U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

- القصـة القصيـرة -

الحجم

* أوليــات الرؤيــة الفنيــة.
ظل الكتاب العرب في مصر وبلاد الشام والعراق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وحتى أوائل القرن العشرين يتخبطون بين الأشكال القصصية المختلفة دون أن يهتدوا إلى شكل فني يرضون عنه، ويبدو أنهم قد ضاقوا ذرعا بهذه المحاولات التقليدية التي يقلدون فيها القصص المترجمة، أو المقامة، أو القصص الموضوعة، وأرادوا أن يشكلوا فنا قصصيا يعبرون فيه عن بيئتهم، وأصالتهم وواقعهم الذي يعيشونه، بدلا من استخدامهم الأسماء الأجنبية، والبيئات الأوربية مسرحا لأعمالهم القصصية، ولاسيما أنهم ترجموا آلاف القصص الأوربية دون أن تعبر عن واقعهم الحقيقي.
يضاف إلى ذلك أن الحركات الوطنية التحررية كانت قد اندلعت في كثير من البلدان العربية، منادية بالتحرر والاستقلال. وكانت هذه الحركات قد أخذت في الازدياد والنمو نتيجة لانتشار الوعي الثقافي والفكري في بعض المجتمعات العربية.
وقد ساعدت هذه الحركات الوطنية على انتشار التعليم والصحافة والمدارس في بعض البلاد العربية، وقيام الحرب العالمية الأولى جعل هذه القوى تقوى وتستميت في الدفاع عن استقلال بلادها. الأمر الذي جعل معظم فئات الشعب من عمال وطلبة وغيرهم يطالبون بحقوقهم في الجرائد الرسمية وغير الرسمية، كما أن اندلاع ثورة 1919 في مصر جاء نتيجة حتمية لتطور الحركة الوطنية، الأمر الذي جعل طبقة العمال ينادون بأن تكون لهم مقاعد في البرلمان ويقولون : " يا قوم إننا محتاجون لطبقة تمثلنا في البرلمان بمعنى الكلمة، حتى تهدينا الطريق القويم، من تعديل الأجور، واعتراف بالهيئة العاملة، ومن قوانين تحمي به العامل وتنصفه، وتعلم أولاده وتقيه من العجز ".
كل هذه العوامل جعلت الكتاب يتطلعون إلى فن قصصي يعبر عن واقعهم، ولا يجتر الماضي أو البيئة الأوربية، لذلك يقول عيسى عبيد وهو أحد رواد القصة القصيرة الفنية في مصر : " ناديت بوجوب استبدال أدبنا الوجداني الخيالي بأدب جديد مبني على الحقائق المجردة المستخرجة في حياتنا اليومية ".
وقد نادى معظم جيل الرواد في مصر بضرورة ترك الخيال وعدم الإفراط فيه، وتصوير الحقيقة الواقعية، كما هي كائنة في الواقع، ولذلك يقول عيسى عبيد في موضع آخر : " والتزام الكاتب للصدق في الوصف سيجنيه تقليدا أعمى لأدب العرب القديم، أي أن عيسى عبيد ينادي بالريالزم –بدلا من الايديالزم- بأدب واقعي بدلا من أدب وجداني ". ويقول عيسى عبيد في مقدمة مجموعته " إحسان هانم " : " غواجبنا نحن الكتاب أن نعطي أدبنا العصري صفة حية ملونة خاصة به ويعرف بها. ولذلك يجب أن نجتهد ونتحرر من تأثير الأدب الغربي، بألا نتخذ من الروايات الأجنبية قاعدة لرواياتنا التي يجب أن تشاد على أساس الملاحظة الصادقة المستخرجة من أعماق حياتنا اليومية ".
ويتفق كل من محمد تيمور، ومحمود تيمور، وشحاته عبيد، ومحمود طاهر لاشين مع عيسى عبيد في ضرورة تصوير الحقيقة الواقعية في قصصهم.
وتتفق هذه الرؤية أيضا مع جيل الرواد في بلاد الشام ولاسيما ميخائيل نعيمة. فقد اقترنت قصص هؤلاء الكتاب بيئتهم المحلية، مثل مشكلات الرجل الريفي في القرية اللبنانية، كما أن إطلاع ميخائيل نعيمة على كتابات ديستويفسكي، وجوركي، وتشيكوف وغيرهم من الكتاب الروس عندما كان مبعوثا لروسيا سنة 1906 جعله يتقن فن القص، ويعرف أبعاده وسماته، ويقترب به من تصوير الواقع والحقيقة بدلا من الإفراط الخيال، ويتضح ذلك في أول قصة كتبها " سنتها الجديدة "، ويقترب من هذه الرؤية أيضا توفيق يوسف عواد، ومحمود سيف الدين الإيراني، من حيث التخلص من الخيال نسبيا، وكتابة القصة التي تحاكي الواقع محاكاة حقيقية. وقد استطاعت القصة القصيرة الفنية عند جيل الرواد في مصر وبلاد الشام أن تخطو خطوات متقدمة عن القصة الموضوعة والمترجمة، وأهم هذه الخطوات، التخلص من الإسراف الخيالي في التصوير والإقتراب بالقصة من الواقع المعيش، والتعبير الفني الصادق عن المشكلات الحياتية التي يعيشها الناس والعمل على وحدة القصة، بحيث تكون نسيجا متكاملا. والتخلص من الحشو والمباشرة والتكلف والإفتعال، والعمل على تكثيف القصة تكثيفا فنيا، وأخيرا اعتماد القصة القصيرة عندهم على لحظة التنوير وهي اللحظة النهائية في القصة، التي يفض الكاتب بها بعض المغاليق المبهمة في القصة فيوضحها ويفسرها ويكشف أسرارها.
ونشأة القصة القصيرة الفنية تختلف من مجتمع لآخر وفقا لتطور الفن القصصي في مجتمع ما من المجتمعات. فقد نشأت القصة القصيرة الفنية في مصر وبلاد الشام في أوائل القرن العشرين، ثم ظهرت لاحقا بعد ذلك في بلاد الخليج العربي في النصف الثاني من القرن العشرين.
ولسنا بصدد التحديد الدقيق والصارم لأول قصة قصيرة فنية في الأدب العربي، لأن الظاهرة الأدبية لا تنشأ بين يوم وليلة، كما أنها لا تقاس بعمل فردي، فشأنها شأن الظاهرة الإجتماعية تتطور تطورا تدريجيا، وقد تستغرق فترة طويلة من الزمن أو قصيرة تبعا لتفاعل المجتمع مع هذه الظاهرة، وتبعا لتفاعل الكتاب مع هذه الظاهرة الأدبية، ومدى مسايرتها للواقع المعيش ومن ثم يمكن القول : إن المحولات الفنية الأولى للقصة القصيرة ظهرت عند عدد من الكتاب في مصر وبلاد الشام وأهم هؤلاء الكتاب، محمد تيمور، وميخائيل نعيمة، و شحاته عبيد ، ومحمود طاهر لاشين، ومحمود تيمور، وتوفيق يوسف عواد، ومحمود سيف الدين الإيراني، و شكيب الجابري كما ظهرت هذه المحاولات في أوائل النصف الثاني من القرن العشرين في بلاد الخليج العربي، وبلاد المغرب العربي، ففي السعودية ظهرت القصة القصيرة الفنية عند إبراهيم هاشم فلالي في مجموعته " مع الشيطان " سنة 1952، وحسن عبد الله القرشي في " غروب أمل " سنة 1954، وأنات الساقية سنة 1956، وسعد البواري في شيخ من فلسطين سنة 1377 هـ، من قصص الواقع سنة 1376 هـ، وفي قطر نجد أولى المحاولات القصصية الفنية عند ابراهيم صقر المريخي في قصة " الحنين " سنة 1973، وعبد الله الحسيني في " عجوز في عاصفة " سنة 1973، وزهرة يوسف الملكي في " دمعة سقطت "، والمحاولات القصصية الأولى لكلثم جبر في مجموعتها " أنت وغابة الصمت والتردد ".
وفي الكويت ظهرت المحاولات الفنية للقصة القصيرة عند محمد الفايز، فقد نشر بين عامي 63-1967 أربعا وثلاثين قصة في مجلتي الرسالة والكويت، وحسن يعقوب في مجموعته " هدامة " سنة 1973 وإسماعيل فهد في مجموعته
" البقعة الداكنة ".
وفي البحرين نجد هذه البدايات عند خلف أحمد خلف في " وجهان وفأر مذعور " ضمن مجموعته القصصية " سيرة الجوع والصمت " وعند أمين الصالح.
وفي الجزائر ظهرت المحاولات الأولى الفنية عند كل من : السعدي حكار في " ليلة واحدة " (أفريقيا الشمالية) سنة 1948، وعبد الحميد هدوقة في " ظلال جزائرية "، وأحمد رضا حوحو في " صاحبة وقصص أخرى "، وأبو القاسم سعد الله في السعفة الخضراء سنة 1954، وأبو العبد دودو في الفجر الجديد سنة 1957.
وهكذا نجد أن القصة القصيرة الفنية ظهرت في البلاد العربية مع نشأة القصة القصيرة في كل قطر من هذه الأقطار، ونقف عند المحاولات الفنية للقصة القصيرة في أوائل القرن العشرين عند محمد تيمور، وميخائيل نعيمة وعيسى عبيد، وذلك على سبيل التمثيل.
أ/- محمد تيمــور (1892-1921) :
عنيت دراسات عديدة في محال النقد القصصي بمجموعة محمد تيمور القصصية " ما تراه العيون " ونشرت في كتاب سنة 1922، وقد أتاحت له ثقافته الفرنسية أن يقرأ قصص موبسان الفرنسي، وأن يتأثر بها ويفيد منها في الشكل والبناء، وتعد قصته " في القطار " التي نشرها سنة 1917 أول قصة قصيرة فنية له، وأهم الملامح الفنية التي اعتمدت عليها هي :-
1)- البداية بمقدمة أو افتتاحية رومانسية شأن البداية الرومانسية للقصة القصيرة عند بعض أصحاب القصة القصيرة الموضوعة كالمنفلوطي، وهذه المقدمة عني الكاتب فيها بوصف مناظر الطبيعة الخلابة والأشجار التي تتمايل يمينا ويسارا في خيلاء يقول : " صباح ناصع الجبين يجلي عن القلب الحزين ظلماته ويرد للشيخ شبابه، ونسيم عليل ينعش الأفئدة، ويسري عن النفس همومها، وفي الحديقة تتمايل الأشجار يمنة ويسرة وكأنها ترقص لقدوم الصباح، والناس تسير في الطريق وقد دبت في نفوسهم حرارة العمل، وأنا مكتئب النفس انظر من النافذة لجمال الطبيعة، وأساءل نفسي عن سر اكتئابها فلا أهتدي لشيء".
ويتضح من هذه الإفتتاحية أنها جاءت حلية جمالية وشكلية في بداية القصة، قصد الكاتب من خلالها إبراز المظاهر الجمالية للطبيعة، ووصف لحظات الصباح المشرقة، فضلا عن وجود بعض التناقض بين الرؤية والأداة، إذ كيف ترى النفس كل مظاهر الطبيعة من حولها جميلة وخلابة وتنعش الأفئدة وفي الوقت نفسه تشعر بالإكتئاب، فمن المألوف أن الحالة الشعورية للراوي تنعكس على مفردات الحياة وجزئياتها، لكن يبدو أن الكاتب أتى بهذه المقدمة ليحاكي بعض القصص الرومانسية الأوربية أو يساير طبيعة القصة البيانية التي كان يعني بها المنفلوطي.
وهذه الإفتتاحية نجدها في معظم قصص الرواد، وخاصة ميخائيل نعيمة
– وسنوضح ذلك فيما بعد- سواء على مستوى الرؤية أو الأداة.
2)- الرصد التسجيلي الدقيق لجزئيات الحياة، حيث يرصد الكاتب كل الركاب الذين استقلوا القطار، ويسجل الحوار الذي دار بينهم حول أهمية التعليم، ويطرح وجهة نظر كل واحد فيهم حول هذه القضية، والراوي يعد نفسه واحدا من شخوص القصة، فيشارك في سياق الأحداث، ويصف الشخصيات وصفا واقعيا يتناسب مع واقعهم الحياتي المعيش. ويعتمد هذا الوصف في كثير من الأحيان على الحس الساخر ليبرز وجهة نظر الراوي تجاه الشخصية، يقول –على سبيل المثال- في وصف الأستاذ :
" ودخل شيخ من المعممين، أسمر اللون طويل القامة، نحيف القوام، كثيف اللحية، له عينان أقفل أجفانهما الكسل، فكأنه لم يستيقظ من نومه بعد. وجلس الأستاذ غير بعيد عني، وخلع مركوبه الأحمر قبل أن يتربع على المقعد، ثم بصق على الأرض ثلاثا، ماسحا شفتيه بمنديل أحمر، يصلح أن يكون غطاء لطفل صغير ".
ويتضح لنا من خلال هذا الوصف الدقيق، مدى سخرية الراوي من الشخصية، لأن الأستاذ كان يمثل في القصة شريحة الطبقة الطفيلية التي تتقرب للبك الشركسي، وكبار الملاك حتى تقفز إلى مستوى أعلى. لذلك يسخر منه الراوي وينعته بالسلوك الأخلاقي، فهو يبصق على الأرض، برغم أنه يملك منديلا كبيرا يصلح لغطاء طفل، ويبدو الكسل في عينيه. وهكذا في وصفه لشخصياته نجد أن الوصف يكون دالا على الشخصية، أما السخرية التي شكلت لازمة في وصفه لبعض الشخصيات فيبدو أن هذا التكنيك جاء من خلال تأثر الكاتب بالكتابة المسرحية. ويبدو أن هذا الوصف التسجيلي كان سمة عند جيل الرواد.
3)- اللغة مزيج من العامية والفصحى والألفاظ التركية، وفي الوقت نفسه لغته تلقائية لا تميل إلى التكلف أو الإفتعال، كما أنها تتوافق مع فكر الشخصية وثقافتها، حيث يستنطق شخصياته بكلمات تتوافق مع تراكيبها الإجتماعية. فيجعل الأستاذ المعمم يتكلم بلغة فصحى تتضمن آيات من القرآن الكريم والحديث الشريف، والأفندي ذو الهندام الحسن يستخدم تعبيرات مبتذلة سوقية كقوله : " ابن الحظ والأنس يا أنس " والشركسي يستخدم بعض المفردات التركية كقوله : " أدب سيس فلاح "، والتلميذ يتكلم لغة أديبة راقية بعيدة عن التكلف والإبتذال، والراوي كذلك شأنه شأن التلميذ في لغته المستخدمة.
وهكذا نجد الكاتب يستخدم لغة فنية تتوافق مع شخصيات القصة، ويكون لهذا المستوى اللغوي دلالته الفنية والموضوعية في القصة. حيث تعبر عن التركيبة الإجتماعية والوعي الثقافي والفكري للشخصية.
وقد كان هذا المستوى اللغوي سائدا عند معظم جيل الرواد، لتوافق الظروف السياسية والإجتماعية التي كان يعيشها الكتاب في معظم الأقطار العربية.
4)- عدم الإسراف في التصوير الخيالي للعاطفة، وهذا ما نجده في معظم كتابات جيل الرواد، حيث تخلصوا من الإغراق في التصوير الخيالي للعاطفة، كما كان يفعل المنفلوطي، أو جبران خليل جبران، أو لبيبة هاشم.
وفي قصة " في القطار " نجد أن محمد تيمور ابتعد عن الإسراف في العاطفة، وترك الأحداث والشخصيات تتفاعل مع بعضها البعض دون تدخل منه. ويتضح ذلك من خلال احتدام الصراع بين الشركسي والعمدة والأستاذ المعمم من جهة، والراوي والتلميذ من جهة ثانية، وبرغم احتدام حدة الصراع بينهما، وبرغم قسوة الشركسي والعمدة على الفلاحين إلا أن الكاتب لم يغال في تصوير التعاطف مع الفلاحين لكنه ترك الشخصيات تحدد مواقفها دون تدخل منه.
5)- الإعتماد على المباشرة والتقريرية، لأن القصة القصيرة كانت في طور التكوين، ولم تتخلص كليا من الحشو والتقريرية، فالشخصية تصرح بما تريد قوله من نقد اجتماعي دون إيحاء أو تلميح، يتضح ذلك في قول الشركسي للراوي : " السوط، إن السوط لا يكلف الحكومة شيئا، أما التعليم فيتطلب أموالا طائلة، ولاتنس أن الفلاح لا يذعن إلا للضرب لأنه اعتاده من المهد إلى اللحد ". ويقول التلميذ للعمدة : " الفلاح يا حضرة العمدة لا يذعن لأوامركم إلا بالضرب لأنكم لم تعودوه غير ذلك، فلو كنتم أحسنتم صنيعكم معه لكنتم وجدتم فيه أخا يتكاتف معكم ويعاونكم ولكنكم –مع الأسف- أسأتم إليه، فعمد إلى الإضرار بكم تخلصا من إساءتكم، وإنه ليدهشني أن تكون فلاحا وتنحي باللائمة على إخوانك الفلاحين ". يبدو أن هذا الملمح لم تتخلص منه القصة القصيرة الفنية في أول عهدها، لأنها كانت ما تزال في طور التكوين فضلا عن أنها كانت قريبة العهد بالقصة الموضوعة والمقامة، الأمر الذي جعل هذه السمة ملازمة لها.
6)- البناء التقليدي للزمن، حيث يبدأ من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، فيتصاعد تصاعدا تدريجيا، لأن كل حدث يسلم للحدث التالي له مباشرة، وهذا نجده في قصة " في القطار " حيث نجد أحداث القصة تبدأ في وقت الصباح في أوله : " صباح ناصع الجبين " ويستمر هذا الزمان في التصاعد التدريجي من وقت صباح إلى الضحى حيث استقل الراوي القطار إلى ضيعته، وتنتهي القصة عند وصول الراوي إلى ضيعته.
7)- البناء التقليدي للمكان، فيحرص الكاتب أن يكون المكان حقيقيا أو طبيعيا، كالبيت أو الشارع أو محطة القطار، أو الضيعة، وهي الأماكن التي كانت مسرح أحداث القصة. ويعد هذا البناء خطوة متقدمة عنها في القصة الموضوعة، لأن مرحلة ما قبل القصة الفنية كان الكتاب يميلون إلى استخدام الأماكن الخيالية والمتافيزيقية.
8)- الاعتماد على لحظة التنوير في نهاية القصة وبخاصة في قصته " لبن بقهوة ولبن بالتراب " من نفس المجموعة، وفيها يسرد الكاتب أحداث القصة، فيتناول الراوي اللبن مع القهوة كل صباح، وفي ذات يوم شاهد قدرا من اللبن قد تحطم من رجل وابنه أثناء ركوبها القطار، فيهرول طفلان ويلحسان بقايا اللبن الممزوج بالتراب، وهنا يكشف الراوي في نهاية القصة : " رأيت طفلين من أطفال شوارع الإسكندرية يتسابقان لمكان الحادثة، وكانا لابسين من الملابس مالا يحجب من جسدهما إلا القليل عاري الرأس، حافي الأقدام، تتراكم على جبهتهما وملابسهما القاذورات والأوساخ. تسابقا لمكان الحادثة، ولما وصلا إليه ركعا على الأرض ولبثا يلحسان اللبن، وكان لبنا بالتراب لا بالقهوة ".

ب/- ميخائيـل نعيمــة :
يعد ميخائيل نعيمة أحد رواد القصة القصيرة في أدبنا العربي، وإذا كان محمد تيمور قد تثقف ثقافة فرنسية، ولاسيما بأعمال موبسان. فإن ميخائيل نعيمة قد تثقف ثقافة روسية، ولاسيما أعمال كاندرييف، ودوستويفسكي، ومكسيم جوركي، وتشيكوف. وذلك عندما كان يتلقى دراسته في جامعة بولتافة بروسيا سنة 1906، كما أنه تعلم الإنجليزية ودرس الأدب الإنجليزي في جامعة واشنطن، وهذه الثقافة أتاحت له الإطلاع على الثقافتين الروسية والأمريكية وفي المهجر استطاع أن يلتحم مع الأدباء العرب، وفي طليعتهم نسيب عريضة صاحب مجلة الفنون وجبران خليل جبران.
وقد تأثر ميخائيل نعيمة ببعض قصص جبران مثل قصة " الأجنحة المتكسرة " وأراد أن يكتب قصة يتجاوز فيها الأخطاء الفنية التي وقع فيها جبران، فكتب أول قصة له بعنوان " سنتها الجديدة " ونشرت ضمن مجموعته " كان ما كان " سنة 1937. وكتب بعد ذلك مجموعتين أخيرتين هما : " أكابر " سنة 1956 و" أبو بطة " سنة 1959. وقصة " سنتها الجديدة " تعد أول قصة قصيرة فنية كتبها سنة 1914، وتدور حول معالجة قضية حياتية يعايشها مجتمعنا العربي دائما، وهي تصوير عواطف أب له سبع بنات، والأب الشيخ أبو ناصيف شيخ قرية يربوب، وقد ورث المشيخة عن أبيه وجده لكن الله لم يرزقه بولد، وظل حزينا لأنه كلما انتظر أن يكون المولود ذكرا يولد أنثى، حتى أصبح له سبع بنات، حتى أنه اشتد ضيقه بالمولودة الأخيرة وحملها بعد ولادتها وأودعها التراب في غابة الصنوبر خلف الكنيسة، ويظل حزينا حتى نهاية القصة.
واعتمد الكاتب في هذه القصة أيضا على الملامح الفنية للقصة القصيرة عند الرواد ومنها :
1- الرصيد التسجيلي لجزئيات الحياة وخاصة الحالات النفسية التي يمر بها الأب وهو ينتظر مولوده الجديد، فيرصد الكاتب المشاعر الإنسانية له رصدا تسجيليا، مثل تصوير مشاعر الأب لحظة انتظاره ميلاد المولود الجديد وحالات الأرق والتوتر التي تنتابه " والقصة فيها تحليل نفسي دقيق، ووصف ينتهي عند تصوير الجزئيات والتفاصيل الصغيرة، ولكن ينتقصها التنسيق والتناظر حيث أفسدها الإغراق في التخيل والإلحاح في الوصف والتصوير ".
2- اعتماد القصة على لحظة التنوير، حيث يمثل انتظار الشيخ أبو ناصيف للمولود الأخير لحظة التنوير التي تكشف لنا سر الإنتظار العقيم، حيث يأتي المولود أنثى على غير توقعات الأب.
3- البناء التقليدي للزمان حيث تصور القصة مراحل انتظار الأب لكل مولود بداية من الأول وحتى السابع وفي كل مرة يأتي المولود أنثى، فالزمان يبدأ من الماضي إلى المستقبل ويتصاعد تدريجيا شأن كل قصص جيل الرواد.
4- البناء التقليدي للمكان، فالبيت وغابة الصنوبر والكنيسة هي الأمكنة التي تدور حولها القصة ولا يلجأ إلى الأمكنة التخيلية أو الميتافيزيقية كما في مرحلة القصة الموضوعة.
5- الإعتماد على المباشرة والتقرير في معظم أحداث القصة، فالأب يصرح مباشرة برغبته في إنجاب الذكر لأنه سيكون بمثابة الحلم الذي طال انتظاره له يقول عنه إنه " حلم حياته، وعكاز شيخوخته ووريث ثروته، ومحي شرف عائلته ".
فالكاتب يصرح بما يريد قوله مباشرة، فضلا عن استخدامه التعبيرات الصوفية التي تعكس حالة الكاتب ولا تعكس حالة شخصياته، كما أنه يتدخل في سياق الأحداث، وفي رسم مشاعر الشخصية ورسم أبعادها، ولا يترك الشخصيات تحدد مصائرها بنفسها وهذا من أهم عيوب القصة القصيرة الفنية عند معظم جيل الرواد.
وهكذا نجد هذه السمات أيضا في بقية قصص المجموعة للكاتب، وبخاصة في قصته " العاقر " سنة 1915.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة