تُعدّ مادة الدواء جوهر علم الصيدلة، ومحوره الرئيس. وتمرّ هذه المادة بسلسلة طويلة من التفاعلات التي تطولها داخل الجسم، بدءاً من لحظة تناولها إلى ظهور أثرها المنشود. وليس ثمة إنسان لم يتناول ذات يوم دواء شعر بأن جسمه بحاجة إليه لعلاج داء طارئ ودخيل،
أو ألـم بالجسم على حين غفلة من صاحبه؛ فمن منا مثلاً لم ينل منه الصداع المفاجئ، الذي أرّق مضجعه، وأخذت مطارقه توجّه طاقتها من دون رحمة تجاه رأس صاحبه؛ فسارع باحثاً عن قرص دواء مسكّن، يبتلعه ليخفّف من حدة هذا العارض المزعج الذي عرض له؟!.
ذاك مثال –وكثير غيره- مما يدفع الإنسان قديماً وحديثاً إلى تناول الدواء بحثاً عن ضالته المنشودة التي جدّ بالسعي نحوها، ونعني بها حياةً يحياها دونما شكوى من ألم أو مرض. وثمة تفاعلات كيميائية وفسيولوجية غنية ومعقدة، يشهدها مسرح حافل، وتدور فصولها وأحداثها داخل أجسادنا، دونما أدنى شعور منا، أو تحكّم إرادي. ولعل الفضول يدفعنا إلى كشف النقاب عن جزء من المعلومات المتعلقة برحلة الدواء المثيرة للدهشة في جسم الإنسان.
وحقيقة الأمر أن هناك عدة محطات يمر بها الدواء داخل الجسم منذ لحظة تناوله إلى ظهور أثره العلاجي أو الوقائي المرجو. ونتاج ذلك تـحرّر طاقة كامنة، تنطلق من ذاك الدواء؛ فتعالج المشكلة بإذن الله، وتزيل الشكوى المؤرقة، وكأن شيئاً لم يكن.
ما الدواء؟
الدواء Drug: مادة طبيعية أو مصنعة، يتم تناولها بغية تحقيق هدف علاجي(1)، أو وقائي(2)، أو تشخيصي(3). وقد تطور العلم الحديث في سبر أغوار مادة الدواء، وكشف النقاب عن كثير من الغموض الذي يلفّ هذه المادة السحرية الفاعلة، وما يعتريها من تغيرات وتفاعلات حيوية عقب دخولها في أجسامنا. وظهر نتيجة ذلك علم متخصّص اسمه: علم الأدوية Pharmacology، يتناول في دراسته أصناف الدواء المختلفة، واستخداماتها العلاجية، والوقائية، والتشخيصية، وما يدور نتيجة تناولها من تفاعلات حيوية داخل أجسامنا، وما قد يظهر في جسم متناولها من تأثيرات جانبية ذات نتائج متباينة. وثمة مصادر مختلفة لما نتناوله من أدوية، ولعل بعضنا يعتقد أن الدواء ما هو إلا مادة كيميائية أنتجتها تفاعلات معقدة، وتلاعبت بها أيادي العلماء في أقبية مختبراتهم، إلى أن ظهر الدواء في صورته النهائية، لكن حقيقة الأمر أن تلك التفاعلات الكيميائية ليست المصدر الوحيد الذي نحصل من خلاله على حاجتنا من الدواء؛ إذ ثمة مصادر أخرى تمد العالم بحاجته من الأدوية المختلفة، منها:
يعد عالم النباتات من حولنا مصدراً ثرياً بكثير من الأدوية؛ إذ يمدّنا نبات الزعتر على سبيل المثال بأدوية فاعلة في علاج حالات الإسهال، ويعدّ لحاء أشجار الكينا Cinchona مصدراً رئيساً لأدوية علاج داء الملاريا، وتستخرج من نبات السناSenna أدوية تعالج الإمساك.
ثمة أيضاً مصادر حيوانية لبعض الأدوية، وأشهر مثال على ذلك هو مادة الأنسولين المعروفة في علاج الداء السكري، التي يمكن تحضيرها من بنكرياس الأبقار مثلاً.
لبعض المعادن في الطبيعة خواصّ دوائية، تجعلها مصدراً من مصادر الدواء المختلفة؛ إذ يدخل على سبيل المثال معدن الزئبق في صناعة بعض المطهرات والمعقمات، وتدخل الفضة في صناعة بعض المراهم الجلدية المستخدمة في علاج الحروق المختلفة.
للأحياء المجهرية أيضاً دور مهم في إنتاج بعض الأدوية، ولعل مادة البنسلين أشهر مثال لها؛ إذ تنتجها بعض الفطريات المجهرية بصورة طبيعية، ويعدّ الفطر المعروف باسم Penicillium المصدر الرئيس لهذا المضاد الحيوي.
لمعامل الكيمياء حضور كبير في تركيب كثير من الأدوية؛ فعلى طاولاتها تنشأ تفاعلات كيميائية بنسب متناهية في الدقة؛ بغية الحصول على دواء مطلوب ذي أثر صحي ناجع. وقد يحتاج دواء كهذا إلى تجارب تستغرق سنين بحثية طويلة إلى أن يتم اعتماده، وتعميم استعماله حول العالم، بعد أن تثبت جدواه الدوائية، وأمانه في جسم متناوله. ومن الأدوية التي يتم تحضيرها في معامل الكيمياء مادة الأسبرين التي تذكرها كتب علم الأدوية باسم طويل هو: حامض الأسيتيل ساليسيليكAcetyl salicylic acid.
يدخل الدواء أجسامنا بطرائق مختلفة، لعل أكثرها شيوعاً هي ابتلاعه عبر الفم في صورة أقراص، أو شراب سائل. وثمة كذلك أقراص توضع تحت اللسان، وأدوية أخرى تـحقن في أوردة الجسم، أو عضلاته، أو تحت الجلد، وأخرى يتم استنشاقها مع هواء الشهيق لتصل إلى الجهاز التنفسي، وغيرها تدخل الجسم عبر المستقيم، أو المهبل، في صورة تحاميل Suppositories، وهناك أيضاً أدوية يمتصها الجلد، وتُصنع في صورة مراهم ودهانات.
ويطرأ على الدواء الذي يدخل أجسامنا سلسلة طويلة من الأحداث، التي تتعاقب فصولها المتتالية من دون شعور منا، أو حسّ، أو إدراك. وهذا الأمر من دلائل عظيم صنع الله سبحانه وتعالى، الذي سخر لنا في أجسامنا أجهزة ذات قدرة فائقة على التعامل مع جزيئات الدواء، وتبدأ بذلك رحلة شاقة وطويلة، يسافر فيها الدواء داخل الجسم إلى أن يظهر أثره المطلوب، أعلاجياً كان أم وقائياً. وسنعمد إلى إيضاح عناصر تلك الرحلة كما يأتي:
- دخول الدواء إلى الخلية:
يتوجب على جزيئات الدواء المتناولة عبور غشاء الخلية Cell membrane، وهو حاجز منيع يحول دون تجوال الدواء بحرية وسهولة، ويمنع انتقاله عبر سائل الدم إلى أنسجة الجسم المختلفة. ويجب أن يجد هذا الدواء وسيلةً ما يحتال بها على هذا الحاجز، وينجح من خلالها في اختراق هدفه. وهناك عدة طرائق يتحايل بها الدواء على غشاء الخلية كي يسمح له بدخولها، منها:
انتشار الدواء عبر ذوبانه في الدهون Diffusion: وهو ما يحدث مع أدوية كأقراص الأسبرين، التي تذوب بسرعة في الدهون، وهو ما يسمح لها بعبور غشاء الخلية الدهنية في المعدة بسهولة، فتنتقل منها إلى مجرى الدم الذي يوصلها إلى أنسجة الجسم المختلفة.
الارتشاح Filtration: ويقصد به مرور جزيئات الدواء الصغيرة التي تذوب في الماء عبر مسامات صغيرة في غشاء الخلية.
يساعد ما يُعرف بالحامل الخاص Special Carrier بعض الأدوية على ولوج الخلايا بطرائق مختلفة تسهل عملية ذوبان الدواء، ودخوله إلى الخلية بيسر ومرونة.
تقوم بعض الخلايا بعملية فريدة تـجبر من خلالها الدواء على دخول الخلية بغية الاستفادة منه. وتحيط هنا الخلية بالدواء المستهدف من جميع الجهات، وتدفعه إلى دخولها قسراً، وهو ما يحدث مع أدوية كالفيتامينات.
- امتصاص الدواء:
تـمتص خلايا الجسم الأدوية السائلة بصورة أسرع من الأقراص الصلبة. كما أن امتصاص المادة الدوائية المأخوذة عبر الحقن الوريدية أسرع من تلك المأخوذة عبر الحقن العضلية.
تمتص المعدة والأمعاء السليمتان الدواء بشكل أسرع، بينما تضعف بعض أمراض المعدة والأمعاء عملية امتصاص الأدوية فيهما.
امتصاص الأدوية غير العضوية Non-organic drugs أسهل من الأدوية العضوية Organic، وكذلك هو الحال مع الأدوية التي تذوب في الماء؛ فإن امتصاصها أسرع من تلك التي تذوب في الدهن. وكلما كانت جزيئات الدواء أصغر، وتركيزها أعلى، كانت عملية امتصاصها أسرع.
كثيراً ما يؤدي تناول دواء ما إلى تقليل امتصاص دواء آخر؛ فمادة الأدرينالين -مثلاً- تضيق الأوعية الدموية، وهو ما يضعف امتصاص ما يتناوله المريض من الأدوية الأخرى.
لمحتوى المعدة من الطعام والشراب تأثير في امتصاص بعض الأدوية؛ فشرب الشاي -مثلاً- يقلّل امتصاص أقراص معدن الحديد.
- انتشار الدواء:
بعد تناول الدواء، وامتصاصه داخل خلايا الجسم، تبدأ مرحلة جديدة تُعرف بـ(انتشار الدواء Distribution)، ويُقصد بها وصول جزيئات المادة الدوائية إلى أنسجة الجسم المختلفة منقولةً عبر جريان الدم. وتتفاوت نسب الدواء المنتشر داخل الجسم بين نسيج وآخر، ويخضع ذلك لمعدل جريان الدم داخل كل نسيج؛ فالقلب والكلى والدماغ والكبد -مثلاً- تتلقى جرياناً دموياً مكثفاً، وهو ما يعني وصولاً سريعاً لجزيئات الدواء الآتية باتجاهها. وعلى عكس ذلك، تتأخر المادة الدوائية بعض الشيء في الوصول إلى أنسجة العضلات والأمعاء والجلد؛ بسبب ضعف ترويتها الدموية مقارنةً مع ما سبقها من أعضاء الجسم.
- التغيّر الحيوي للدواء:
تعدّ عملية (التغير الحيوي Biotransformation) المحطة الكبرى في رحلة الدواء الطويلة داخل جسم الإنسان. ويقصد بهذه العملية تغير الدواء عبر تفاعلات كيميائية خاصة من صورته المتناولة إلى صورة المادة الفعالة التي تحقّق الهدف العلاجي أو الوقائي المنشود. وتسند مهام القيام بهذه العملية المعقدة إلى الكبد؛ إذ تتفاعل إنزيماته حيوياً مع جزيئات الدواء التي تصل إليها؛ فتـغيّر من معالمها الكيميائية، فينتج من ذلك ظهور خلاصة منتخبة من جوهر المادة الفعالة. كما تسهم الكلى والرئتان والجهاز الهضمي في جزء من عملية التحول الحيوي لما يدخل أجسامنا من دواء.
يظهر الأثر المطلوب لما نتناوله من دواء بعد سلسلة طويلة من التفاعلات الكيميائية المعقدة داخل الجسم، مروراً بالمراحل المذكورة آنفاً. ويعمل الدواء المتناول في أجسامنا ضمن مسارات مختلفة تقود في نهاية المطاف إلى تخفيف حدة الأعراض المرضية التي يشكوها المريض. ومن تلك المسارات:
الطريقة الكيميائية: ومثالها إعطاء مضادات الحموضة التي تقوم بعلاج زيادة حموضة المعدة، وهو ما يزيل الشعور المزعج لدى المريض.
لبعض المضادات الحيوية المقدرة على مهاجمة الكائنات الحية المجهرية(4) التي تسبّب المرض، وهو ما يقود إلى قتلها بصورة مباشرة، أو إيقاف نموها وتكاثرها، وهذا الأمر يقلّل من أعداد تلك الأحياء الدقيقة في الجسم شيئاً فشيئاً.
تحـدّ أدوية علاج داء السرطان من عملية انقسام الخلايا السرطانية الشاذة، وهو ما ينقص أعداد تلك الخلايا، ويوقف نمو الورم السرطاني.
تنشأ عن تعرّض الدواء لعملية التغير الحيوي نواتج كيميائية، ومخلفات غير ذات قيمة أو جدوى، سرعان ما تتراكم في خلايا الجسم. ويجب أن تخضع تلك المواد لعملية إخراجها من الجسم؛ بغية تنقية الدم والأنسجة المختلفة من أثرها السام. ولكبد الإنسان دورها المهم في عملية إخراج الدواء، ويظهر أثر ذلك في تحويل بعض الأدوية إلى جزيئات صغيرة، يسهل على الجسم التخلص منها. وثمة طرائق كثيرة ينظّف من خلالها الجسم ما علق بأنسجته وخلاياه من شوائب دوائية، منها:
إخراج الجهاز البولي الأدوية التي تذوب في الماء عبر البول، مثل البنسلين.
التخلص من بعض أدوية التخدير عبر الجهاز التنفسي مع هواء الزفير الذي يـخرج من الرئة.
طرح بعض الأدوية عبر الجهاز الهضمي عن طريق اللعاب، أو ممزوجة مع فضلات البراز.
خروج أجزاء من مخلفات الدواء مع سائل العرق، أو مع حليب الأم المرضع، أو عن طريق الشعر والخلايا الجلدية المتساقطة.
ختاماً، رحلة الدواء الطويلة ومساره العجيب في جسم الإنسان من دلالات عظيم صنع الله تعالى، وإبداعه في خلق أجسامنا، فسبحان من علّم هذا الإنسان ما لم يعلم، وسبحان من أراه آياته في الآفاق، وفي نفسه البشرية، وسخر له ما في الكون، وسهل عليه اكتشاف ما يفيده من حقائق ومعلومات تنطق بوحدانية الله.
----------------------------------------
الهوامش:
(1) من أمثلة ذلك تناول مادة باراسيتامول Paracetamol لعلاج الألم.
(2) مثل تناول أدوية خاصة للوقاية من الإصابة بداء الملاريا.
(3) من ذلك استخدام قطرات خاصة في العين لتشخيص ما نزل بها من داء.
(4) الكائنات الحية المجهرية عالم خفيّ يحوي مليارات الكائنات الحية التي لا تُرى بالعين المجردة، بل تحتاج إلى عدسات المجهر المكبرة. ويضم عالم الميكروبات كلاً من: الفيروسات Viruses، والبكتريا Bacteria، والفطريات Fungus، والكائنات الأولية Protozoa.ولكلّ من تلك الكائنات خصائصها، وأشكالها المختلفة، وطرائق تكاثرها التي تمتاز بها.
إرسال تعليق