوالج وأحاسيس وهو في الظاهرة أشبه بالشاعر الفرنسي يول كلوديل اذ يقول اني أعرف هذه الطبيعة وتعرفني ولم يبقى لدي فيها شيء خفي فهي تخفق في كل نبضة من نبضات قلبي او أشبه بيودلير القائل ان الأشياء تفكر من خلالي كما أفكر من خلالها .
ان من يتتبع شعر خليل مطران يلاحظ ان الطبيعة كائن حي يتكلم ويوحي والأنهار أرواح تنحصر وتتألم والقمر انسان يحب ويعشق ويقبل ويدبر وهذه النزعة في شعر خليل مطران نزعة رومانسية غربية.
ولقد وفق مطران في هذا المزج بما وهب من دقة الحس وبعد الخيال وسرعو التأثر وكانت نظراته الى الطبيعة من هذا الدرب الحي المتموج المتحرك المتدفق بالشعور ولعل سر اهتمام مطران بالطبيعة لا يرجع الى أنها ظاهرة مادية محسوسة أمامنا ملموسة بأيدينا فحسب ولكن الطبيعة هي مجلي المشاعر الانسانية وما من جادت في الطبيعة الا ويقابله حادث في أنفسنا وذواتنا والطبيعة عند مطران معرض واسع من معارض الحب والغزل وفيها مشاركة يحس فيها الانسان انه يجلس الى شخص آخر يناجيه ويشاركه فتزول عنه الوحدة التي يكابدها وتذهب عنه الوحشة التي يعانيها .
ثالثا : النزعة الفكرية في القصيدة
برغم طغيان النزعة الوجدانية عند الشاعر فانه لم يمنعه ذلك لأن يتفلسف والشعر ان خلا من الفكرة عد لهوا واسفافا ولم يخل الشاعر الكلاسيكي من فكرة اختلفت وضوحا وابهاما وجمالا وقبحا على ممر العصور والرومانسيون كانوا يحدثون لخيال الجامع بحدود العقل والشعر الغنائي يفيض من الفكر فهو شعر كوني كالعالم ويعبر عن جميع العواطف حيال الطبيعة وجميع المشاعر النامية ونراه من خيال في القصيدة يدل على نزعة عقلية واعية حتى اننا نراه يتصور المواقف والأحداث والشخصيات ثم ينفعل بما صور ولكنه لا يترك لخياله ولا لعاطفته العنان مطلقا بل يخضعها لعقله وتفكيره فالشاعر كما نرى متفرد بعنائه متفرد بكآبته متفرد بصبابته والمرض كما نعلم يضعف الارادة والتفكير والمقومة ولا يستطيع الانسان معه غير البكاء وارسال الزفرات حيث يفلت زمام النفس وتنطلق العاطفة حزينة قائمة ومع ذلك لم يغير شيئا من طبيعة مطران العقلية كما لاحظ الدكتور مندور ولعل العبرات التي استوحاها الشاعر من مشاهده لغروب تكاد تتحول بالشاعر الى عالم الفلسفة اذا اراد ان يشعر فتفلسف.
ابعا : الشكل الفني
القصيدة تكون وحدة عضوية موضوعها المساء فهي وان كانت شعرا غنائيا فان الوحدة الفكرية الواضحة فيها حتى ليصعب علينا ان نقدم أبياتا ونؤخر أخرى دون ان يختل المعنى ولموضوعية مطران والمذهب الغربي الذي تأثر به أثره في محاولة جعل قصائده ذات وحدة عضوية ولذلك فانه أول من دعا الى الوحدة العضوية في القصيدة وان أنكر عليه العقاد ذلك كما كان واعيا بمعنى الوحدة العضوية في القصيدة.
استعمل مطران عنصر الخيال حتى ان سر إعجابنا بهذه القصيدة يعود الى هذا الخيال لأن طبيعة مطران تستند الى الخيال أكثر مما تستند إلى الإحساس المباشر فالخيال هو الذي يثير عاطفته في قصائده القصصية والدرامية وقد أشار الشاعر في مقدمة ديوانه الى ان شعره يعتمد على الخيال لأنه ينطلق به الى عالم الرؤى والأحلام والخيال أنواع فمنه البياني والتفسيري أي الذي يوضح صورا بصور أخرى مثل ما نجد في البحر حين أصبح صورة لاضطراب صدر الشاعر وضيقه في القصيدة.
ووصفه للغروب يعتبر من الخيال الابتكاري للشاعر لم يسبق اليه وهو في كل ذلك يعتمد التشخيص والتجسيم أي يوضح الصور المعنوية بالصور المادية حتى يضع القارىء اما الأشياء التي يرمي اليها واضحة وشعر مطران حافل بكثير من الصور الحركية والبصرية والسمعية وغرها مما يثير الاعجاب وبعث على التقديم والاكبار وينم عن سجية موهوبة وطبع مصقول وهو في ذلك أشبه بالشاعر الفرنسي ( فيكتور هيجو ) فلم تكن الصورة في شعر هيجو مسرودة على سبيل الزينة او التأنق انما كانت تفصح عن طبعه فلا يستطيع ان يقاومها وساعدته ثقافته الأجنبية على تطعيم الشعر العربي بكثير من الصور الحية المستمدة من شعراء الغرب فأحاط القارىء بجو ممتع جديد لم يألفه عند غيره من شعراء العربية .
امتازت قصيدة مطران باستعمال الكلمات المجازية في كثير من الاحيان مما أضفى على أسلوبه وقوة وروعة كما استغل مطران النغمة الموسيقية للألفاظ الى أبعد حد مثل المدرسة الرمزية التي كان من أعلامها : رامبو,و فرلين ,و ملارميه .
وقد حرس مطران على النغمة الموسيقية في هذه القصيدة وفي أغلب شعره تأثرا بالتيارات الفنية الغربية حتى بدت بعض أابياته أشبه بالسلم الموسيقي المنتظم وتكون الحروف المتشابهة نغما رخيما يطرب الآذان والقلوب تأمل قوله :
والدمع من عيني يسيل مشعشعا ** بسني الشعاع الغارب المترائي
اجتمعت السين في ( يسيل ) مع السين في ( السني ) والشين في : ( مشعشعا ) والعين في نفس الكلمة مع العين في الشعاع والنون في جفني مع النون في سني فأحدث هذا التكرار الموسيقي نغما عذبا جميلا يتصاعد من البيت عند القائه.
رابعا : تحديد مكانة مطران :
يقف مطران موقفا وسطا بين مدرسة الانبعاث ( البارودي ) وبين مدرسة الجيل الجديدة العقاد فصياغته تتسم بالجزالة والمحافظة على أصول اللغة فيقترب بذلك من هذه الناحية من المدرسة الأولى اما حفاظه على وحدة القصيدة وتعبيره عن روح العصر فيكاد يحادي المدرسة الثانية وان أنكر ذلك العقاد عليه ومهما يكن فان مطران كان شاعرا كبيرا وازن في شعره بين القديم والحديث اما القديم فمن التراث والصياغة الشعرية اما الحديث فمن الغرب وثقافته ومن المدرسة الرومانسية وهو مجدد في بناء القصيدة وبنيتها .
ولتحديد مكانة مطران تنقل ما كتبه طه حسين يوم وفاة مطران : كنت أسمع شعره وشعر حافظ وشوقي فأوثر شعر مطران في وجه حافظ وشوقي لا أختلف الا في ذيباجة التي كنت أراها مقصرة عن معانيه بعض التقصير وكان حافظ وشوقي يسمعان وكنت أزعم لهما ان مطران من المحدثين كأبي تمام في الأقدمين وأنهما وغيرهما من الشعراء يعيشون حول مطران كما كان شعراء العراق والشام يعيشون حول أبي تمام .
ان هذه الكلمة رغم ما فيها من مغالاة فهي حقيقة ذلك ان ذيباجة مطران قاصرة عن معانيه ومطران في معانيه الفنية وخواطره وأفكاره المتسلسلة والمطردة وخياله المتسع يفضل حافظا وشوقيا ولكن بذيباجته وطاقته الفنية يقع دونهما من غير شك ولعل كلمة العقاد تفصل في هذا الخلاف : حافظ أقرب الثلاثة الى السلف وأجمعهم لهوى الصناعة القديمة فيه جزالة الكلمة وزينة البيت وشوقي هو أملكهم لعنان قلمه وأكثرهم تغرافاً في أغراضه ومطران أقربهم الى اساليب الغرب واقلهم خسارة بترجمة شعره الى اللغات الأروربية.
ايليا أبو ماضي
( 1889 – 1957 )
1- حياته :
أحد الكبار من شعراء لبنان في المهجر الأميركي , ومن أعلام الرابطة القلمية التي تزعمها جبران .
ولد ايليا أبو ماضي في المحيدثة من قرى المتن بجبل لبنان سنة 1889 وبعد المام أولي بمادىء القراءة والكتابة قصد مدينة الاسكندرية وهو في الحادية عشرة من عمره فكان يعمل نهارا ويتابع التحصيل ليلا
في العام 1912 م هاجر الى ولاية أوهايو الأميركية حيث قضى أربع سنوات في مدينة سنستاني مارس خلالها التجارة والنشاط الأدبي في العام 1916 م ترك أوهايو منتقلا الى نيويورك حيث راح يحرر في بعض الصحف العربية من مثل جريدة الفتاة ومرآة الغرب وفي نيويورك التقى جبران ونعيمة وعريضة وأسهم واياهم في تأسيس الرابطة القلمية
عام 1929 م أنشأ أبو ماضي "السمير" الصحيفة النصف الشهرية ثم حولها سنة 1936 الى جريدة يومية جامعة .
عاد الى لبنان سنة 1948 ومثل المهجريين في مؤتمر اليونسكو فأحاطه لبنان الرسمي والشعبي بالحفاوة والتكريم ومنح وسامي الاستحقاق والأرز توفي في عام 1957 م
آثاره : أصدر ايليا أبو ماضي عددا من الدواوين الشعرية كان أولها في مصر سنة 1911 م بعنوان تذكار الماضي وتلاه في نيويورك ديوان ايليا أبو ماضي سنة 1916 م ثم الجداول 1927 م والخمائل 1940 م وفي العام 1960 م جمعت قصائده المتناثرة في الصحف والمجلات لتنشر في ديوان حمل عنوان تبر وتراب.
1 - حول النص:
أ– مناسبته : الطين ؛إحدى قصائد ديوان الجداول نشره أبو ماضي في نيويورك عام 1927 م مصدرا بمقدمة لميخائيل نعيمة.
وفي هذا الديوان نقع على عدد من قصادئه الأكثر دلالة على شخصيته الأدبية وتأملاته في الوجود الانساني ومن أبرزها : الطين والطلاسم
ب : نوعه : تأملي اجتماعي
الطيــــــن
نسي الطين ساعة , أنه طيـن حقير فصال تيها وعربـــد (1)
وكسا الخز جسمه فتباهــى وحوى المال كيسه , فتمــرد (2)
يا أخي , لا تمل بوجهك عني ما أنا فحمة ولا أنت فــرقـد (3)
أنت لم تصنع الحرير الــذي تلبس, واللؤلؤ الذي تتقــلــد (4)
أنت ٍلا تأكل النضار اذا جعت ولا تشرب الجمان المنــضـد (5)
أنت في البردة الموشاة مثلـي في كسائي الرديم , تشقى وتسعد (6) ***
لك في عالم النهار أمــانـي ورؤى , والظلام فوقـك ممتــد
أاماني كلها مــن تــراب وأمانيك كلها مــن عسجـــد (7)
وأمانـي كلـــها للتلاشــي وأمانيك للخــلود المــؤكــد ؟
لا , فهذي تأتـي وتمضــي كذويـها . واي شــيء يؤبــد (8)
أيها المزدهي . اذا مسك السقم ألا تشتـــكي ألا تــتنهـــد (9)
واذا راعك الحبيب بهجــر ودعتــك الذكرى , ألا تتوجــد (10)
أدموعي خل ودمعك شهــد وبكائـــي ذل, ونوحــك سؤدد (11)
وابتسامي السراب لا ري فيه وابتسامتك اللالـــي الخـــرد (12)
فلك واحــد يظل كليـنــا حار طرفي به , وطرفـك أرمــد (13)
قــمر واحد يطل علينــا وعلى الكوخ والجـــدار المشـيد
أنت مثلي من الثرى واليــه فلماذا يا صاحبي, التيه والصـــد (14)
***
ألك القصر دونه الحرس الشاكي ومن حوله الجدار المشيــد
فامنع الليــل ان يمد رواقــا فوقه والضباب ان يتلبـــد (1)
ألك الروضة الجميلة . فيـــها الماء والطير والأزاهر والند (2)
فازجر الريح ان تهز وتلــوي شجر الروض انه يتـــأود (3)
والجم الماء في الغدير ومــره لا يصفق الا وأنت بمشهــد
ان طير الأراك ليس يبالـــي أنت أصغيت أم أنا ان غـرد (4)
والأزاهير ليس تسخر من فـق ـري ولا فيك للغني تتــودد
ألك النهر ؟ انه للنسيم اـــلر طب درب, وللعصافير مورد (5)
وهو للشهب تستحــم بـــه في الصيف ليلا كأنها تتبـرد (6)
ألك الحقل ؟ هذه النحـل تجـ ـني الشهد من زهره ولا تتردد ؟
لو ملكت الحقول في الأرض طرا لم تكن من فراشة الحقل أسعد (7)
أجميل؟ ما أنت أبهى من الــو ردة ذات الشذا ولا أنت أجـود
أيها الطين لست أنقى وأسمى من تراب تدوس او تتوسد (8)
لا يكن للخصام قلبك مـأوى ان قلبي للحب أصبح معبد (9)
أنا أولى بالحب منك وأحرى من كساء يبلى ومال ينفذ (10)
دراسة وتحليل.
هذا النص من باب التأمل الفكري والنقد الاجتماعي والتأمل حالة سامية يترجح فيها الشاعر بين الوعي العقلاني واللاوعي الخيالي حيث تعبر الأفكار عنده في مجاز الخيال والعواطف فتتلطف .
اما النقد الاجتماعي فهو النظر الى المجتمع بدقة ملاحظة ودرس عميق لقضايا الانسان العامة والتعبير عن الموقف منها منطقيا حينا و وجدنيا حينا آخر وبالاثنين معا وكل ذلك من أجل الاصلاح بمكافحة النشر ومناصرة الخير.
فكرة النص الرئيسية هي رفض التكبر والدعوة الى المساواة بين الناس ويقسم النص الى الأقسام الآتية : القسم الأول : ( 1 – 7 ) , وفيه يدعو الشاعر غنيا بماله وممتلكاته الى عدم التكبر لأنه بحاجة الى الفقير الذي يخدمه ويشقى مثله ويفرح ومثله أيضا يحلم ويتمنى القسم الثاني ( 8 – 10 ) يرى فيه الشاعران أماني الفقير وأماني الغني سواء لأنها ذاهبة في النهاية الى الفناء وفي القسم الثالث ( 11 – 7 ) يعرض حالات التساوي بينه وبين الغني في المرض والألم والشوق ويقدم له أمثلة على المساواة من خلال الطبيعة ففضاء واحد يظلل كليهما وقمر واحد يطل عليهما وكلاهما من التراب واليه يعود وفي القسم الرابع ( 18 -19 ) يبين الشاعر عجز الغني أمام قدرة الطبيعة فالحراس المسلحون لا يقدرون على منع الليل ان يغمر القصر بسواده كذلك لا يستطيعون منع الضباب من ان يتراكم فوقه وفي القسم الخامس ( 20 – 29 ) يقنع الشاعر الغني بأن الملك نسبي فالروضة الجميلة والنهر والحقل ليست ملك الغني وحده و إنما هي أيضا للطير والريح والفراش وفي القسم السادس ( 32 – 34 ) يستنتج الشاعر ان الإنسان الذي من تراب وماء ليس أنقى ولا أسمى من التراب الذي يدرسه وينصح الغني بألا يحمل البغض في قلبه بل المحبة مذكرا اياه بأن الانسان أولى من الثياب والمال بمحبة أخيه الإنسان.
* تركيز على المساواة :
الشعراء المرهفون سباقون الى الأفكار ذات النزعة الانسانية السامية التي تسعى الى خدمة الانسان ونصرة الحق الانساني وأبو ماضي في هذه القصيدة ولا سيما الشطر المتعلق منها بالمساواة سبق ما نصت عليه شرعة حقوق الانسان التي من مبادئها يولد جميع الناس أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق وقد وهبوا عقلا وضميرا وعليهم ان يعاملوا بعضهم بعضا بروح الاخاء .
ولئن افتتح قصيدته " الطين " بالدعوة الى المساواة التي استمد أصولها من الحقائق المطلقة فلكونه شاعرا مرهفا ولا ينفصل حسه انساني جوهرا عن أخيه الانسان لذا راح يرمز بالطين الى الانسان المزدهي بما يملكه من مال وهو من بقوله : << يا أخي >> عله يذكره بما بينهما من صلات قربى ووحدة مصير مقدما اليه البراهين المنطقية الدامغة على جوهر المساواة بين البشر عله يقنعه بأمثلة من الحياة والطبيعة واضحة الدلالة على المساواة
* أفكار من وحيى الحياة :
يرى أبو ماضي ان الغني المتباهي بثيابه وحليه مدين للفقير الذي صنعها وهو مهما بلغ من الترف يبقى كهذا الفقير متقلبا بين السعادة والشقاء يحلم بالأماني التي بمثلها يحلم الفقير فأماني الغني ليست من ذهب ثمين فيما أماني الفقير من تراب زهيد وأمانيه ليست للبقاء وأماني الفقير للفناء وهو كالفقير يتألم في حال المرض وفي حال الشوق الى الحبيبة ان فارقته هذه الحبيبة وهما يتساويان في النوح والبكاء وفي البسمة والهناء يظلهما فضاء واحد تحار به العقول ويشرق عليهما قمر واحد يضيء القصر والكوخ على السواء ويذكره تكرارا بأن كليهما من تراب فلماذا التباهي والمنع و الإعراض؟.
هذه الأفكار كلها خلقية تعود بطبيعتها الى السمو المتأصل في جوهر الشاعر الذي يستوحي أفكاره من حياة علوية خالدة هي أصل الكمال الذي تنشده البشرية وتتوق ان تندمج فيه كل روح سامية ومن نبعه العذب تستقي.
* أفكار من وحي الطبيعة :
وتتسع ذات اللوحات السحرية مسرحا لخيال الشاعر يستلهم منها على هواه ما يساند فكرة المساواة لديه وما يطبع صورا عن هذه الفكرة من خيال القارىء وحتى في خيال هذا الإنسان المتعالي على أخيه الإنسان عله يعود الى الصواب ويقلع عن تعاليه المزور فحراس قصر الغني لن يستطيعوا ان يردوا عن الليل والضباب والحقيقة الجميلة التي يدعي الغني امتلاكها في ملعب للريح تعصف فيها الشجر ومسح للغدير الجاري مصفقا بفرح ومنبر للطير المغرد ومنبت للأزهار التي تهب عطرها لجميع الكائنات كل هذا حاصل سواء شاء الغني او أبى ويبلغ الشاعر ذروة في التأمل والنقد الاجتماعي حين يقول:
والأزاهير ليست تسخر من فقري ** ولا فيك للغني تتودد
وتجود الطبيعة بلوحاتها على الشاعر فيختار منها النهر والحقل ويذكر الغني بأن النهر لي ملكه وحده وانما فيه للنسيم والأنجم والطيور نصيب وان الحقل للنحل تجني منه العسل و للفراش تلهوا فيه بفرح وللزهور بعطرها تجود وقول أبي ماضي في ذلك يشبه ما جاء في الانجيل أنظروا طيور السماء كيف لا تزرع ولا تحصد ولا تحزن وأبوكم السماوي يرزقها اما أنتم أفضل منها كثيرا
أما قوله مخاطبا الغني :
أجميل ؟ ما أنت أبهى من الوردة ** ذات الشذا ولا أنت أجود
فهو أيضا صدى لقول يسوع ولماذا يهمكم اللباس ؟ تأملوا زنابق الحقل كيف تنمو لا تغزل ولا تتعب أقول لكم ولا سليمان في كل مجده ليس مثل واحدة منها .
الوحدة وتماسك الأفكار :
لوحدة موضوع القصيدة أثر بارز في وحدتها وترابط أفكارها التي تتابعت برشاقة وانسجام متوازنة مع الصور المختارة والعواطف النبيلة لتكون كلا شعريا يؤدي الى نتيجة منطقية تؤكد أمرا أساسيا ركز عليه الشاعر هو الدعوة الى المساواة ورفض البعض والتكبر الفارغ ومحبة الانسان لأخيه الانسان وهذه كلها من القضايا الاجتماعية التي عالجها مفكرون وشعراء ذوو رسالة انسانية في عصر النهضة الحديثة
بساطة الأسلوب :
يعتمد أبو ماضي البساطة السهولة في الأداء لأنه بنى ذاته الشاعرة على هواه ولم يفرض على نفسه ولا فرضت عليه بيئة المهجر تشددا في الأسلوب الشعري ولا منهجا لغويا صعب المنال فمال الى المعنى أكثر مما مال الى المبنى وهو الصحافي الذي اعتاد ان يوجه كلامه الى الجماهير لا الى النخبة المصطفاة من القراء فحسب لذلك قال في مطلع ديوانه الجداول
لست مني ان حسبت ** الشعر ألفاظا ووزنا
وفي قصيدة الطين هذه سلك السبيل السهل فكان عفوي الصياغة مطبوع العبارة ألفاظه تشف عن معانيها بيسر فلا يجهد القارىء نفسه ليفهمها لقد بدأ القصيدة ببيتين قصصيين يجذبان الانتباه عارضا فيهما الفكرة الأساسية ثم انتقل الى الأسلوب الخطابي وانطلق فيه حتى آخر القصيدة التي غلب فيها الكلام الخيري اما الكلام الانشائي فقد جاء تعبيرا عن المواقف الانفعالية حيث تطغى العواطف وتتصاعد وأبرز ما ورد منه النداء : يا أخي أيها المزدهي ياصاحبي أيها الطين والاستفهام أأماني كلها من تراب ؟ وأماني كلها للتلاشي ألك القصر ؟ ألك الروضة ؟ ألك النهر ؟ والأمر فامنع الليل فازجر الريح والجم الماء ومره والنهي لا تمل لا يصفق لا يكن للخصام
ومما يلفت انتباه القارىء كثرة الموازنة بين الجمل كما في معظم الأبيات وطغيان الطباق في الأبيات : 3 – 6 – 10 – 13 . والطباق طبيعي في هذه القصيدة فرضته طبيعة التضاد في موقف الغني من الفقير .
والقصيدة رغم سهولتها وعفويتها غنية بالصور البيانية التي أسهمت في ابراز المعنى بحلة جديدة وفي اضفاء جو خيالي عليها وفي هذه الصور الكنايات التي تومىء ايماء لطيفا الى المعنة ومنها الطين الذي يرمز الى الانسان وكسا الخز جسمه كناية عن الترف أدموعي خل كناية عن الحموضة والمرارة وجمعك شهد كناية عن الحلاوة وكذلك التشابيه التي تزيد المعنى وضوحا وتكسبه تأكيدا فالتشابه من ثمار الخيال وهي ذات أثر في ارساخ المعنى بالصور ومن هذه التشابيه ما أنا فحمة ولا أنت فرقد ... انت في البردة الموشاة مثلي في كسائي الرديم ... ابتسامي السراب وابتسامتك اللالي >> اما الاستعارات فمن ألطفها : والأزاهير ليس تسخر من فقري ...>> التي أضفى فيها الشاعر على الأزاهير من الصفات البشرية السخرية والتودد ليعلم هذا المتكبر درسا في الخلقية وحسن التصرف الاجتماعي ومن أدقها الاستعارة في معرض كلامه على النهر وهو للشهب تستحم به في الصيف ...>> حيث أجاد استعارة الاستحمام و الابتراد للشُّهُبِ عاريةً في ماء النهر .
إبراهيـــم ناجـــي
(1899-1953 م)
1/- حياتــه :
شاعر محب للعلم و طبيب ولغوي، مجيد للغات ثلاث هي الإنكليزية والفرنسية والألمانية. مارس الطب لكنه ظل ميالا إلى الأدب شعرا ونثرا. تأثر بشعراء الرومانسية الإنكليز شيلي، ووردزورث، وكيتس. كان عضوا مبرزا في حركة أيولو الشعرية (1932م) إلى جانب أحمد زكي أبو شادي، وعلي محمود طه، وزكي مبارك، وصالح جودت. توفى، في عيادته وهو يدني أذنه من مريض ليسمع دقات قلبه.
له ديوانان من الشعر هما " وراء الغمام " و" ليالي القاهرة "، ونشرت له " دار المعارف " بمصر بعد وفاته ديوانا ثالثا بعنوان " الطائر الجريح ".
الأطـــلال :
" الأطلال قصيدة حب عاثر، بين حبيبين التقيا وتحابا، ثم انتهت القصة بأن صارت هي أطلال جسد، وصار هو أطلال روح. وهذه الملحمة تسجل وقائعها كما حدثت ".
والقصيدة في الأصل جاوزت التسعين بيتا اقتطفنا منها ما رأيناه ملائما لموضوعنا.
غنت كوكب الشرق السيدة أم كلثوم مقاطع من المطولة فسمعها الملايين، وطارت للقصيدة شهرة واسعة.
[1]- يا فؤادي رحم الله الهــوى كـان صرحـا من خيال فهوى
[2]- إسقني وأشرب على أطلالـه وأرو عني طالما الدّمـع روى
[3]- كيف ذاك الحبّ أمسى خيرا وحديثـا مـن أحاديـث الجوى
[4]- وبساطا من ندامـى حلــم هم تواروا أبـدا، وهو انطـوى
[5]- لست أنسـاك، وقـد أغريتني بفـم عـذب المنـاداة رقيــق
[6]- ويـد تمتـد نحـوي كيــد مـن خلال المـوج مدّت لغريق
[7]- آه، يـا قبلــة أقدامـي إذا شكت الأقـدام أشـواك الطّريق
[8]- وبريقا يظمـأ السّــاري به أين في عينيك ذيـّا البريــق ؟
[9]- أين من عيني حبيب ســاحر فيـه نبـل وجــلال وحيـاء ؟
[10]- واثق الخطـوة يمشي ملكـا ظالم الحسن شهـيّ الكبريــاء
[11]- عبق السّحـر كأنفاس الرّبى ساهم الطّرف كأحلام المسـاء
[12]- مشرق الطّلعـة، في منطقـة لغـة النـور وتعبيـر السّماء
******
[13]- أيـن منّـي مجلـس أنت به فتنـة تمّـت سنـاء وسنــى
[14]- وأنــا حـبّ وقلب ودم... وفـراش حائــر منـك دنــا
[15]- ومن الشّوق رسـول بيننــا ونديــم قــدّم الكـأس لنــا
[16]- وسقانــا فانتفضنا لحظــة لغبـــار آدمـــي لفّنـــا
[17]- يــا حبيبـا زرت يوما أيكه طائـر الشّـوق أغنـي ألمـي
[18]- لك إبطــاء المـدل المنعـم وتجنــي القـادر المحتكــم
[19]- وحنيني لك يكوي أعظمــي والثّوانــي جمرات في دمــي
[20]- وأنا مرتقب في موضعــي مرهــف السّمــع لوقع القدم
******
[21]- أعطني حريتـي، أطلق يدي إنّني أعيت ما استبقيت شــيء
[22]- آه من قيدك أدمـى معصمي لم أبقيه، ومـا أبقى علـــي ؟
[23]- ما احتفاظي بعهود لم تصنها وإلام الأســر، والدّنيـا لدي ؟
[24]- هـا أنا جفّت دموعـي عنها إنّـها قبــلك لم تبذل لحـــي
******
[25]- قد رأيت الكون قبرا ضيقــا خيّــم اليأس عليه والسّكــوت
[26]- ورأت عيني أكاذيب الهـوى واهيات كخيـوط العنكبــوت
[27]- كنـت ترثي لي، وتدري ألمي لو رثى للدّمـع تمثـال صمـوت
[28]- عنـد أقدامـك دنيـا تنتهـي وعلــى بابـك آمـال تمـوت
******
[29]- يا حبيبـي كـلّ شيء بقضاء مـا بأيديـنا خلقــنا غربــاء
[30]- ربـــّما تجمعنا أقدارنــا ذات يــوم بعدمــا عزّ اللقاء
[31]- فـإذا أنظـر خــل خلــة وتـلاقينــا لقـاء الغربــاء
[32]- ومضـى كـل إلـى غايتـه لا تقل شئنا ! وقل لي الحظّ شاء
دراسة وتحليل:
الرومنسيـة والآنا الطاغيـة :
القصيدة وجدانية رومنسية، تحتل فيها " أنا " الشاعر الفسحة الأرحب. يخاطب فؤاده مترحما على الحب الذي تمثله بناءا عاليا، وقد سقط، وأصبح أطلالا يشرب الخمر عليها عله ينسى همومه. ودموعه مدرارة تروي كيف زال ذاك الحب، وأصبح حرقة في القلب، وذكرى لمجلس خمر رحل ندماؤه، واختفوا عن العيون.
شريـط الذكريــات :
وتظل " الأنا " ظاهرة حين يتكلم الشاعر عن حبيبته التي كانت تغريه مناجاة ثغرها العذب، وحين يتمثل نفسه غارقا في بحر هائج، وهي تمد إليه يدها لتنقذه. ويسترسل في مناجاتها، مشتاقا إلى بريق عينيها.
سحـر الحبيبـة :
وتنعكس على هذه " الأنا " الذكريات، فتنمو لدى الشاعر صورة الحبيبة خلقا وأخلاقا؛ فإذا بها حبيبة ساحرة، نبيلة، عظيمة، ذات حياء وهي ثابتة الخطوة تسري ملكا، جمالها جائر، كبرياؤها مشتهاة، شذية كأنفاس التلال، شاردة اللحظ كأحلام العشية، ذات وجه مشرق.
ولا تعبر ذكرى إلا لتلحق بها ثانية، فيتخيل الشاعر مجلسا كانت الحبيبة فيه ذات جمال رائع السمو والإشعاع، والشاعر فراش حائر يسعى نحوها رغم أنها النار التي فيها حتفه.
ثم يتصور بيت حبيبته بين أشجار كثيفة ملتفة، فيزورها متألما، مشتاقا إليها، فيراها واثقة بنفسها، متحكمة به قادرة عليه، فيزداد حنينا واحتراقا، وكأن جمرة تحرق دمه في كل ثانية تمر.
خاتمـة يائســة :
ويكاد الشاعر يختنق من أسر حبيبته له، فيهتف طالبا حريته، منعتقا من قيوده التي أدمت يديه، تاركا العهود التي لم تحفظها، متوقفا عن سكب الدموع. وتشتد خيبته الرومنسية، ويسيطر عليه اليأس، فيرى الكون قبرا ضيقا يخيم عليه سكوت حزين، ويتصور أكاذيب الحب واهية كنسج العنكبوت. ويتحسر لعدم اهتمام الحبيبة به، وهو الذي أحبها واعتبر منتهى الدنيا عند قدميها، فإذا بآماله تنطرح ميتة على بابها.
ويحاول الشاعر التخفيف عن نفسه وعن الحبيبة، فينسب خيبته إلى القضاء والقدر، وإلى الحظ العاثر، فجذوة الحب إلى انطفاء، السعادة لا تدوم، والإنسان لا يقوى، وما كتب قد تمّ.
العواطف الرومنسيـة :
يلامس الشعر العربي الوجداني في بعض قصائده، الرومنسية قبل عهده بها وافدة إليه من أوروبا في مطلع القرن العشرين. وهذه القصيدة الوجدانية بالذات، تحقق بعضا من عناصر الرومنسية، وأبرزها العواطف الرقراقة الموزعة بين حزينة وفرحة. ولئن كان وشاح السواد فيها غالبا على البياض فلأن موضوع القصيدة هو الخيبة والإنهيار؛ فمنذ مطلعها يسأل الشاعر الله رحمة للحب الذي سقط صرحه الخيالي، ثم يروح ينادم فؤاده، شاربا خمر الألم على أطلاله، ساكبا دموعا تذيبها حرقة الحب.
أثـر الذكريــات :
وتحيي فيه الذكريات عاطفة فرحة حين يتذكر مناجاة الحبيبة الغنجة والمغرية له، وتنسم في فؤاده نسمات لطيفة من العواطف، فيستعيد رسم الحبيبة ساحرة، نبيلة ذات جلال وخفر.
ويأسره جمالها القاهر وكبرياؤها المستطابة، وأنفاسها العطرة، وكلامها العذب، فهي نزهة لحواسه، وسكرة لروحه، وهو أبدا معجب بها.
وتستبد به الحسرة لأن سحر حبيبته نار، وهو فراش متهالك على النار التي تحرقه، ومما يزيده ألما أن الحبيبة لا مبالية بشوقه إليها، واحتراقه بحنينه، وإنما هي واثقة بنفسها، متعالية، ظالمة.
وأخيرا، يشعر أن الحب قد أسره، فآلمه وأدماه، بعدما بذل للحبيبة كل ما يملك، ولم تقبل به حبيبا. فيهتف طالبا حريته، مهملا عهوده التي لم تحفظها، معللا نفسه باتساع الدنيا، وبالبحث عن حب آخر، وأمل جديد.
التشـاؤم والخيبــة :
ويحاصره التشاؤم فتضيق عليه الآفاق، ويغدو الكون الفسيح قبرا ضيقا له. وتذوب أكاذيب الحب، فيتحسر لأنه يرى الدنيا تنتهي عند قدمي حبيبته، وعلى بابها تنتحر آماله.
وتأبى عليه كبرياؤه أن يعترف بالحقيقة، فينسب خيبته إلى الحظ والقدر لا إلى إخفاقه في الحب، ورفض الحبيبة له.
هكذا ظلت العواطف مستمرة من مطلع القصيدة حتى الختام مما أكسب الشعر الرقة في الأسلوب، والقدرة على التأثير.
صور حسية ذات دلالات إيحائيــة :
يواكب الخيال العاطفة على اختلاف ألوانها طوال القصيدة، فتارة يجسد الحب المعنوي بشكل حسي، فيقربه من الأفهام، ويجعله في متناول الجميع، فإذا به كبناء يسقط، وتبقى منه أطلال يشرب الشاعر خمرا عليها [1، 2]، فيما دموعه تروي قصة شقائه، ويذكر كيف زال بعد الحب مجلس الندماء وتفرق أصحابه واختفوا [4].
وطورا يصور الشاعر ثغر الحبيبة العذب تصويرا حسيا. ويدها الممتدة إليه تنفذ من غرق محتم [5، 6]، أو يتمثل بريق عينيها، وخطواتها الواثقة، ونقلتها الهادئة، وجمالها الجائر، وطرفها الشارد كرؤى العشية، وطلعتها المشرقة. كما يجسدها نارا محرقة، وهو الفراش الحائر الحائم على النار [9، 13]. وتعاوده صورة إدلالها عليه وتحكمها به، فيما حنينه إليها يحرق عظامه، والهنيهات التي يحياها، معذبا، جمرات تلهب دمه. ورغم ذلك تراه مرتقبا إياها، مرهفا سمعه لوقع خطاها [17، 20].
ومن الصور الحسية المؤثرة والقريبة المتناول، صورة القيد يجرح يدي الشاعر، ويكاد يقضي عليه [21، 22]. وبقدر ما تتأزم العاطفة تسود الصورة، وتحلو لك، وبخاصة حين يجسد الشاعر الكون بشكل قبر ضيق وأخيرا يتصور أكاذيب الحب واهية كنسج العنكبوت لا تثبت أما الحقيقة [25، 26]. وهذه الصور كلها عفوية حية، وذات إيحاء. وهي ترسم مرحلة كاملة لقصة حب عاثر، وخيبة شاعر.
غنائيـة الأسلــوب :
الدكتور ناجي شاعر مطبوع عفوي الأسلوب، وليس شاعرا صناعا يعنى بنحت الكلمة، لذلك جاءت قصيدته سهلة الأداء، عذبة الموسيقى، ذات وزن غنائي رشيق هو بحر " الرمل ". وقد تنوعت فيه القوافي فبعد عن الرتابة، وحقق مبدأ الوحدة مع التنويع.
كذلك تنوع الكلام بين إنشائي : يا فؤادي (نداء) اسقني واشرب... وارو عني... أعطني حرتي... أطلق يدي... لا تقل شئنا... وقل لي (أمر). أين في عينيك... أين من عيني حبيب... أين مني مجلس ؟ (استفهام)، وكلام خبري هو أكثر ما بقي من جمل، ومما زاد القصيدة موسيقى داخلية حروف المد والتنوين وتناغم الحروف.
ألفاظ وتراكيب رومنسيـة :
والقصيدة إجمالا عامرة بمعجم ألفاظ وتراكيب رومنسية منها : فؤادي، الهوى، صرحا من خيال، أحاديث الجوى، ندامى حلم، بفم عذب المناجاة، قبلة أقدامي، أشواك الطريق، أين من عيني حبيب ساحر، عبق السحر، ساهم الطرف، مشرق الطلعة، لغة النور، فراش حائر، طائر الشوق، أغني ألمي، ومن الشوق رسول، وحنيني لك يكوي أعظمي.
وهي مرصّعة بصور بيانية جاءت عفو الخاطر، منها التشبيه في الكلام الشاعر على الحب : كان صرحا، فقد جسّد الحب، وشبّهه من غير أداة تشبيه، ببناء عال، وشبه يد الحبيبة تمتد نحوه بيد تمتد بين الأمواج لتنجد غريقا. ثم شبه مشية حبيبته بمشية ملك، كما شبه رائحة جمالها الطيبة بأنفاس الربى، وألحاظها بأحلام المساء. ومن تشابيهه الدقيقة تشبيه الثواني المؤلمة التي كانت تمر عليه، وهو معذب، بجمرات تلهب دمه أما تمثله الكون قبرا ضيقا عليه فمن التشابيه المؤثرة والمعبرة عن ضيق الحالة التي وصل إليها الشاعر.
وهذه التشابيه كلها مصيبة ودقيقة، وهي توضح المعاني وتجعلها أقرب إلى الفهم والإنطباع. وكذلك الإستعارات التي أضفت على القصيدة جوا خياليا، وكانت ذات نظرة جيدة إلى الأشياء توافق المناخ الذي عاش فيه الشاعر حين نظم قصيدته، فإذا الدمع يروي، والأقدام تشكو، والحسن يظلم، والكبرياء وتشتهي، والنور ذو لغة، والسماء ذات تعبير، والحنين يكوي، والحظ يشاء ".
وساهمت الكنايات بإيماءاتها اللطيفة في بعث جو من الإيجاز البليغ يستحدث فكرة القارئ، ويثير فيه التشويق، ولذة الكشف عن المعنى. ومن هذه الكنايات : " كان صرحا من خيال فهوى ". وقد عانقت فيه الكناية التشبيه... " كيف ذاك الحب أمسى خبرا... يا قبلة أقدامي... أشواك الطريق... ".
لكن القصيدة، على سهولتها وجمال أسلوبها الغنائي، لا تخلو من تعابير نثرية غير غنائية، ومنها : فإنتفضنا لحظة [16]، وأعظمي [19]، في موضعي [20]...
وتبقى القصيدة مثالا للشعر الرومنسي الصافي المتأثر صادقا بالتجربة الغربية السابقة له في هذا المضمار، والمترسم خطاها في غنائية رقية أكسبته ذيوعا وانتشــارا.
تعليقات
تعليق واحد
إرسال تعليق
  1. نقدم لكم عملائنا الكرام افضل شركة تنظيف ومكافحة حشرات بالمنطقة الشرقية والتي من خلالها تستطيعون الحصول علي افضل خدمات التنظيف الشاملة لجميع اركان المنزل فمع شركة المثالية للتنظيف انتم دائما في امان فتعد شركة المثالية للتنظيف بالقطيف افضل شركة متخصصة في تنظيف المنازل والشقق والفلل والمجالس والبيوت والكنب والسجاد والمفروشات بالقطيف وكذلك بجميع مدن ومحافظات المنطقة الشرقية بالمملكة العربية السعودية , تعتمد شركة المثالية للتنظيف بالقطيف علي افضل واحدث اجهزة التنظيف المثالية والتي من خلالها نسنطيع نقديم افضل خدمات التنظيف الشاملة للمنازل والمجالس بافضل جودة ممكنة وبارخص الاسعار المثالية فعندما نبحث عن افضل شركة تنظيف بالمنطقة الشرقيو فنحن بحاجة الي شركة المثالية للتنظيف التي لديها الخبرة الكبيرة والامكانيات الكبيرة والقدرة الهائلة علي خدمة عملائها بالاستعانة بامهر العمالة ذات الخبرة الكبيرة في مجالات التنظيف منذ عشرات السنوات ولم تغفل شركة المثالية للتنظيف فروعها الاخري بل اننا نقدم افضل خدماتنا بالاحساء من خلال شركة المثالية للتنظيف بالاحساء التي تستطيع توفير كافة الامكانيات اللازمة لتنفيز خدمات النظافة الشاملة بالاحساء وكذلك مدن محافظات المنطقة الشرقية فكل هذا تستطيعون الحصول علية من خلال
    شركة المثالية للتنظيف بالاحساء
    كما ان شركة المثالية للتنظيف لم تغفل افضل الخدمات واكثرها اهمية لعملائها وهي خدمة مكافحة الحشرات فلدينا شركة المثالية لمكافحة الحشرات التي تسستطيع تقديم خدمة ابادة الحشرات الطائرة والزاحفة بجميع انواعها باستخدام افضل المبيدات الامنة والنظيفة ذات التاثير القوي والفعال علي الحشرات والتي من خلالها نضمن لعملاء شركة المثالية لمكافحة الحشرات بالاحساء العيش في منزل امن خالي من الحشرات بجميع انواعها فلدينا الخدمات الاتية
    شركة المثالية لمكافحة الحشرات
    شركة المثالية لمكافحة الحشرات بالاحساء
    شركة المثالية لمكافحة الحشرات بالدمام

    ردحذف

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة