U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

خصائص وتقنيات الخطاب الروائي العربي المعاصر :

الحجم

* فيما بعـد الواقعيــة :
يعني بالرواية تلك الرواية التي تتجاوز الأطر الواقعية والتقليدية المألوفة إلى أطر رمزية وإيحائية ودلالية، وتتضح هذه الأطر من خلال الرمز التراثي أو التوليدي، أو الحلم أو تيار الوعي.وبرغم أن إرهاصات الرواية التجديدية قد ظهرت في فترة مبكرة مع الواقعية، إلا أنها شكلت مرحلة بارزة منذ أواخر الستينات وحتى نهاية هذا القرن.
وقد اتسمت الرواية في هذه الفترة الزمنية بمجموعة من السمات منها استلهام التراث وتوظيفه فنيا في نسيج الرواية بحيث يحمل أبعادا رمزية وإيحائية ودلالية، والتشكيلات المستخدمة للأبنية الزمانية والمكانية.
- إستلـهام التــراث :
ويعني به استلهام الكاتب للتراث العربي المكتوب و الشفاهي سواء كان هذا التراث تاريخيا أو فرعونيا أو أسطوريا أو صوفيا أو فولكلوريا، وتوارثته الأجيال حتى المعاصرة. واستوحاه الكتاب بغية طرح دلالات إيحائية للتعبير عن الواقع الحاضر. وقد يلتقي التراث العربي بالتراث الإنساني خاصة في الأنماط الأسطورية والشعبية.
وينقسم الرمز التراثي إلى عدة أنماط منها نمط التراث التاريخي أو الصوفي أو الشعبي أو الديني أو الأدبي.
على المستوى التاريخي نجد روايات سعد مكاوي وجمال الغيطاني، وإبراهيم الكوني، وغيرهم تتوظف الشخصيات التاريخية توظيفا رمزيا. ففي رواية " السائرون نياما " لسعد مكاوي يشكل التاريخ بعدا رمزيا، حيث حاول الكاتب أن يعري زيف الواقع من خلال الشخصيات التاريخية المتمثلة في الحكام والسلاطين المماليك وحملها الكاتب بعدا رمزيا مثل شخصية السلطان محمد بن قايتباي وتهديده للصبية بقطع لسانها بقول : " فلمحوا صبية خارقة الحسن تتوثب مجنونة برعبها بين جدران الشرفة، وكلما لطمها جدار ارتدت بعويلها حتى يصدها جدار آخر ورأوا معها المسخ المفزع على حقيقته شيطانا مخمورا يتسلى برعبها ".
فالكاتب يعرى زيف الحياة السياسية و الإجتماعية حيث ينغمس الحكام في ملذاتهم بينما يعاني الشعب عذاب الجوع والخوف.
وإلى جانب حوادث القتل تكثر حوادث خطف المماليك للفتيات البريئات فتخطف عزة أخت خالد، ويصيح خالد قائلا : " يا ناس أختي يا عالم المماليك هاجموا النساء في حمام الخيامة وخطفوا أختي عزة ".
وتشكل شخصية عزة رمزا يقترن بالأرض والحرية والحق والعدل ولذلك يقول خالد للشيخة زليخة : " عزة في السماء وفي كل مكان نعم يا ست الشيخة نعم.. عزة يداها في البحر المالح وقدماها في أرض الصعيد وملء البر أنفاسها الطاهرة ".
وهكذا تشكل الشخصية بعدا رمزيا لا يقف عند حد الرصد والتسجيل لكنه يحملها قيمة إيحائية. فتصبح عزة –على سبيل التمثيل- رمزا لضياع الأرض والحق والحرية. ويصبح الحكام الذين تبدلوا على البلاد رمزا للقوى السلطوية القهرية.
وتشكل الشخصية التاريخية بعدا رمزيا أيضا في رواية الزيني بركات للغيطاني فشخصية الزيني تعد معادلا موضوعيا للشخصية المعاصرة التي أودت بالشعب المصري إلى الهزيمة في سنة 1967، فقد كتب الغيطاني في هذه الرواية في عامي (1970/1971) وزمن الرواية هو زمن تولي قنصوه الغوري حكم البلاد منذ عام 912 هـ حتى هزيمة مرج وأبعد لذلك يقول اليغطاني : " لقد أسرني ابن اياس، ولو كنت قد عشت في زمنه لكتبت ما كتب. وكتابه كتاب ضخم قرأته للمرة الأولى وبعد هزيمة 1967 أعدت اكتشافه لأنه عاش في حقبة تاريخية تشبه في كثير من الجوانب الحقبة التي عشناها قبل 1967 وبعدها فقد شهد هو هزيمة مصر أمام العثمانيين وشهدت أنا هزيمتها أمام إسرائيل ".
ويدور الرمز في هذه الرواية في عدة محاور : الأول : محور صراع السلطة بين زكريا و الزيني بركات و خايربك، وهذه الطائفة ترمز للشخصيات الطفيلية التي تسعى للسلطة لمآربها الذاتية دون العناية بمصلحة الشعب أو الوطن، وتعبر عن الطبقة الطفيلية التي قفزت إلى قمة الهرم الاقتصادي منذ أواخر الستينات، والثاني محور السقوط الذي تمثل في الشخصيات رمز السقوط والضياع نتيجة نفاقها وتملقها لرجال السلطة وتمثل هذا في بعض الأئمة والوعاظ والرجال النفعيين مثل الشيخ ريحان وبعض البصاصين مثل عمرو " وأبو الخير "، والثالث محور الإنتماء ويرمز للشخصيات المنتمية للوطن والأرض برغم القهر مثل سعيد الجهني، ومنصور والشيخ أبو السعود، وبهاء الحق علوان.
ومثلما كانت عزة رمزا للأرض والوطن في " السائرون نياما " فقد كانت سماح رمزا للأرض والوطن أيضا في الزيني بركات.
وتشكل الشخصيات التراثية الشعبية بعدا آخر ممن الأبعاد الرمزية في الرواية العربية، ففي رواية " ليالي ألف ليلة " لنجيب محفوظ تشكل شخصيات السندباد، وعبد الله البلخي وشهرزاد، وعلاء الدين، وشهريار بعدا رمزيا. فقد استوحى شخصية علاء الدين وحملها أبعادا رمزا حيث يؤكد من خلالها على الظلم الحكام للرعية وإلحاقهم التهم بالأبرياء. فقد أمر كبير الشرطة بتفتيش بيت علاء الدين في ليلة زواجه من ابنة الشيخ البلخي، لأن البلخي رفض تزويج ابنته لإبن كبير الشرطة وزوجها لعلاء الدين وقبض عليه وسط جموع الحاضرين وحكموا عليه بالإعدام.
ويحمل شخصية السندباد بعدا رمزيا أيضا، ففي نهاية الرواية يستدعي الكاتب شخصية " السندباد " الذي عاد بعد أن تغيرت ملامح الواقع، فيسمع السلطان حكايات السندباد التي تحث على الحرية والعدل، وحينئذ يبكي السلطان على الماضي المقرون بالقتل والظلم وتعد حكاية السندباد لازمة رمزية في الرواية. فقد عاد السندباد في الرواية لكنه لم يعد في الواقع.
ويرتبط الرمز الشعبي بالأسطوري من حيث الدلالة على الخصوبة الميلاد في رواية " الطوق والأسطورة " ليحي الطاهر عبد الله، فيربط الكاتب بين إخصاب المرأة وإخصاب الأرض، إذ كلما كان الواقع عميقا الغرس عقيما أيضا ولا يصبح اللجوء إلى الطقوس الأسطورية أمرا مجديا تقول الأم خزينة لإبنتها : " الرجل منهم يفلح الأرض، يحرثها ويرمي البذور ويتابع الري، ثم يحصد، هل يفلح الحداد أرضه أم أن الأرض كافرة لا تعطي ؟ تكلمي ؟ ترددت فهيمة ثم باحت، ينفخ المصباح ويأتي إلى فراشنا، يلمني ويظل يقاوم، هناك قوة تقيده، يمر وقت طويل، يهمد وينفلت في بكاء مر ".
فيربط الكاتب بين، رمز المرأة والأرض من حيث عملية الإخصاب والتجدد فقد كان البشر يعتقدون قبل معرفتهم بالأسباب العضوية للحمل أن الأمومة تعود إلى إدخال الأطفال مباشرة في بطن المرأة وكل ذلك يعني أن صورة الأرض الأم الأسطورية التي تتمتع بقابلية خصب لا متناهية سبقت في العقلية البدائية آلهة الخصب النباتي التي تأكدت في الدور الريفي الزراعي ".
ولا يقف الأمر عند الشخصية التراثية، بل يمتد الرمز ليشمل النص التراثي، إذ من الممكن أن يحمل النص التراثي بعدا رمزيا يتضح ذلك في بعض روايات الشرقاوي، محمد خليل قاسم، سعد مكاوي، الغيطاني، محمد جبريل، أحمد الشيخ، نبيل عبد الحميد وغيرهم. ففي رواية " الشمندورة " لمحمد خليل قاسم يتضح الرمز التراثي من خلال النصوص التراثية المستوحاة فتأتي الأغنية الشعبية تعبيرا عن حالات الحزن والفرح في آن واحد، وفي الوقت نفسه تكون رمزا للتناقص القائم في الواقع الحياتي يقول الراوي مجسدا نص الأغنية الشعبية النوبية :
أبدن أبدنا بالناتون فابا يمونا
يرووش المرايا بالناتون فابا يمونا "
وعندما لا يفهمها حسن المصري يترجمها له المأذون فتقول معاني الكلمات :
لن يغيب عن خاطري
إلى الأبد لن يغيب
وجه عذراء
ناعم مثل المرايا
لن يغيب.. لن يغيب "
فيعبر النص الشعبي هنا عن الفرحة التي تغمر المحب بمحبوبته عندما يفوز بلقائها، فمهما تبدلت الأيام والسنون يظل وجه محبوبته في داره النوبي القديم لا يفارقه، وفي الوقت نفسه يعبر هذا النص عن مرارة الغربة التي يعانيها الرجال الغائبون عن محبوباتهم وديارهم واعتمدت رواية " الناس في كفر عسكر " لأحمد الشيخ على توظيف الشعبي المتمثل في الأمثال الشعبية لتكون أداة رمزية عن الواقع المعيش وذلك في أكثر من موضع.
كما نجد النصوص المدونة التاريخية والدينية والأدبية تمثل ملمحا رمزيا في روايات الزيني بركات للغيطاني، وحافة الفردوس لنبيل عبد الحميد، ومن أوراق أبي الطيب المتنبي لمحمد جبريل. غير أن النص التراثي يتناص مع النص الروائي ويحمله الكاتب بعدا رمزيا يخرج من إطاره التراثي إلى إطاره الرمزي، كما نجد النص الصوفي عند سعد مكاوي وجمال الغيطاني يشكل بعدا رمزيا أيضا.
ولا يقف البعد التراثي عند حد اللغة التراثية أو الشخصية التراثية لكنه يمتد ليشمل الشكل التراثي أيضا، وذلك بغية تشكيل شكل روائي عربي أصيل، يستمد أصوله من تراثنا العربي ويعبر عن واقعنا الحاضر. أي أن الروائي يعيد تشكيل الشكل الروائي ليصبح الشكل نفسه أداة تعبيرية عن واقعنا المعيش فقد وجد الشكل التاريخي في الرواية عند جمال الغيطاني والشكل التوثيقي عند محمد مستجاب ومحمد جبريل في روايتهما " من التاريخ السري لنعمان عبد الحافظ "، " ومن أوراق أبي الطيب المتنبي " والشكل الشعبي عند نجيب محفوظ ودلال خليفة.
والأشكال الأدبية تعكس في حد ذاتها حركة المجتمع، وتصور مضامينه وتعبر عن أنماط وتراكيبه، ومن ثم استلهامها أداة رمزية وإيحائية عن الواقع المعيش. ونقف عند الشكل الشعبي في روايتي " ليالي ألف ليلة " لنجيب محفوظ، " ومن البحار القديم إليك " لدلال خليفة على سبيل التمثيل.
وقد بدأت إرهاصات هذا الشكل في روايات أحلام شهرزاد لطه حسين، سنة 1942، على الزيبق، وسيف بن ذي يزن لفاروق خورشيد ثم الحرافيش لنجيب محفوظ، وأخيرا من البحار القديم للسيدة دلال خليفة.
ففي رواية الحرافيش سنة 1977 اعتمد نجيب محفوظ على الشكل الخارجي لليالي العربية، فإذا كانت الليالي العربية قسمت إلى حكايات كل حكاية تدور حول موضوع ما وتتسلسل هذه الموضوعات تسلسلا سببيا حتى تنتهي الرواية فإن ليالي نجيب محفوظ قسمت أيضا إلى مجموعة من الحكايات المتتابعة تتابعا سببيا، والمتسلسلة تسلسلا زمنيا يربط بينها تتابع الأحداث وتتابع الزمن وهذه الحكايات على التوالي هي : " حكاية عاشور الناجي – حكاية شمس الدين – حكاية الحب والقطبان – حكاية المارد – قرة عيني – شهد الملكة – جلال صاحب الجلالة – الأشاح – سارق النغمة – التوت والنبوت ".
وهذه الحكايات تتبع جذور عائلة الناجي منذ بدايتها حتى أصبح فتوة الحارة وظلت سلالته تتابع زمنيا حتى ظهر عاشور الأخير في نهاية الرواية ليحقق العدل بين الناس. والشكل التالي يوضح التتابع الزمني الذي حرص عليه الكاتب في بناء حكاياته كما يوضح تلاقي نقطتي البداية والنهاية كما في الليالي العربية.
ومن خلال الشكل التالي يتضح لنا مدى استلهام الكاتب للشكل التراثي العربي الممثل في شكل الليالي العربية ليكون رمزا للتشكيل الحضاري العربي، غير أن الليالي العربية اعتمدت على الحكايات الخرافية الأسطورية بينما اعتمدت حكايات نجيب محفوظ على الحكايات والأحداث الواقعية.
ويصبح لعالم الجن دور بارز في حياة الإنسان في حكايات الليالي العربية وليالي نجيب محفوظ. فقد ذكر الجن والعفاريت في كل الليالي العربية، وفي بعض ليالي نجيب محفوظ ولاسيما الحكايتين السابعة والثامنة، حيث نجد جلال بن عبد ربه الفران يصبح فتوة الحارة ويبغي أن يؤاخي الجن ويلتحم بالخلود.
وإذا كانت الصورة التي تحكم الليالي العربية صورة دائرية أي أن البداية والنهاية تدور حول صورة واحدة، فتصبح البداية هي النهاية والعكس، فبدأت الليالي العربية بصورة شهرزاد وهي تحاول صرف الملك شهريار عن شروره.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة