U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

الأشواق التائهة " لأبي القاسم الشابي " 26ديسمبر1930 دراسة تحليلية تطبيقية:


في المعاجم أن الشوق و الاشتياق ،نزوع النفس إلى الشيء . و الشوق حركة الهوى ، و هو في كتاب العشق توق تحركه حرقة البعد و هيجان القلب عند تذكر الأحبة و الشوق عذاب و ضنى ما لم تعرف النفس ما اليه تنزع و به تعلق ، فتذهب في البحث كل مذهب قلقةً و نفورا ، ما إن تطأ دربا حتى تغلّق دونها المسالك و تنسد أمام ناظريها الأفاق فتولي كسيرة تراودها الرحلة و يلح عليها عنيف الاضطراب و القلق حتى تنكشف لها الحقيقة .
و الشوق في العنوان أشواقٌ فيشتد النزوع و ينفك المشتاق عن وضعه و زمانه ، حركة في اتجاه المأمول تبحر في مجاهل الزمن السحيق بحثا عن الصورة الضائعة.
و هي أشواق تائهة لا تهتدي برسم و لا تعرف إلى غرضها منفذا ، و إنما هو البحث المرهق المُمَضِّ ، الضارب في كل حدب و صوبٍ عساه يقع على الرغبة فيجليها و على الهوى المكنون فيبينه، و ليس في العنوان إلا الاضطراب و الحرقة.
فالقصيدة مبينة على مقاطع موزعة بشكل يمكن ملاحظتها من خلال تعدد حرف الروي و تنوعه، ففي المقطع الأول جاء حرف الكاف رويا مقيدا مع اختلاف في التوجيه و هو حركة حرف ما قبل الروي . فكانت ضمة في الأبيات الأربعة الأولى و كسرة في البيتين الأخيرين من نفس المقطع و كان حرف الروي على مدار بقية المقاطع دالا و سينا و هاء و لاما و نونا .على الترتيب.
لقد أفاد الشاعر من كل الإمكانات الحركية في العربية لبناء القافية (ضمة ، فتحة ، كسرة) فالقصيدة من هذا الوجه لا يقر لها قرار و لا تلتزم نمطا موحدا في بناء أواخرها ، يباشر فيها الشاعر ضربا من الخروج عن الطرق العادية في كتابة الشعر، و يدفع بها في مسالك شتى ، إما صورة من صور التيه و البحث الدائب عن المستقرِّ، و إما شعور بأن الدفق الشعري أكبر من أن يحتويه روي مفرد و أن تحيط به نغمة رتيبة نمطية، و في هذه الحالة يكون التنويع رديف الثراء و قرينته بحيث جاءت القصيدة قصائد يطابق جمعها بعض ما وعد به عنوانها.
في المقطع الأول يفتتح الشاعر البيت بالنداء و يغلقه بالاستفهام و هي وحدة مقفلة مشحونة بالتوسلو الاستنجاد، و قد استدعى الإدلاج و التيه الشروق، و كان الرحيق مناسبا للظمأ، و غيم الفضاء و لا يشقه إلا البرق إذا أراد السَّاري أن يتبين إلى مسْعاه سبيلا .و لتحديد المنادى " صميم الحياة " في النص عمد الشاعر إلى توظيف علاقات الخلاف و التقابل بين حقلين دلالين يشمل الأول اللازمة المفتاح "صميم الحياة "، الأفق في البيت 2 .
و يشمل الثاني "الوجود" مجردا(بيت8و17) أو مقترنا باسم الإشارة (بيت16) مما يولّد التقابل ،إذ يصبح النداء على هذا النحو مقابلا للتعيين و الإشارة، و يقوم كل من الاسمين خطا فاصلا بين عالمين متقابلين:
عالمَ ٍيعرفه الشاعر ، يشير إليه و يعينه . و عالم لا يحيط به و لا يعرفه إلا من صورة نقيضة ، فتراه يجري وراءه ، يتشبّثُ به ، يناديه ، و يلحّ في النداء ، و لكن لا سبيل إلى دخول مدائنه إلا باللغة و الاختلاف.فالوحدة و الادلاج يؤديان بصفة عادية إلى التّيه ، و الوحدة قرينُ الغرق و الخوف و الغربة ، تجعل البحث عن الحماية و الأمن شيئا طبيعيا ، فالشروق نور و النور هدايةٌ و ذهاب إلى الظلمة ، و النور إلى كل ذلك أنسٌ ، فكان لا بد من كل هذا التبديد حال الضياع التي تعصف بالمتكلم (الشاعر).
و مفهوم الضياع يجسّدُهُ الظمأ الذي استدعى الرحيق، و الرحيق عصارة الشيء و هو هنا في تناغم مع الصميم، ثم إننا إن قارناه بالفؤاد تبين أنه ظمأ مجازي إلى معين الشعر و مورده ليقول الشاعر ما يجيش بكيانه.فالفؤاد و الضمأ و الناي و الغناء كلها منابت التجربة الشعرية و منبعها ،إن حديث الشاعر هنا يتعلق بتجربته الفنية و شعوره العميق بالحاجة إلى الاستزادة من هذه العناصر لتغطية الجدب المحيط بالعالم الذي يتحرك فيه، فهو "مشوق" و متعلَق شوقه " صميم الحياة " و من أغراض الشوق و أعراضه، الذكرى و التلذذ بحديث الوصل قبل الانقطاع و الافتراق، و جاء ترتيب البيت الرابع يفتح المرحلة الموالية إلى النص للصلة المتينة القائمة بين نهاية البيت الرابع (مشوقك)و فتح الباب على الماضي في البيت الخامس.و هكذا كانت نهاية المقطع (1) مجازا إلى المقطع الموالى و خروجا بالقصيدة من زمن الشعر و حاله إلى حديث النشأة الأولى الحنين إلى الأصل قبل ميلاد الشعر و الشاعر بالإبحار في الزمن الماضي في مسار معكوس بحثا عن إطلاقة الشروق و مقاطع النور لترتفع عن الشاعر الحجب و تلاشى العتمة التي تلفه ، هو قتل للزمن المقبل و رفض للحاضر .
في هذا المقطع وظف الشاعر عددا من المظاهر البنيوية و المعنوية لبناء المقابلة ،كالفصل في مستوى الروي بحيث جعل الدال مشفوعا بالكاف الساكنة في البيتين الخامس و السادس على حين أطلقه في البيتين المواليين السابع و الثامن . كما فصل بينهما بعلامة لغوية دالة على العطف و التعاقب و هي "ثم" تشي بالفصل عما سبق بتغيير نوع الجملة في المطلع، فجاءت فعلية تعبيرا عن الحدث الموحي بالتغيُّر و تبدل الحال.و قد أقام الشاعر من جهة أخرى بؤرتين معنويتين متقابلتين في مستوى العنصر الأساسي تقابلا دالا:
فجرُك ≠ الدُّجى
الحلم أوراقٌ بدادٌ
العطر ذابلات الورود
النشوة ضباب
النشيد هول
الورود صمت...
ـــــــــــــ ـــــــــــــــــ
يرفّ يتلاشى ( الفعل الوحيد في الطرف الثاني)
ينهل
يصغي
فالشاعر يبني باللغة مشهد العالم الغائب ، عالم المأتَى الخفي، عالم الشوق و
الحلم، يبحث عنه مخرَجا من العذاب ، عالم الغيبة و الذهول و الانطلاق، عالم الحركة البطيئة الرقيقة كحفيف الأوراق أو ضوء الشذى ، عالم النسيان و التبتُّل و النشوة القصوى ، إنه عالم الشعر ، يصوغه الشاعر بالوصف و شفافية الرؤية و الهواجس الغلبة .
و يأتي "الدجى" يقابل الفجر و تتغير الأحوال و يعقُبُ زمنٌ زمناً، لكن صورة العالم الماضي الجميل تبقى عالقة بالشاعر أو يبقى هو متعلقا بها إلا أن الصورة الثانية تدل على هول الفاجعة " الدجى " فتفصل الشاعر عن عالمه الأول كالطفل يفصل عن أمه في حال الرضاعِ.
فالصورة فيها مقابلة بين قطبين دلاليين متناقضين يشكلان تعاكسا في منحى حياة الشاعر ،ففي القطب الأول نجد الفجر و العطر و الورود، و في القطب الثاني نجد الغيم و الضباب و هول الدجى و صمت الوجود ، ففي حين كانت الصورة الأولى غارقة في النشوة و الفرح و الطمأنينة ،أصبحت في الطرف الثاني قاتمة مغروسة في الخوف و الموت (صمت الوجود ).
تكبر مساحة العالم و تتسع آفاق الحلم و ينقبض الواقع و ينْحسِر في بيت ، فتأتي المقابلة متفاوتة الأطراف يغطي محورها الأول ثلاثة أبيات ( 11،10،9)، على حين يحتوي الثاني بيتا واحدا(12) و التقابل هنا خفي لأنه يقوم على مقابلة الوحدات و المعاني المفردة ، بل هي الصورة تستمِد معناها و فعاليتها بوضعها إزاء صورة أخرى.
فلرسم الطرفين اللذين تتحرك القصيدة فيهما،اضطر في البيت الأخير (12) من المقطع ، إلى اختزال كل الفضاء الشعري السابق بأخباره و أفعاله و مفاعيله و صفاته في كلمة "الأفق" حتى تقابل " صميم الوادي " فالطرفان المحيطان بالمقابلة هما "صميم الحياة" و "صميم الوادي" و ما عدا ذلك فكل المادة اللغوية التي بسطها في الطرف الأول لا نجد ما يقابلها في الطرف الثاني إلا التمييز " ترابا" (12).
و الفعل المرافق له الواصل بين الطرفين "انحدرت" و هو فعل مشحون بكل الإرث الفلسفي و الديني الذي يدور حول بداية الحياة فوق الأرض.
إذن في كل الوحدات – الاخبار - يساوي معنى السمو و الارتفاع ،و كذلك فيها إشارات واضحة إلى العالم السحري الذي يلُفُّ تجربة الشاعر .
فالطرف الأول فضاء (بيت9) لا يحيط به حدٌّ و لا يأتي عليه رسم ، هو عالم الأهازيج و الأناشيد الرقيقة ، أناشيد العبادة و الخشوع و التهجد ، حيث يختلط الغناء برائحة البخور تُشيعُ في الجو نوراً خافتا قلقا لا يستقر ، إيذانا بأن الحياة زائلة واقعة على حدٍّ مسنون، هي أيضا أناشيد الإنسان سارحا في الطبيعة تغمر روحه الراحة و الطمأنينة في عالم سحري يردد خلاله في نشوة لا تعْدِلُها نشوة ، "أغاني الحياة و جمال الكون".هو عالم الشاعر يبنيه بالرؤية و يقُدُّهُ من الضِّياءِ و يسعى إلى إذابته في أبنيتة اللغوية ليُعمِّر به فضاءَ رؤَاهُ.إن حكاية الحياة ، حكاية الشاعر ،و لا يعدو- ما يقوله - أن يكون ترجمة لها و تاريخا ، للتأكيد على كونه شاعرا.، فتلك حياته من قبل و من بعد.
أما الأفعال الصفات فحركة خفيفة تتسربُ في الكون، و تسري في أوصاله عليها آثار النشوة ، وبعض هذه الأفعال يشي بما أخفاه الشاعر في العنوان مثل فعل "عانق" (البيت11 ) في قصيدة مطلعها الأشواق .و بهذا نتبيّن الضنى الذي يدمي أوصال الشاعر ،و نفهم أهمية التاريخ في النص ، إذْ هو حديث عن زمن كان ينعم فيه بوصال من يحبُّ في صورة أثرية عجيبة ، تقوم على استعارتين : استعارة الضياء للحديث عن نفسه ، و استعارة العالم الرحب للحديث عن المحبوبة "ضياء يعانق العالم الرحب " (بيت11 ).فالشوق تائه لا لأنه لا يعرف متعلق شوقه ، فلقد أبرزه هنا حرية و انطلاقا و آثارا علوية متخلصة من شوائب المادة ، و لكنها تائهة إذْ تسعى إلى ما تعرف أن إدراكه صعب و إلى حالات لا يعيشها المرء إلا بخياله .و من ثم يصبح التاريخ ذاته حكاية و ضربا من الوهم و الخرافة .
أما المفاعيل و ما قام مقامها فتُبْرِزُ سعي الشاعر إلى المطلق و الشمول و الانعتاق و التخلص من قيود الوجود ظاهرا و باطنا.
فالفضاء فراغ و انفتاح ، و الضياء نورٌ لا يطوِّقه طوقٌ و لا يحيط به حدٌّ ، إنهما يرسمان صورة العالم بلا قيد و لا عائق ، لا بداية له و لا نهاية ، واقعا في المطلق متقوقِعا في الأبد، هو البديل عن العالم الذي يتحرك فيه الشاعر تلك إذن قصة هذا الشاعر : فجوة عميقة بين ما كان و ما هو كائن ، بين الكون – الحلم ،و الكون - الواقع ، قصة القطع و الانفصال ، و في هذه الفجوة العامرة بالخوف و الرعب و الألم ينْبُتُ شعر و يحفِرُ مجراهُ مستقبلا وجهة الماضي هروبا من الزمن الحاضر، و لهذا جاء بناء القصيدة من الإنشاء إلى الخبر ، من حال النفور و الرفض إلى سببها عودًا على بدءٍ في محاولة جاهدة لإيقاف تقدم الزمن ،و قتل الفعل الذي يعيد قصة التكوين و الهبوط و تدور الصور و العوالم و القيم .
إن الشعور بالهوة و القرار و الانقطاع عن العالم العلوي ، عالم السحر و الرؤى ولّدَ في المقطع الثالث عدة ظواهر " العودة إلى النداء و إصرارا على رفض الواقع و التشبث بالصورة النقية التي رسمها لعالم ما قبل الكون . كما ولّدَ على صعيد البنية اللغوية التعجب الدال على الكثرة (بيت13) حتى توافق الكثرة عمق الهوة الفاصلة بين العالمين ، و في مجرى التعجب نشأ المعنى الشعري الأساسي الدائر حول مسالة الحنين إلى الأصل و البحث عن عالم المثال و هو معنى الغربة .
و الغربة معنى شعري في هذه القصيدة متولِّد عن صورة مهمة قوامها ثنائية (الانفصال/الاتصال)بوصفها حركة متواصلة مترددة بين الواقع و المثال ، و في الفضاء السحيق الفاصل بينهما ينمو الشعر ، و يستمد عناصره ، فتكون التجربة كلها منغمسة في آلام الانقطاع و حرقة الفرقة .
و الإحساس بالغربة من جوهر العملية الشعرية ذاتها ، فهو إما ناتج عن قدرة الشاعر على إدراك ما لا يدركه غيره ، أو لأن ثنائية الواقع و المثال لا تعدو أن تكون حلماً و مورداً من موارد الشعر ، و إذ ذاك يكون الحلمُ الشعرَ ذاتَهُ، و تكون آلام الشاعر و عذابه من قدرته على بناء المثال بناء فذًّا ينْحتُهُ من محض خياله ، فيكون التمزق و الانقطاع حالة لا وجود لها خارج الشعر و الشاعر ، و تكون غربة الشاعر من غربة رؤاه و من قدرته على رؤية ما لا يراه غيره ، و تصَوُّر ما لا يتصوره.و في هذا المقطع تبرز المقابلة المسيطرة على القصيدة و الغالبة على الشاعر ، وهي مقابلة المطلق ≠ المقيّد أو المكان – القيد ≠ الفضاء .لكن هذه المقابلة لم تتضح معالمها لأن العنصر الأساسي المولد لها لم يبرز إلا في البيت12 و هو الانحدار الذي تم تعيينه بالإشارة أو بالاسم (الدنيا، هذا الوجود) . و النداء كاستغاثة و جريٌ وراء الحلم . و هذا ما يفسر معنى القيد و الحصار الغالب على المقطع . و قد ظهر الحصار في أشكال و قوالب تعبيرية مخلفة :
• حصر بالنبذ و التفرد - غريب – (بيت 13 ).

• حصر مكاني فيه ضيق شديد – بين قوم – (بيت14 ) ،و هو حصر فيه انقطاع في التفاهم و التواصل بإضافة الجملة الصفة (لا يفهمون) بيت 14 .
• حصر حصر مكاني بواسطة الجار و المجرور – في الوجود – بيت 15 .
• حصر بالصورة المحسوسة – مكبل بقيود – بيت15 .
إن تكثف المحاصرة على هذا النحو يؤكد أن الشوق العام الذي يهزُّ الشعور بالحصار المجسد في :
- في الدنيا غريب
- بين قوم لا يفهمون
- في وجود مكبل بقيود.
فالموضوع قيد و المحمول قيد ، أي الصفة قيد و الموصوف قيد ، فتشتد الوطأة على الشاعر،و هذا ما يهيء بصفة طبيعية لبروز الأمر المربوط بالفاء (فاحتضني –بيت 16).فالمقطع من أوله إلى آخره بناء للقيود ، و أطواق داخل أطواق تشد كلها على رقبة الشاعر، فينحبِسُ نَفَسُه و يحس بالخوف و الضياع و انسداد الآفاق في وجهه و ضيقه بالأرض و الناس .و لا يخرج اسم الفاعل " تائه"بيت15 عن كل هذه المعاني لاتصاله بالعتمة و الانسداد و المحاصرة (تائه في ظلام شك و نحس )، و جاء فعل الأمر مرتين متتاليتين نحتًا من فعلين يدلاّن على التطويق و الاشتمال ، و لكن بمعنى مقابل للمعاني السابقة ، لأنه ينبع من الحنو و الحماية من خلال طلوع صورة الأم جلية لتفك الشاعر من حالة الوحشة و الرعب المتأتية من الشعور الحاد بالغربة ، كما تأكد صورة الاتصال – الانفصال ، إذ يبحث الشاعر عن عالم ما قبل الولادة ،و قد بعثه في البيت بالإشارة إليه (كالماضي) محفوفا بكل المعاني التي سبق أن نسجها. فصميم الحياة هو الأم ، و الشاعر طفل مرهق انقطعت أواصره منذ غادر الرحم الدافئ ، و لم يستطع أن يجد في الأرض الطمأنينة و البراءة و الرقة ، فاحتمى بصورها و راح يجري وراءها في لهفة تقطع الأنفاس ، ظهرت آثارها على بنية القصيدة ، حيث زاوج بين الإنشاء و الخبر .
و السمة الغالبة على القصيدة هي الحنين العميق إلى الأصل، و الجري المضني وراء المطلق الحر بديلا عن القيد و السجن ، إنه شعر مشدود شدًّا إلى وضع الكمال و الحرية ، يبنيه الشاعر باللغة فنًّا بعيدا عن مضايقات الحياة اليومية القاسية .
المحاضرة الثامنة:
- جماعة الديوان –
ا - افراد جماعة الديوان :
تكونت علاقة صداقة بين عبد الرحمن شكري و ابراهيم عبد القادر المازني و كان هذا الأخير يعتبر شكريا « أستاذا له في فن الشعر و في النظر الى الأدب الحديث » و كان للصحافة فضل في تعرف المازني على عباس محمود العقاد ، و بعد اللقاء ستة 1910 نلم يفترقا بل شاركا في تحرير مجلة البيان سنة1911 بالإضافة الى نشاطات مختلفة جعلت الأديبين «لا يكاد يذكر أحدهما دون الآخر »
أما تعارف شكري و العقاد فيرجع الفضل فيه الى المازني( توفي سنة 1949 ) الذي كان في انكلترا و كان يتحدث كثيرا عن شكري و عن اتجاهه الأدبي في رسائله. و لما عاد شكري الى مصر سنة 1913 تم اللقاء بينه و بين العقاد ، و بهذا تشكل عقد «جماعة الديوان».
وكان الثلاثة يجيدون اللغة الانجليزية على ثقافتهم العربية الواحدة ، و على الرغم من عصامية العقاد. هؤلاء الثلاثة اطلعوا على مشاهير الثقافة الانجليزية التي كان لها أثر في الشعور بوحدة الاتجاه في الشعر و النقد.
ا - التجديد في الشعر :
إن وحدة الثقافة ، و اتفاق النظرة الى الأدب ، و الاتجاه الجديد الذي أرادوا أن يمنحوه للأدب ، و الاشتراك في الظروف الإجتماعية و الأدبية ، هي العوامل التي شكلت هذا الاتجاه. أما الظروف التي كانت في المجتمع المصري فتتمثل في:
أن المجتمع المصري كان خاضعا للنظام الإقطاعي.
أن شعراء جيل شوقي كانوا يسخرون مواهبهم لخدمة الطبقة العليا من المجتمع.
عمل أعضاء جماعة الديوان على المحافظة على وحدتهم رغم لحصار الذي كان مفروضا عليهم من طرف هؤلاء الشعراء و المعجبين بهم .
كانت لهم ذاتية معتدلة في الشعر حينا و متطرفة أحيانا أخرى و أعرضت في العموم عن شعر المناسبات الذي كان الموضوع المحبب لشعراء الجيل السابق ، بالإضافة الى الآثار الهامة في النثر ، في ميدان النقد.
1 - الخصومة بين شكري و المازني:
لم تدم تلك الوحدة طويلا ، و حل خلاف بين شكري و المازني ، أما هجوم هذا الأخير الشديد على صديقه القديم شكري في كتاب (الديوان) فيرجعه البعض أولا :-
الى الاتهامات التي قدمها شكريا في ديوانه (الجزء الخامس منه) و هي « أن المازني اقتبس كثيرا من الأدباء القصائد و المقالات لكتاب و شعراء غربيين مشهورين دون أن يشير الى مصادر اقتباسه ...» ثانيا: أن ثقة شكري بالمازني عظيمة لدرحة أنه اندهش شديد الاندهاش لصنيع المازني، و كان يعتقد أن تنبيهه له علنا لا يفسد علاقتهما بدليل إهدائه الجزء الثالث من ديوانه له . فوقعت القطيعة بينهما ، خاصة و أن المازني ثار على شكري ، فرماه بما تجاوز به الحد المعقول . حاول المازني الدفاع عن نفسه في الجزء الثاني من ديوانه ن ثم يشير الى أن ما صنعه أخذت به جماعة الديوان كلها ، و يؤكد أنه لم يفعل شيئا من هذا الذي اتهم به .
ثالثا : استغل خصوم جماعة الديوان و هم من أسماهم «قتلى المذهب العتيق » فحملوا عليه و أحدثوا ضجة كبرى حول هذا الموضوع.
لجأ المازني الى اتهام شكري بالجنون محاولا التدليل على ذلك بشعره و بكلامه في كتاب«الاعتراف» و هي التهمة التي كان لها شديد الأثر على نفسية شكري . هذا الأخير لم ينجو من اتهامات المازني ، فقد رماه بالخرس و بجمود الطبع ، و بتقليد السخفاء من القدماء ، و بالتكلف و قلب الحقائق ..
2 - أثر الخصومة في نفسية شكري:
اعتزل شكري صاحبيه ، و انطوى على نفسه . و لعل من أحسن ما فسر به انطواء شكري ما كتبه العقاد سنه 1958، فهو يذكر لهذا «سببين رئيسيين:
الأول : هو الخيبة التي أطبقت على شكري من كل جانب .
الثاني : هو الدسائس الكثيرة التي حيكت حول شخصه و مذهبه و مهنته » . قال العقاد عن السبب الأول « و لكن صدمات الخيبة أطبقت عليه من كل جانب ، فلم يصبر عليها ، و لم يشأ أن يستكين لها ، و لكنه تلقاها بالأنفة و الإعراض ، و أشاح بأنظاره عن الدنيا كما أشاحت بأنظارها عنه ». و قال عن الدسائس في نفس المقال :« و أثقل من ذلك على هذا الحس المرهف أنه ابتلي بالدسائس في الحياة الأدبي...فخاب أمله في أدبه ، كما خاب أمله في عمله ، و لم يكن له – مع هذه الخيبة هنا و هناك – ملاذ هادئ من حياته الوجدانية ، فاستراح آلي اليأس من كل شيء ».
و على العموم فشكري - على تشاؤمه - و هو ما يظهر من خلال الدواوين الاولى له أو مما كتب « الاعتراف » و « الثمرات » ، فإنه يعترف بأن الأمل ضروري و لعل للثقافة الانجليزية أثر كبير في هذا التشاؤم الذي مني به .
3 – التصالح :
تلك الخصومة التي دامت ما يقرب من عشرين سنة ، أبى المازني إلا أن يكون هو الأول الى التصالح ، معلنا تراجعه عن الكلام الذي صدم به شكريا ، معترفا له بالفضل في نشأته الأدبية ، فيقول بأنه الصديق الذي أبت له «مروءته أن يتركني ضالا حائرا أنفق العمر سدى ، وأبعثر في العبث ما لعله كامن في نفسي من الاستعداد ».
ب – الاصول الغربية لثقافة جماعة الديوان:
لعله يتضح مما سبق أن هناك علامات تشير الى الثقافة الغربية لجماعة الديوان إذ أنها تأثرت بالرومانسية الانجليزية « و قد اعترفت جماعة الديوان بهذا التأثر، و عدته فتحا جديدا على الأدب العربي الحديث ». و هاهو العقاد يؤكد أن « هزليت هو إمام مدرستهم ( يعني مدرسة جماعة الديوان) كلها في النقد ، لأته هو الذي هداها الى معاني الشعر و الفنون و أغراض الكتابة ... ».
قضايا كثيرة تأثرت فيها جماعة الديوان بالرومانسية الانجليزية أهمها :
ج - موقف جماعة الديوان من شوقي ، و وجهة نظره في معنى الشعر ، و الخيال الشعري ، و لغة الشعر .
ترى أن «الشعر تعبير عن نفس صاحبه ، فكان التعبير كجرد وسيلة لتشخيص هذا المضمون ، و من هنا كان التعبير مجرد وسيلة لتشخيص هذا المضمون ».
د - موقف جماعة الديوان من حافظ و شوقي:
رأت جماعة الديوان أن في شعر حافظو شوقي التقليد في الموضوعات الشعرية و التحجر في العبارات و القوالب ، ما جعلها لرفضه؛ وقد تنبه الدكتور محمد مندور للفارق الفني الذي كان يفصل بين جماعة الديوان و بين جيل شوقي ، فشعراء جيل شوقي و مطران يعبرون عن «الأفكار الجديدة و أحداث العصر» في لغة شعرية تليدة ، أما جماعة الديوان فعبروا عن أنفسهم مع لغة ليس فيها أكثر من السلامة و الصحة في القواعد . « و لم يفرقوا في المعجم الشعري بين الكلمات المبتذلة و غير المبتذلة» .
أما تأثر جماعة الديوان بالرومانسية الانجليزية هي المفهوم الذي أعطته كل منها للشعر و هو:
* مفهوم الشعر عند جماعة الديوان:
تحدث ورد زورث عن العملية الشعرية فقال : «لقد قلت أن الشعر انسياب تلقائي للمشاعر القوية. ..» و يؤكد هذا التحليل مبدأين أساسيين في مذهب الرومانسية :-
- أولهما : أن الشعر حقا تعبير عن النفس و مشاعرها .
- ثانيهما: أن هذا التعبير مطبوع لا تكلف فيه.
وهي نفس الرؤية التي يراها شكري تقريبا في قوله« انفعالا عصبيا »يسبق عملية الشعر، و أن الشعر « تدفق الأساليب الشعرية كالسيل » تدل على الطبع في التعبير الشعري الرومانسي و عند جماعة الديوان ، و هكذا تتألف العملية الشعرية من مرحلتين ؛ الأولى ، تثور فيها عواطف الشاعر ، و الثانية ، يتأمل فيها الشاعر عواطفه ،و يضبطها ، و يكوّن منها ما هو أصلح للتعبير الشعري .
فالشعر في نظر جماعة الديوان كما هو في نظر الرومانسيين الانجليز .تعبير عن النفس و مشاعرها .و هذه أبرز قضية في مذهب جماعة الديوان. يقول هازليت «إن أصدق تعريف يمكن أن يعرف يه الشعر هو أنه الصورة الطبيعية لأي غرض أو حادثة . فإن قوته تولد الخيال و العاطفة حركة غير إرادية ، و تبعث رخامة في الاصوات المعبر عنها » ، فالعواطف في نظر جماعة الديوان و الرومانسيين الانجليز، هي المنفذ الوحيد الذي يطل منه الشاعر على العالم الخارجي وشؤونه ، و تعبير شكري عن اتصال عواطف الانسان بالعالم الخارجي أجمل و أعمق من تعبير« هازليت » ، فهو يشبه قلب الانسان بالاركستر الكثير الآلات و الأنغام ؛ علاوة على أن شكريا يقسم الشعر بين العواطف الخالصة ، و هي العواطف التي هي تعبير عن مظاهر الوجود.
و يدخل في المفهوم الشعـري عند جماعة الديوان، لعواطـف والطبيعة ؛ فالطبيعة في نظرهم طبيعتان:
ا – طبيعة تحيط بنا و يمكن للشاعر الكبير أن يتصل بها و أن يحول موضوعها بشعره عن طريق الخيال و العواطف.
ب – طبيعة توجد في نفس الشاعر ، و هي قدرته على التوفيق بين حياته الباطنية و بين حياته الخارجية التي هي جزء من الحياة العامة.
* وظيفة الشعر في نظر جماعة الديوان: تحدد الرومانسية للشعر هدفين اثنين:
الاول: توفير المتعة للقارئ عن طريق اشتراكه في المتعة الوجدانية التي يحس بها الشاعر.
الثاني : هو الكشف عن الحقيقة في أعمق صورها و أتمها .
و جماعة الديوان تلح في كثير من أقوالها على هذه الوظيفة للشعر .قال شكري: « إن وظيفة الشاعر في الإبانة عن الصلات التي تربط أعضاء الوجود و مظاهره و الشعر يرجع الى طبيعة التأليف بين الحقائق. ..» و هنا تتفق جماعة الديوان مع الرومانسية الاتجليزية في أن الهدف الاساسي للشعر هو الكشف عن الحقيقة ، و توفير المتعة الفنية للقاريء عن طريق التعبير المناسب عن هذه الحقيقة المكتشفة.
* جماعة الديوان و التراث:
أولت جماعة الديوان للتراث اهتماما كبيرا خاصة في دراستها للشعراء العرب القدامى المشهورين ، فحاولت أن تحدد الصلة بين الأثر و بين نفس صاحبه . و بالنظر الى الدراسات التي خلفتها جماعة الديوان في ابن الرومي ، يتضح لنا أن هذه السمات يرجع بعضها الى المضمون ن و يرجع بعضها الى الشكل و الصناعة .فقد تحدث الثلاثة في شعر ابن الرومي ؛ أما المازني فذكر أن أول ما يلفت النظر في شعر ابن الرومي نوع احاسيسه بالطبيعة و الثاني أن ابن الرومي رغم استغراقه في الطبيعة و مظاهرها ...لا يفقد شعوره بنفسه و بالحياة .
اكتشفت جماعة الديوان سمة أساسية في شعر ابن الرومي و هي سمة الاتصال بالطبيعة ، و طريقة هذا الاتصال و وسائله .
و يضيف العقاد الى السمة الأولى سمة ثانية و هي أن ابن الرومي طويل النفس في المعنى شديد التقصي فيه.
و قال شكري في ابن الرومي : « بسط معناه بسطا كما تتسع دائرة الحجر في الماء ، او كما يبسط الخباز الرقاقة » يقول ابن الرومي:
ما بين رؤيتها في كفه كرة ** و بين رؤيتهـا قـوراء كالقمر
إلا بمقـدار ما تنداح دائرة ** في لجة الماء يرمي فيه بالحجر
و تناول شكري الشاعر ابو تمام بدراسة خاصة ،كما تناول المازني المتنبي و العقاد ، ابونواس .
* جماعة الديوان بين القديم و الجديد:
تتمحور الظروف التي ظهرت فيها جماعة الديوان في شيئين اثنين:
1 – ان شكريا و المازني و العقاد كانوا منذ ظهورهم في ميدان الشعر و الأدب يحلمون باحتلال مكانة بارزة في النهضة التي أخذت تزدهر في عهدهم.
2 – صعوبة تحقيق الحلم لسبق جماعة من الشعراء و الأدباء الى احتلال المكانة فقط لكبر سنهم.
و من هنا برزت معركة شديدة بين العقاد و المازني ضد شوقي و حافظ و المنفلوطي ، و كانت وسيلة جيل شوقي و المنفلوطي تعتمد على الثقافة الفرنسية ، و على السلطة الحاكمة ، فقد اعتمد العقاد و صديقاه على الثقافة الانجليزية و على إرادتهم في التحرر، و من حرية تعبيرهم عن نفوسهم و آمالهم و مطامحهم .
ورغم مشاركة الأولين في ثقافة عالمية ، و هي الثقافة الفرنسية ، فإنهم ظلوا محافظين في طريقة التفكير و التعبير.و من هنا جاء هذا الطابع التقليدي الظاهر في القصيدة العربية علىعهد شوقي ،و هذا الدفاع المستميت عن القيم الإسلامية ، و عن الخلافة العثمانية.
في حين أن جيل العقاد الذي كانت ثقافته انجليزية ، اتجه نظر شعرائه و نقتده صوب التراث العالمي من فكر و حضارة و أدب يعبُّون منهما بنهم شديد.إذن لم يكن اختلاف الاتجاهين نابعا من اختلاف الثقافتين و إنما كان مصدره الظروف و الإمكانات التي كانت لكل منهما ؛ فشوقي و معاصروه كانوا يعيشون في ظل الخديوي و الخلافة العثمانية .و شكري و المازني و العقاد فضلوا أن يعيشوا أحرارا يعبرون عما يحلو لهم ، ولم يهتم كل منهم بشعر المناسبات.
و لعل أهم ما يعبر عن رأي جماعة الديوان ، رأي شكري الذي لا يقنع بتقسيم الشعر الى قديم و حديث ، كما فعل العقاد ، بل يأبى إلا أن يعتبر حديثهم رجعيا ، لأنه يدعو الى العودة الى طريقة العصور الاولى في الشعر.
فالقديم إذن في نظره هو ما تبع فيه الشاعر المتأخرين من شعراء عصور الانحطاط أو أصحاب الصنعة البديعية في العهد العباسي الأخير، و الحديث هو ما عاد به صاحبه الى طريقة شعراء الجاهلية و صدر الاسلام ، فعبر فيه عن خصائص نفسه و فكره و طرق فيه معاني لم تتحجر على يد المتأخرين.و أما المازني ، فذهب الى إنكار التقسيم من أساسه.
و خلاصة القول أن جماعة الديوان ظهرت بعد ما مهدت لها المدرسة التقليدية ، و أن اتجاهها في الشعر و اتجاه هذه المدرسة يختلفان اختلافا عظيما ، و أبرز مظاهر هذا الاختلاف أن جماعة الديوان تعتبر الشعر صورة صادقة لنفس قائله ، و هذا المبدأ جعلها ترفض كل شعر تشتم منه رائحة الصنعة و المحاكاة و التقليد من جهة ،و بين مدى التجديد الذي اعتبروا كل شعر قيل في الأغراض الشعرية القديمة ليس بشعر عصري و من جهة ثانية ، فهي تريد أن ترى شعرا يعبر عن نفس صاحبه و مشاعره بغض النظر عن الموضوع الذي قيل فيه.
* موقف جماعة الديوان من الشعر العربي و قضاياه:
تريد جماعة الديوان من الشعر العربي أن يعبر عن الروح العربية الصحيحة غير المزيفة ، و تريد له أن يكون فنا إنسانيا عالميا ، يتمتع بنفس الشهرة و الخلود اللذين يتمتع بهما الشعر الأجنبي.
* الصورة الشعرية عند جماعة الديوان:
اهتم أفراد جماعة الديوان بالإحساس و الشعور في دراستهم الأدبية اهتماما شديدا ، و هذا الاهتمام نابع من مفهوم الشعر عندهم،فالصورة الشعرية في نظرهم إنما تقوم أساسا على هذه الملكات و العواطف الإنسانية نتيجة اتصال الشاعر بالطبيعة؛يتلقى رموزها و صورها ثم يحول هذه الرموز و الصور الى خواطر و رموز مجردة ذاتية ، و في المرحلة الثالثة تتدخل هذه «الملكة الخالقة» التي تعتمد على الشعور الواسع و الدقيق.و بإدراك الشاعر للحدث الرئيسي في مضمون القصيدة و ترتيبه للأحداث الثانوية ترتيبا منطقيا و ضروريا، تتشكل هذه الصورة الشعرية التي لم يتحدث عنها أفراد جماعة الديوان.
و منه فالعناصر الثلاثة ، الإحساس و الخيال و التشبيه يحتاجها الشاعر في عملية التعبير ، يضاف اليها عنصر اللغة التي هي من العناصر الهامة في التعبير التي أولاها أفراد جماعة الديوان عناية خاصة.
* اللغة و التعبير الشعري عند جماعة الديوان:
تعتبر جماعة الديوان الألفاظ رموزا للمعاني و المشاعر و الأفكار ، فالألفاظ لا قيمة لها في ذاتها ، و أن قيمتها فيما ترمز اليه من معانٍ.
يرى العقاد أن رمزية الألفاظ هي السبب المباشر في قيام المشاكل بين الأفراد و الأمم .
و يقف المازني موقفا مماثلا من اللغة إذ ير أن قصور اللغة يعوض برموز و صور لما في الصدور.
و عموما فإن موقف جماعة الديوان من اللغة يتلخص في الدعوة الى الحرية في التعبير فقط و المحافظة على سلامة اللغة و صحتها.
* - الوحدة العضوية :
يعترف العقاد أن شكريا كان أسبق منه و من المازني في الحديث عن الوحدة العضوية ؛ و من السمات التي يمتاز بها الشعر الذي تتوفر فيه الوحدة العضوية هي:
1 – طول النفس ، وهي السمة الأولى في نظر العقاد.
2 – صلاحية القصيدة الواحدة من هذا الشعر أن يوضع لها اسم ، و أن تقع تحت تحت عنوان ، و لتحقيق ذلك لابد من :
ا – أن تكون لها خصائص معينة تصلح لأن يشار اليها باسم من الأسماء.
ب – ذات موضوع واحد يمكن وضعه تحت عنوان.
و إذن فالوحدة التي دعت اليها جماعة الديوان ، إنما هي وحدة القصيدة في الشعر الغنائي.
المحاضرة التاسعة .
– مدرسة أبولو
ا – مدرسة أبولو:
نشأت هذه المدرسة سنة 1932 في القاهرة على يد جماعة من الشعراء و الأدباء و النقاد ، اتفقوا على ميلاد مدرسة جديدة في الشعر بريادة الدكتور أحمد زكي أبو شادي ؛ و هي مدرسة أبولو ، و تظم هذه المدرسة في صفوفها أحمد محرم و إبراهيم ناجي و علي محمود طه و كامل الكيلاني و أحمد ضيف و أحمد الشايب و محمود أبو الوفا ، و حسن كامل الصيرفي ، و غيرهم.
اختير أمير الشعراء أحمد شوقي رئيسا لهذه المدرسة ، غير أنه وافته المنية بعد أشهر ، ثم أسندت الجماعة رئاستها إلى الشاعر خليل مطران كما أسندت منصب الوكالة إلى أحمد محرم شاعر العروبة و الإسلام ، ثم أصدرت الجماعة مجلة تحمل اسمها و تذيع أدبها و تدافع عن مبادئها ، و كانت أول مجلة خاصة بالشعر و نقده ، ويكشف الشاعر أبوشادي عن هدفها في صدر العدد الأول : نظرا للمنزلة الخاصة التي يحتلها الشعر بين فنون الأدب ، و لما أصابه و أصاب رجاله من سوء الحال ، بينما الشعر من أجل مظاهر الفن ن و في تدهوره إساءة للروح القومية ، لم نتردد في أن نخصه بهذه المجلة ...و في الختام يقول : و كلما كانت الميثولوجيا الإغريقية تتغنى بأبولو للشمس و الشعر و الموسيقى ، فنحن نتغنى في حمى هذه الذكريات التي أصبحت عالمية بكل ما يسمو بجمال الشعر العربي و بنفوس شعرائه . و من ثم فإن اختيار هذه الجماعة لاسم أبولو جاء موافقا لما ذهبوا إليه من تحرر في انطباعاتهم الفنية و تأثرهم بالمذاهب الفنية المعاصرة في أوربا .
* نشأة أبولو و نشأة الرومانسية الغربية :
نادى أحمد زكي أبو شادي بضرورات التجديد في الشعر العربي و جرى في أثره بعض الشبان الذين سبق ذكرهم ، و لكنهم لم يعيشوا في مذهب أدبي موحد ينظمون فيه بل توزعتهم الاتجاهات المختلفة ، و ظل بجانبهم فريق يتمسكون بالإطار القديم و منزع شعراء النهضة .
يلاحظ أن موجة حادة من النزعة الرومانسية غلبت على كثير من الشعراء حينئذ و لم يكن مبعثها اطلاعهم فقط على نماذج الجيل الجديد و شعراء المهجر الأمريكي الشمالي و شعراء لبنان ، بل كان مبعثها الحقيقي أن مصر كانت في ذلك العهد الذي ظهرت فيه هذه الجماعة ن حلقة من حلقاتها التاريخية في العصر الحديث ، و هي حلقة فقد فيها الشعراء حرياتهم بسبب الظروف السياسية التي كانت سائدة آنذاك ؛ حيث انطوى الشعراء على أنفسهم يجترون الألم و الحزن و يعكسونهما على ما حولهم من الطبيعة ، فإذا هم رومانسيون في أشعارهم ن و في دواوينهم نفسها : فلأبي شادي " الشعلة " ،و " فوق العباب" . و لإبراهيم ناجي " وراء الغمام" ، و لعلي محمود طه " الملاح التائه " و لحسن الصيرفي " الألحان الضائعة " و لمحمود أبي الوفا " الأنفاس المحترقة " .
و يعتقد بعضهم أن الرومانسية في الوطن العربي بلغت ذروة مجدها في مدرسة أبولو .
* صلة أبولو بالرومانسية .
اتخذت جماعة أبولو الاتجاه الرومانسي في الشعر لأنهم ثاروا على التزام الكلاسيكية في القصيدة بالصياغة الجيدة و التعبير الفصيح و محافظتها على القواعد في الآداب القديمة و جعلها المثال المحتذى و إهمال العاطفة أمام القيود السابقة ن لذلك ثار الاتجاه الرومانسي على ذلك و نادى بتحطيم القيود الكلاسيكية ، و راعى العاطفة و الحرية و البساطة و الوحي و الخيال الشرود و الخروج على القواعد الفنية و اللغوية المتوارثة و الهيام بالطبيعة و الريف ، و الذاتية في الشعر ، و التحرر من أثقال المادة و الفطرة و الإلهام في الشعر و إشاعة القلق و الألم و الحزن و السام.
* خصائص القصيدة عند مدرسة أبولو.
1- التجربة الشعرية :
لم تعد القصيدة عند مدرسة أبولو استجابة لمناسبة طارئة أو حالة نفسية عارضة ، بل صارت تنبع من أعماق الشاعر حين يتأثر بعامل معين ، و يستجيب له استجابة انفعالية ، قد يكتنفها التفكير أو لا يكتنفها ، و لكن لا تتخلى العاطفة عنها أبدا ، كما يقول أبوشادي في ديوان " وحي السماء "- و هذا اتجاه رومانسي في القصيدة و في الانفعال بها ، و يقول ناقد هذه المدرسة ؛ و هو مصطفى السحرتي : إن القيمة الفنية للقصيدة هي في تواؤم تجربتها الشعرية مع صوغ هذه التجربة . و يمكن التعرف على التجربة الشعرية في قصيدة " العودة " لإبراهيم ناجي أو في قصيدة " المساء " لمطران أو قصيدة " الأشواق التائهة " للشابي ، من هذا المنطلق .
و من أجل ذلك حاربت هذه المدرسة شعر المناسبات ، و دعت إلى تمثيل الشعر لخلجات النفوس و تأملات الفكر و هزات العواطف ، كما دعت إلى الطلاقة و الحرية الفنية و ظهور الشخصية الأدبية ، و إلى الطاقة الشعرية الاتباعية ، و عملت على توكيد الدعوة إلى البساطة و صدق التعبير ، و طالما نادت بان الشعر بأحاسيسه و ارتعاشاته و نبضاته ، و من ثم لم يقبلوا على قصائد المدح و التكريم و المناسبات الطارئة.
2 – الوحدة العضوية :
و دعت هذه الجماعة إلى الوحدة العضوية في للقصيدة ، وليس المقصود بها وحدة الموضوع ، كما كان يفهم ذلك العقاد في كتاب الديوان ، حين نقد أحمد شوقي ، وعاب على قصائده هلهلتها و اضطرابها و تفكك أجزائها ، و هذه الوحدة العضوية التي يفضل بعض النقاد تسميتها بالوحدة الفنية و التي هي اتجاه رومانسي واضح. فعند الرومانسيين أن القصيدة في داخل التجربة تصبح كل صورة من صورها بمثابة عضو حي في بنيتها الفنية .
و هي في نظرهم بنية عضوية حية ، تتفاعل عناصرها ، تمتزج بعضها بالبعض ، و تنمو العناصر نموا داخليا حتى يتكامل الموضوع ، و يتم على أكمل وجه ، و في أجمل نسق ، وذلك مثل الأعضاء في جسد الإنسان القوي ، النامي ، الحسن المنظر ، و تظهر في قصيدة الأطلال لإبراهيم ناجي الذي يقول فيها :
يا فـؤادي رحم الله الهوى * كان صرحا من خيـال فهوى
اسقني واشرب على أطلاله * وارو عني طالما الدمع روى
كيف ذاك الحب أمسى خبرا * و حديثا من أحاديث الجوى
و بسـاطا من ندامى حلـم * هم تواروا بعده و هو انطوى
لست أنسـاك و قد أغريتني * بفم عـذب المنـاداة رقيق
و يـد تمتـد نحـوي كيـد * من خلال الموج مدت لغريق
فهو في ملحمته هذه نموذج لأصالته و شاعريته ، فهو يحكي قصة حبه الفاشل على لسان الريح التي تخيلها صاحب " الأطلال " تنصحه على التمادي في الحب المعذب بعد أن صار هو أطلال روح و هي – صاحبته – أطلال جسد.
3 – التعبير بالصورة :
إن أهم ما تطورت إليه القصيدة الجيدة هو انتقالها من التعبير بالألفاظ و الجمل إلى التعبير بالصور الشعرية و في هذا يقول إبراهيم ناجي: « الشعر موسيقى و خيال و إمتاع و صور ... و أما الصور الشعرية فنعني بذلك أنك حين تقرأ للشاعر قطعة من شعره يكون الشيء و كأنه مرسوم أمامك بوضوح شديد و مجسم اتجاه بصرك » . و يقـــول أيضا : « الأسلوب التصويري في مذهب الصوريين ، من مظاهر التطور في الأدب الأوربي الحديث ، و يبني الصوريون مذهبهم على أن الأدب يجب أ، يكون صورا متلاحقة » ، و لا شك أن ذلك كان نتيجة تأثرهم بالمدرسة الرومانسية الانجليزية في الشعر المعاصر.
4 - الطبيعة عند شعراء أبولو :
غالى الشعراء في حب الطبيعة حتى أصبحت عندهم الأم الرؤوم و الملاذ الذي يجدون السكينة في جواره ، بعيدين عن زيف المدينة و صخبها ، م هم لا يقبلون عليها واصفين ، و لا يصفونها مادحين ، و إنما يندمجون في روحها ، و يعانقونها عناق الأحباب و يصفون إحساسهم و مشاعرهم نحوها أكثر مما يصفون مشاهدها الجميلة ، و هذا اتجاه رومانسي واضح أجاده مطران و شكري و أبو شادي و ناجي و الشابي و علي محمود طه و سواهم من شعراء أبولو .
5 – الإيحاء في اللفظ :
لابد أن يكون اللفظ في الصورة عندهم موحيا تتعدد معانيه، و الكلمة مشعة ترسل خيوطها العميقة في كل مكان . فإن كثرة المعاني و الاتجاهات للكلمة الواحدة ، تكتب للقصيدة الخلود و تبقى حية متجددة تجد موقعا حسنا من كل قارئ ، فيفسرها حسب ذوقه و عمق فكره ، و لذلك بقيت قصائد شكسبير و غيره خالدة ممن اهتم بوحي الألفاظ ، و مثل قصائد : " رسائل محترقة" لناجي و "البحر و القمر" لعلي محمود طه، و قصيدة " مناجاة" للشابي التي يقول فيها :
أنت يا شعـر فلـذة من فـؤادي * تتغنى و قطعة من وجودي
فيك مـا في جوانحي من حنين * أبـدى إلى صميـم الوجود
فيك ما في طفولتي من ســلام * و قنوع و غبطـة و معـود
فيـك ما في شبيبتي من أمـان * باسمات و من غرام سعيـد
فيك ما في شبيبتي من قنـوط * مدلهم و حيـرة و جمود
أنت يا شعر صفحة من حياتي * أنت يا شعر قصة من وجودي
6 – صوفية الحب العذري:
و هذه النزعة في الحب ... عرفها شعراء أبولو و أخذوها تيارا عاطفيا يتمثل في فلسفتهم العاطفية المملوءة بالحب و الحرمان و الألم و العذاب و الضنى و الأرق ، فالحب عندهم متعة للروح لا للجسد.
7 – نزعة الحرمان :
سادت في شعر جماعة أبولو نزعة الحرمان و الندم و الحزن و السقم و الكآبة و الألم و الحديث عن الموت و الفناء و العدم إلى غير ذلك من ألوان التشاؤم و القلق و الحيرة و الدموع ضرورية للعبقرية كما يقول الأديب الفرنسي "اسكندر ديماس" و الحزن السامي يجعلنا نقدر اللذة ، كما يقول ألفريد ديموسيه و ذلك هو ما يقوله حسن كامل الصيرفي ، صاحب ديـوان « الألحان الضائعة » :
دمـوعـي كنت آمـالا * تـمد القـلب بالبشـر
و كانت هـذه الآمـا * ل كالأننغـام في الفجـر
7 – ثورة التجديد :
قام شعراء أبولو بثورة تجديدية كبيرة في بناء القصيدة الفني ، فأعلنوا الشعر الحر و احتفظوا بالشعر المرسل و نوعوا الأوزان و جددوا فيها ، و نادوا بتحرير القصيدة في شكلها و مضمونها و فكرتها و صورتها الموسيقية من قيود كثيرة و رددوا : مذهب الفن للفن و مذهب الفن للحياة ، و أن الشعر عاطفة و خيال و موسيقى و صورة و نـادوا كما كان ينــــادي " ورد زورث" بتجنب تلك التشبيهات التي كان يتوارثها الشعراء و طعموا شعرهم بألوان من الرمزية و السريالية و الواقعية .
هذه إذا هي أهم الخصائص التي اتسم بها شعر جماعة أبولو في انطلاقه و تجديده و حريته من القيود الكلاسيكية القديمة ، و ثار - حول هذه الخصائص بما فيها قضايا الأدب و مفاهيمه - جدل كثير بين الأدباء و النقاد ، و بعض هذا الجدل دار حول المذهب الأدبي و بعضه دار حول الشعر الجاهلي الذي كتب أحمد أمين عنه بعنوان (جناية الشعر الجاهلي على الأدب العربي) و رد عليه بعض الأدباء . و بعضه كان حول قضية اللفظ و المعنى . و اشتدت الخصومة آنذاك بين أبي شادي و العقاد و أنصار كل منهما ، و كان للعقاد آنذاك حزب سياسي يناصره و كان يرى أن و راء أبولو أيد سياسية .
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة