U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

دراسة تاريخية و فنية لإلياذة هوميروس :

الحجم

تمهيد تاريخي:
تعني كلمة (إلياذة) «ملحمة اليون» و موضوع الملحمة حوادث وقعت أثناء الحرب التي نشبت حول مدينة اليون نحو سنة 1200 أو 1100 قبل الميلاد ، أي سنة 1800 أو 1700 قبل الهجرة . و الإلياذة هي أول الشعر القديم و أعظمه، و لعلها أعظم شعر على الإطلاق قديما كان أو حديثا.
و تقع اليون في الأرض المسماة طروادة ، وتسمى حربها الحرب الطروادية . و المعروف أن هذه الحرب دامت عشر سنين. و لكن الإلياذة ليست تاريخا لهذه جميعها، بل هي تتناول حوادث وقعت في أيام قليلة من عامها العاشر فقط.
وقصة الإلياذة تسرد بتفصيل واف وقائع الخصام ما بين زعيمين كانا حليفين في الحرب، وما أنتجه خصامهما هذا من كوارث لأصدقائهما. وقد قال أحد شعراء الرومان :
« إن الإلياذة، بتقديمها الأمثال عن عظماء وهم يعملون، تعلم ما هو شريف و ما هو شائن، وما هو لائق و ما هو غير لائق أفضل مما يعلم كل الفلاسفة النظريين ».
و أرض طروادة هي الزاوية الشمالية الغربية من الأناضول ، البحر غربها و مضيق الدردنيل شمالها ، وطروادة على بضعة كيلومترات من البحر شرقا ، ومن الدردنيل جنوبا ولا تزال أطلالها ماثلة إلى اليوم .
كان في الجانب الواحد من الحرب رجال اليون تحت إمرة مليكهم فريام العجوز و أبنائه العديدين ، و كان له من الحلفاء ملوك غرب الأناضول ، و الجانب الأوروبي الواقع إلى الشمال من الدردنيل ، و أما أعداؤه فغزاة عبروا البحر من الأرض و الجزر التي تدعى الآن بلاد اليونان.
كانت قوة هؤلاء الأعداء تتألف من قبائل متعددة يطلق عليها اسم الاخائيين ، تأتمر كل منها بأمر مليكها الخاص ، و لكنها جميعا كانت تدين لملك الملوك المسمى آغاممنون وقد عبروا البحر إلى الدردنيل ، و اتجهوا بسفنهم إلى الشاطئ الرملي جنوب المضيق قرب مدخله ، وعسكروا هناك يوجهون غاراتهم برا إلى اليون ، و بحرا إلى حلفائها ، وظلوا على ذلك مدة تسع سنين .
كانت قصة هذه الحرب تنتقل بالتواتر و بالأناشيد تنشد في أبهاء الملوك و النبلاء، إلى أن دونت كتابة بعد قرون من نهاية الحرب، و لكنها قبل أن تكتب تاريخا نثريا كان هوميروس الشاعر العظيم – ولعله أعظم الشعراء طرا – قد وضع الإلياذة حوالي سنة 900 قبل المسيح و تتضمن الإلياذة 24 ( كتابا ) أو فصلا و نحو 16000 بيت من الشعر، أما بقية القصة فلم تعرف إلا من أقاصيص مقتضبة مستقاة بالتواتر ، ومن أساطير تناقلتها ألسنة الناس ولم يكن يعرف إلى عهد قريب عن اليون وأعدائها أكثر مما كان يقرأ في الإلياذة وما تلاها من نثر وشعر دون جميعه بعد الإلياذة، وكان تاريخ الشعوب المحاربة وجيرانها قبل حرب طروادة وبعدها تاريخا يكتنفه الغموض و الصمت ، أو الاضطراب و التشويش، ولكن علماء الآثار نقبوا في الستين سنة الأخيرة عن موقع طروادة و غيرها من المواقع في بلاد اليونان و الأناضول والعراق ومصر فوجدوا الكؤوس الذهبية التي كان يستعملها الناس لشرابهم ، كما وجدوا السيوف البرونزية المطلية بالذهب التي كانوا يحاربون بها حتى قبل الحرب الطروادية بقرون وهكذا أصبح في إمكاننا أن نفهم الطريقة التي كان يتبعها الناس في تلك الأيام في أمور معاشهم ، ونقدر أن نتصور فنهم ومدنيتهم مما بين أيدينا من مواد ، كما نتصورها من أشعار هوميروس.
أعظم خطرا من ذلك هو اكتشاف المستندات التاريخية المكتوبة بالحروف الهيروغليفية و المسمارية ، منبئة عن الإمبراطوريات العظيمة و الدول التي كانت قائمة في المدة التي سبقت الحروب الطروادية وفي أثنائها ، أي في الألف الثانية قبل الميلاد وهذه المستندات معاصرة للحوادث التي تصفها ، ومنها استقينا المعلومات الوثيقة عن تنقل الشعوب من الشمال إلى آسيا ، وعن قوى القراصنة في شرق البحر المتوسط ، وعن الأعداء الذين هددوا الإمبراطورية الحثية في الأناضول و سورية ، وهاجموا الإمبراطورية المصرية ولكن الإلياذة وحدها هي التي تعطينا صورة حية مفصلة عن معيشة الناس، ونوع تفكيرهم وأسلوب تخاطبهم في كثير من عصور الكفاح.
كان تاريخ الألف الثانية قبل الميلاد من سنيه المتأخرة إلى حرب طروادة كما يأتي بالاختصار :
كانت هنالك ثلاث إمبراطوريات كبيرة برية إحداهما في وادي دجلة و الفرات ، حيث كانت اللغة السامية هي اللغة السائدة و الثانية في وادي النيل، حيث كانت اللغة تختلف كل الاختلاف عن تلك و أهل النيل معروفون لديكم من الصور، التي وجدت في قبورهم وكانت الإمبراطورية الثالثة في الأناضول ، حيث كان السكان يشبهون الشعب الأرمني في هيئته و عاداته وكانت هنالك دويلات صغيرة كانت تقوم حاجزا بين الإمبراطوريات الكبيرة أو كانت تابعة لتلك الدول و على شيء من الاستقلال.
وهذه الإمبراطوريات الثلاث كانت كلها ترغب في التسلط على سورية و فلسطين ،
و كانت الإمارات الصغيرة في هذين القطرين تحالف، أو تتبع إحدى هذه الإمبراطوريات تارة، أو تحالف و تتبع غيرها تارة أخرى.
وفي الوقت ذاته كانت القبائل الرحل تتجه من سهول أواسط أوروبا وأواسط آسيا وتغير بلا انقطاع من الشمال على الأراضي المسماة الآن ايطاليا و بلاد اليونان ، وعلى الأناضول كما أغارت على نجد إيران مهددة بابل من هناك وكان هؤلاء الشماليون يتكلمون جميعهم بلهجات للغة واحدة ، ومن هذه اللغات جاءت اللغة الفارسية و اللغة الهندية و جميع اللغات الكبرى في أوروبا كالانكليزية و الألمانية واللاتينية والإغريقية والروسية ، وجميع اللغات اللاتينية الحديثة كالفرنسية والاسبانية و الايطالية وقد نظمت الإلياذة باللغة اليونانية القديمة.
الشماليون الذين جاءوا من وادي الدانوب إلى البلقان والأناضول أصبحوا طوافي بحار فأخضعوا جزر ايجه وكريت وأقلقوا بغزواتهم بلاد شرق المتوسط جميعها ، كما أقلق أنسباؤهم القبائل الاسكندنافية ( ماجوس ) في سفن قرصنتهم غرب أوروبا بأجمعه وخلفاء الأندلس بعد ذلك بأكثر من ألفي عام وكما تمدنت هذه القبائل تدريجيا بتأثير الشعوب التي هاجمتها ، هكذا اصطنع الشماليون الأولون بعض ثقافة البحر المتوسط كما يظهر في الإلياذة فلم يفيدوا من المدنية المادية فقط بل أظهروا ميزات خلقية شريفة.
يظهر من المستندات المسمارية التي وجدت في الأناضول أن الإمبراطورية الحثية قبل حرب طروادة بمدة من الزمن ، تسلط عليها الشماليون الذين كانوا يتكلمون لغة تشبه اللغة اللاتينية القديمة ، وكانوا يمثلون الطبقة الأرستقراطية الحاكمة في حين كان سواد الشعب متمسكا بلغته الأصلية و ديانته و تقاليده وكانت القبائل التي احتلت بلاد اليونان و الجزر تمت إلى هؤلاء الغزاة بصلة النسب وكانوا يتكلمون اليونانية القديمة، وهي تشبه لغة الفاتحين في الأناضول.
لما كانت هذه القبائل قد استقرت في بلاد اليونان وكريت وجزر بحر ايجه و الشواطئ الأسيوية ، فقد كان من الطبيعي أن يصبحوا قراصنة ، ويختلطوا بأهل البلاد الأصليين ، الذين يعيشون بينهم وغدا هؤلاء القراصنة أول خطر هدد سورية و مصر.
وقد تحالف القراصنة حينا مع الليبيين في شمال إفريقيا ، لكي يهاجموا غرب الدلتا وفي القرن الثالث عشر قبل الميلاد ، لما أدركت الشيخوخة رعمسيس الثاني ، قام الليبيون بهجوم ، ولكن قادة رعمسيس غلبوهم وصدوا هجومهم هذا.
وأعاد الليبيون الكرة في أيام منفتاح بن رعمسيس الثاني ، وساعدهم في هجومهم قراصنة الشمال ، ولكنهم قهروا مرة أخرى وأخيرا عند بدء القرن التالي انحدرت إليهم الشعوب الأناضولية برا مجتازة سورية و فلسطين، ومعها المركبات تجرها الثيران، يرافقها النساء و الأطفال وفي الوقت عينه انحدر أسطول من القراصنة بحرا محاذيا الشاطئ فانتصر الملك المصري رعمسيس الثالث على الأسطول ، قرب سبخة البردويل على الأرجح ، ثم هاجم الحملة البرية في فلسطين ، وأصاب نصرا مبينا.
جرت كل هذه الحوادث في أثناء ملك منفتاح و رعمسيس الثالث ، وفي عصر الرجال الذين حاربوا حول طروادة ، بحسب تقدير المؤرخين اليونانيين القدماء ولكن الزمن الذي نشبت فيه حرب طروادة لم يقرر تماما ، فلا نعلم هل كان ذلك قبل غزوة فلسطين الكبرى في أيام رعمسيس الثالث أو بعدها وكل ما نعلمه أن هذين الحدثين كانا من جملة الاضطراب العام الذي أحدثه الغزاة الشماليون وإذا رجعنا إلى المستندات المصرية وجدنا أن من بين القبائل الكثيرة التي هاجمت فلسطين ومصر كانت القبائل الفلسطينية *
و الاخائية أعظمها شأنا.
وقد استوطنت فلول القبائل الأولى بعد انحدارها أمام رعمسيس الثالث السهل الساحلي من فلسطين التي سميت باسمهم واندمج هؤلاء تدريجيا في الوطنين ، واتخذوا لغة سامية . وفيما يلي ذلك شمالا حدث ما يشبه هذا ، وأدى إلى القرصنة بساكني ساحل لبنان ، وهم الفينيقيون الذين لعلهم ، لولا ذلك ، لظلوا من رجال البر .
أما الاخائيون ، فان أهم ما نعلمه عنهم يرجع إلى الصورة الحية التي تعطينا إياها الإلياذة عن تلك المغامرة الشهيرة ، وهي حرب طروادة ، ومع أن زمن الحرب لا يعرف بالضبط كما ورد سابقا ، فمن المحتمل أنه كان بعيد الأحداث التي ذكرت في المستندات المصرية الهيروغليفية.
سبب هذه الحرب ، بحسب الأسطورة ، هو سبي فاريس ابن ملك اليون لهيلانة زوجة ملك الايخائيين وقيل أن هيلانة هذه كانت أجمل بنات الأرض جميعا ، فكثر طالبوا ودها وهي فتاة ، وكان عروسها المختار هو مانيلا ، ملك اسبارطة ، و أخا أغا ممنون ، الذي كان ملك مسينا قرب أرغوس وكان هذا هو الحاكم الآمر ، أو ملك الملوك بين الاخائيين وقد حمل فاريس هيلانة إلى اليون ورفض الطرواديون إرجاعها.
ولهذا استنفر آغاممنون ملوك التحالف الاخائي وأمراءه لمعاقبة الطرواديين وحارب كل هؤلاء الملوك في اليون كما ورد في الإلياذة ومنهم نسطور المسن ، وقد كان حكيما عند المشورة ، ولكنه كان ثرثارا ، و أياس السلمي من أشدهم قوة و شجاعة ، و أوذيس الذي حذق فنون الحرب كما حذق وضع الخطط و الحيل ، ثم الفتى أخيل الذي كان سريع الخطى مخيفا في الحرب ، كريما ، ولكنه أحيانا لا يشفق ولا يرحم وهو أشبه بالاسكندر الكبير من أية شخصية تاريخية أخرى .
ولم يكن فاريس الضعيف ، الخاضع لأهوائه أعظم أبطال الجهة الطروادية ، بل إن أخاه هكطور هو الذي حمل أهم أعباء الحرب ، وكانت قسمته الموت بيد أخيل .
تختم الإلياذة بمأتم هكطور ، ولكن الأقوال المتواترة أتمت القصة فقيل أن أخيل قتل بسهم رماه به فاريس من بعيد ، وان الاخائيين لم يتمكنوا من الاستيلاء على طروادة حتى أرشدهم أوذيس إلى الوسيلة وتقول القصة أن الاخائيين صنعوا حصانا عظيما أجوف من الخشب ، وأدخلوا إلى جوفه أشجع أمرائهم ورحل الباقون عن الأمكنة المجاورة لاليون أما الطرواديون فلشدة فرحهم بالخلاص ، جروا الحصان إلى داخل المدينة وجعلوه تقدمة في هيكلهم الأكبر ولما جن الليل، خرج الأمراء من الحصان، فاستولوا على أبواب المدينة، وأدخلوا صحبهم الذين كانوا قد انسلوا راجعين، وأقاموا ينتظرون خارجا وعندها نهبوا المدينة وأحرقوها.
ليست قصة «الحصان» محض اختلاق ، ولم يكن النصح بعمله بدعة سخيفة ، فإننا نعلم الآن أن الأسيويين في تلك الأيام كانوا مهرة في وضع الأساليب لحصار المدن ذوات الأسوار ، واستعملوا لذلك آلات متعددة ، كالأبراج الخشبية القائمة على عجلات ، يتقدمون بها نحو الأسوار واستعمل الصليبيون آلات شبيهة بها في حصار القدس سنة 1099 بعد الميلاد، أي بعد ذلك بأكثر من ألفي سنة.
يظن الآن أن الاخائيين تعلموا شيئا من فن الحصار ، بعد أن ظلوا مدة طويلة يشعلون الحرب عبثا في السهل حول أسوار اليون المنيعة ، فاستعملوا آلة دعوها «الحصان» .
وقد ذكرت قصة سقوط اليون مفصلا بعد هوميروس بسنين طويلة ، في أيام الإمبراطور اوغستوس ، ذكرها شاعر عظيم آخر هو فرجيل ، وبلغة مختلفة هي اللاتينية .
قصة فرجيل هذه بعضها تاريخي متواتر ، وبعضها من نسج الخيال وقد عرف الآن أن حوادثها الرئيسية ممكنة تاريخيا، وقد تحتوي على كثير من الحقيقة وملحمته «الانيادة» أو قصة انياس تروي أن بطلا طرواديا وهو انياس المذكور في الإلياذة ، قد نجا من طروادة مع بعض صحبه ، حتى بلغ ايطاليا أخيرا ، وهناك أسس أعقابه مدينة روما
وفي تلك الأيام كانت عصابات جوالة كهذه تملأ البحر المتوسط فليست القصة و الحالة هذه غير مستحيلة وحسب، بل هي من قبيل المحتمل ولا ريب في أن عصابات كثيرة غير هذه ، قدمت بحرا من الشرق إلى ايطاليا ، بعد حرب طروادة بعدة قرون ، وكانت قبائل الأتروسكان و الإغريق أعظمها خطرا .
وستكشف لكم هذه القصة المنقولة إلى العربية عن شيء من الآداب و العادات عند الاخائيين و أعدائهم ، ولكن من الضروري أن تفهموا قليلا عن ديانتهم أولا ، وشيئا عن خلقهم فان الاخائيين و الطرواديين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة ، ويعتقدون أن آلهتهم و الاهاتهم لهم شكل البشر .
ونحن نسميهم آلهة و الاهات ، وفي الحقيقة أن أناس تلك الأزمان لم تكن لديهم أية فكرة عن معبود قادر أزلي ، وكانوا يرون أن هاته أحدث عهدا من العالم المادي فهم في اعتقادهم خالدون، ولكن وجودهم ليس أزليا وكانت لهم القدرة العظيمة و القوة الفائقة، ولكنهم لم يكونوا على كل شيء قادرين وكانوا جميعا أسرة واحدة ، أبوهم زوس الذي أفضى الأمر بفلاسفة الإغريق إلى أن يروا فيه ما يراه المسلمون والمسيحيون في الله القدير على كل شيء و زوس في الإلياذة فوق الآلهة جميعا ، وهو عرضة لإرادة القضاء و القدر فقط.
لقد أدخل الآلهة و الإلهات في الإلياذة كأشخاص عاملين فإن خططهم ومناقشاتهم ومخاصماتهم وأعمالهم تؤثر في مجرى الحرب ، وقد سيق الكلام عليهم كأنهم من الشخصية وحقيقة الوجود بمنـزلة لا تقل عن منـزلة المحاربين من بني البشر وكون هؤلاء الآلهة مزيفين لا يستتبع أن تكون الحوادث البشرية الواردة في الإلياذة غير حقيقية في جوهرها.
فان الشاعر كان يفترض أعمالا يقوم بها أشخاص إلهيون ، لكي يفسر ما قد يبدو غريبا لا يرجع إلى سبب طبيعي واضح كأن تقع نجاة عجيبة في المعمعة، أو يخطر خاطر فيه الخلاص أو الهلاك وهكذا نجد أن الأفكار و البواعث التي تقرر عمل الأبطال ينظر إليها غالبا كأنها وحي اله، توحي أحيانا بكلمات مسموعة وحضور مشاهد.
وقد يلجأ اليوم من يؤخذ متلبسا بعمل شائن إلى مثل هذه الوسيلة ، فيحاول الاعتذار بقوله «قد أغراني الشيطان» ، ولكن الشيطان في أيامنا لا تراه العين أو تسمع به الأذن . وهذا العذر لا يقيم له الحكام وزنا.
وتعزى إلى كل من آلهة هوميروس سجايا وأخلاق وأعمال خاصة تجعل منهم جماعة منظمة فأثينا عندهم هي اله الحكمة ، وأفروديت إلهة الحب ، وآرس اله الحرب ، وهيفست هو الصانع أو الحداد الذي يبني الدور ، ويقوم بعمل الأثاث لإخوته و أخواته .
والسبب الذي حدا بالاخائيين و الإغريق من بعدهم إلى اتخاذ آلهة كثيرة ، هو أنهم كانوا عنصرا فاتحا ظافرا مؤلفا من قبائل كثيرة ، لكل منها أسرة صغيرة من الآلهة ، قد تختلف أسماؤها عندهم عن الأسماء التي يطلقها عليها جيرانهم ، ولكنها في الحقيقة لها أخلاق واحدة ، وأعمال واحدة .
ولما أصبحت القبائل الإغريقية شعبا واحدا، اتخذ بعضهم آلهة البعض الآخر، كأنها أشخاص مختلفة، ولم يرو فيها آلهتهم نفسها بأسماء غير الأسماء التي ألفوها و على هذا الوجه اتخذ الإغريق آلهة الشعوب التي قهروها ولكن أسرة الآلهة في أيام هوميروس كانت تتميز بصفات أهل الشمال فان الإله الأول زوس يطلق عليه الاسم ذاته في بلاد اليونان والهند وايطاليا مما يدل على أنه انحدر جنوبا مع الغزاة ، وهو عندهم اله السماء ، ولكنهم في الأزمنة المتقدمة كانوا يعتقدون أنه يعيش في جبل عال ، هو أعلى الجبال في كل بلد يسكنه عباده وعلى هذا كان مسكنه الأولمب في اليونان ، وهو جبل في شمال البلاد وأفضى الأمر إلى أن يعد بتأثير الآراء الدينية الرفيعة روحا تسكن السماوات. والأولمب و السماوات ، حتى عند هوميروس ، يذكران كأنهما اسمان مترادفان لمقر واحد .
لم تكن آراء الاخائيين في آلهتهم ثابتة لا تتغير فقد كانت الآلهة عندهم مزيجا تحدر من قبائل وشعوب متعددة وقد نسبت إلى بعض الآلهة قصص ساذجة، ووحشية كثيرة.
ومن جهة ثانية فان ساكن السماء عند الاخائيين كان شخصية أدبـية تحب العدالة ومع ذلك فقد ظهر لنا هو نفسه أحيانا يميل مع الهوى. ومع أن الاخائيين قد رووا عن الآلهة قصصا تظهرهم أحيانا بمظهر الخيانة والفساد والقسوة والبطل ، فان هذه الصفات لم تكن لتتخذ كمثال يحتذيه البشر .
ولم يكن اخائيو هوميروس على الغالب كاملين في سلوكهم ، ولكنهم كانوا يؤمنون بالفضيلة ، ويحاولون جهدهم أن يقتدوا بآلهتهم في أسمى صفاتهم وقليلا ما نجدهم في الإلياذة ينحطون إلى مثل الدركات السفلى التي انحط إليها شر معبوداتهم ، كآرس الذي كان اله الحرب ، ولكنه لم يكن اله الفروسية ، بل كان أقرب إلى قسوة الرعاع و غرورهم .
إن الإلياذة في الأصل ملحمة شعرية، ولكن الترجمة التي أمامكم الآن هي نثر مختصر بعض الشيء وقد ترجمت الإلياذة إلى العربية شعرا منذ أربعين سنة، ترجمها العلامة سليمان البستاني وعلى كل محب للشعر أن يطالعها.
ولوزن الشعر في الإلياذة أساس كالأوزان العربية، أي أنه منوط بالتميز بين المقاطع، ما يلفظ منها بسرعة وما يقتضي وقتا أطول لكي يلفظ وهذان النوعان من المقاطع يسميان القصير و الطويل .
وفي اليونانية، كما في العربية، يتكون المقطع القصير من حرف واحد صوتي، أي من حرف متحرك، بينما يتكون المقطع الطويل من حرف صوتي يليه حرف ساكن ويتألف الوزن من مقاطع طويلة وقصيرة منسقة تنسيقا خاصا.
ووزن الإلياذة يسمى الوزن السداسي و في الإمكان تقييده بالذاكرة ، كما تقيد الأوزان العربية ، بالتفاعيل الآتية التي تعطينا مثالا عن بيت تام القياس :
مفتعلن فعلن فعلن فعلن فعلاتن
ولا يسمح الآن إلا بتغيير طفيف في الوزن السابق للمحافظة على الإيقاع وليس هنالك قافية ، و البيت لا يقسم كما في العربية إلى شطرين متوازيين ، ولكن لا بد أن تنتهي غالبا فعلن الأولى أو الثانية بانتهاء كلمة ، وهكذا ينقسم السطر إلى قسمين يكادان يكونان متعادلين.
ما حدث قبل الخصام:
وضعت ليدا ، امرأة ثينداروس ، ملك اسبارطة ، بنتا ، أسمتها هيلانة ، فما ترعرعت حتى فاقت نساء الأرض جمالا وقد تزوجت من مانيلا بن أتريذ ، وعاشت معه حياة رغيدة ، مدة من الزمن ، وضعت خلالها ابنتا أسمتها هرميونة ثم نزل فاريس ، الابن الثاني لفريام ملك الطرواديين ، ضيفا على مانيلا ، ملك اسبارطة آنذاك ، فأحسن مانيلا وفادته ، ولكن فاريس قابل الإحسان بالإساءة ، إذ حمل معه الحسناء هيلانة ، امرأة مضيفه ، ومعها الكثير من متاع الملك فهب عند ذلك مانيلا ، ومعه أخوه الأكبر ، أغاممنون ، سيد الإغريق جميعا ، يطوفان بالزعماء ، ويطالبان منهم العون للانتقام من المعتدي الأثيم .
حتى اجتمع لديهما جيش ضخم ، مؤلف من مائة ألف رجل، وألف ومائة وست وثمانين سفينة وكان اجتماع الجيش أولا في أوليس من أعمال أوبيا ، ثم اجتازها إلى طروادة .
أما كبار زعماء الجيش فكانوا : الأخوين ابني أتريذ ، ثم ذيوميذ بن ثيذيوس ، ومعه سنتيلوس ، و نسطور بن نلوس ، الذي عاصر ثلاثة أجيال من البشر الفانين .
و أوذيس بن ليرت الايثاكي ، و ثواس الايتولي، و ايذومين ملك كريت ، ومعه المريونيون ، و أطلوفليم بن هرقل من رودس ، و أفميل بن أذميت و ألكستا من ثساليا ثم أبسلهم و أقواهم جميعا ، أخيل ، ومعه فطرقل وقد حاصر الإغريق طروادة تسع سنين ، تغلبوا فيها حقا بالقتال ، ولكنهم لم يتمكنوا من اختراق الأسوار .
لأن مدة غيابهم عن أوطانهم بلغت بضع سنين، فقد اشتدت بهم الحاجة، حتى كان من شأنهم أن يتركوا قسما من الجيش لحراسة المدينة، ويأخذوا القسم الآخر لنهب المدن المحيطة بهم ومن هنا نشأ هذا الخصام العنيف ، الذي كان سببا في كل ما نزل بالجيش من أحداث
الخصام:
نهب الإغريق مدينة خريس التي كان فيها هيكل لأفلون ، وكاهن لخدمة الهيكل ، ولما تقاسموا الأسلاب كانت الفتاة خريسا ، ابنة الكاهن ، بين غنائم الملك آغاممنون ، فقدم أبوها عليهم ، يبغي فداء ابنته بكثير من الذهب ، وقد حمل الإكليل المقدس على عصا من الإبريز ، آملا بهذا أن يصيب من القوم أجل احترام وقصد إلى الزعماء جميعا ، والى ولدي أتريذ قبل الجميع ، قائلا:
-« أتوسل إليكم ، أن تخلوا سبيل ابنتي العزيزة ، وتتقبلوا عنها الفداء ، ولتتول الأرباب المستوية على أعلى الأولمب إثباتكم عني بخير الجزاء ، فتمنحكم مدينة طروادة ، وترجعكم سالمين إلى بلادكم ».
فألانوا له القول ، وقد رغبوا في إجابة رجائه لولا أغاممنون الذي رفض رفضا تاما ، وأجاب:
- « أغرب عني ، يا شيبة السوء ! ولا تدعني أراك بعد الآن تحوم حول السفن ، أو راجعا إلي ، و إلا نالك وكهنوتك هذا مني أسوأ ما تكرهان أما ابنتك ، فسأحملها معي إلى أرغوس ، بعد استيلائي على مدينة طروادة » .
فأسرع الشيخ في الخروج ، وقد أخذ منه الذعر و الاضطراب مأخذهما ومشى متألما على شاطئ البحر الصاخب ، وتضرع إلى ربه أفلون قائلا :
« يا الهي يا ذا القوس الفضية اسمع دعائي ! و إذا كنت قد أقمت هيكلا لتمجيدك ، وضحيت بكثير من شحوم الثيران و الأكباش زلفى إليك ، فاستجب لي الآن ، وانتقم لدموعي هذه بإرسال نبالك على هؤلاء الإغريق ! » .
وقد استمع له أفلون ، وأغضبه ما لحق بكاهنه من اهانة ، فانحدر من مسكنه ، في أعالي الأولمب وكان يخطو ، فيسمع لنباله صليل مروع ، وترى لنـزوله ظلمة كظلمة الليل البهيم .
فرمى بسهام الموت الكلاب و البغال أولا ، ثم رمى الرجال ، حتى عم الدخان الحالك أرجاء الشاطئ ، صاعدا من أكوام الحطب حيث تحرق جثث الموتى وظل الإله يرسل سهام الأرزاء على الجيش تسعة أيام ، حتى كان اليوم العاشر ، حينما ذعرت الإلهة هيرا لما أصاب أحبائها الإغريق من دمار ، فألهمت أخيل أن يدعوا القوم لاجتماع عام ولما اجتمع شملهم قام فيهم خطيبا ، موجها كلامه إلى أغاممنون وقال :
- « حقا لأن نعود على أعقابنا ، خير لنا من أن نهلك هنا بالحرب و الوباء ، ولكن تعالوا نستطلع عرافا ، أو كاهنا ، أو مفسر أحلام ، عله ينبئنا بسبب نقمة الإله أفلون علينا » .
فانبرى له كلخاس ، أجل العرافين ، والعالم بما كان ، وما يكون، وما هو آت وقال :
- « لقد أمرتني يا أخيل أن أنبئ القوم بخبر غضب أفلون عليهم وها أنا فاعل ! ولكن أقسم لي أولا أنك ستكون لي ظهيرا ، لأن ما سأقوله سيغضب الملك أغاممنون ، و الويل للعوام حين تثار حفيظة الملوك » .
فجهر أخيل صوته قائلا :
« عليك الأمان أيها الرجل الحكيم ! وأقسم بأفلون ، أنه لن يمسك أحد بسوء ما دمت حيا ، ولو كان أغاممنون ، ملك الإغريق نفسه » .
فاطمأن العراف الطاهر ، وقال :
« لم يكن حنق الإله لنذور أو قرابين ، ولكن انتقاما لخادمه الكاهن ، الذي أتى يفتدي ابنته ، فأهانه أغاممنون ، ولم يخل سبيل الفتاة .
و الآن عليكم بإرجاعها إلى خريس دون فدية ، بل أرسلوا معها مائة حيوان ذبيحة ، حتى يكف الوباء » .
فهب أغاممنون غاضبا ، وقال وعيناه ترسلان شررا :
« انك لم تذكرني قط بخير ، يامنبىء الشر و السوء ، وها أنت الآن تقول بإرجاع هذه الفتاة ! وسأفعل ذلك ، لأنني أخشى على القوم الهلاك ولكن خذوا حذركم ، أيها الإغريق ، فان لي من هذه الأسلاب سهما ، ولا يليق بقائد الجيوش أن يخرج من دونهم جميعا بغير نصيب منها» .
فصاح أخيل :
« مهلا يا أغاممنون ، انك شديد الطمع بالربح يا مولاي ، وليس لدينا كنوز ننيلك منها ما يعدل خسارتك ، لأن ما كسبناه من المدن بيع أو وزع سهاما ، ولا يجمل بنا أن نسترد من الجند ما أعطوه ، فأرجع الفتاة الآن دون قيد أو شرط ، وسنعوضك حينما نمتلك طروادة فنضاعف نصيبك مثنى و ثلاث و رباع » .
فقال أغاممنون :
« كلا يا أخيل العظيم ، انك لن تقدر على خديعتي ، فان أعطاني الإغريق السهم الذي أريده رضيت و قنعت ، و إلا فإنني سآخذه بيدي هذه ، سيان عندي أكان ذلك منك ، أم من أياس أم من أوذيس ، واعلم أنني سأنال سهمي على كل حال ودعونا الآن نهتم بإرجاع الفتاة ، وليهيأ فلك لإبحارها ، ومعها مائة من الذبائح ، وليذهب مع الفلك أحد الزعماء وير أن الأمور جرت على ما يرام » .
وهنا صرخ أخيل وقد أربد وجهه فكان كالصاعقة المنقضة :
« حقا انك لطماع قليل الحياء ، تعلم أنه لم يقم بيني و بين الطرواديين خصام ولم يعتدوا علي قط بسلب عنـز أو نهب ثور ولكنني كنت أقاتل لأجلك أنت ، ولأجل أخيك مانيلا ، ولم يهمك من الأمر قليل أو كثير ، بل تركتني أحارب ، وقبعت تنعم في خبائك وكنت حينما كانت توزع الأسلاب ، كنت تنال دائما حصة الأسد حقا إن نصيبي لضئيل ، انه صغير ولكنه عزيز علي ، وها أنت تود الآن أن تسلبنيه ولهذا فقد عولت على الرجوع إلى موطني ولا أرغب في جمع أكوام الذهب و النفائس لك ، ثم أجزى على ذلك بالازدراء » .
فأجابه أغاممنون :
« اذهب و من معك ! فان لي زعماء لهم مثل كفاءتك ، ولهم ما ليس لك من استعداد لإجلالي ، و زوس اله المشورة نصيري ، إنني أكرهك ، لأنك لا تفتأ تعشق الحرب و الخصام أما أمر قسمتك فاعلم أنني سآخذ سبيتك الفتاة بريسا ، وأستولي عليها بنفسي إذا اضطررت إلى ذلك لكي يعلم الجميع ، بأنني الحاكم الآمر هنا في جيوش الإغريق » .
فجن جنون أخيل حنقا ، وأسر إلى نفسه قائلا :
« هل أقوم و أصرع هذا الدنيء ، أم أكظم الغيظ في صدري ؟ » وكان قد وضع يده في مقبض سيفه مفكرا ، ثم نضا نصفه من جفنه ، حينما تمثلت له الالهة أثينا ، ووقفت بجانبه ( لأن هيرا أحبت هذا الزعيم لذلك أرسلتها اليه ) ، وقبضت على غديرة شعره الأشقر الطويل ، فذهل أخيل حينما شعر بالقبضة الالهية ، والتفت فرأى ، فعرف الالهة ، ولكن لم يرها من الجميع سواه و التمعت عيناه بنور مخيف ، وقد صرخ في وجهها قائلا :
« هل أتيت يا ابنة زوس لتشهدي اهانة أغاممنون لي ؟ ولكنني أعتقد أن جنونه هذا سيورده حتما موارد الهلاك » .
فأجابته أثينا :
« كلا يا أخيل ، انما هبطت من السماء لأخفف من حدة غضبك ، وقد أرسلتني هيرا ربة الأذرع البيض إليك ، لأن كليكما لديها غال عزيز ، فلا تستل حسامك ، بل وجه لخصمك ما شئت من زجر و شتيمة ، وأطع النصح و اكبح جماحك ، وأنا أصدقك الوعد اليقين بأنه سيعوضك عن اهانته لك اليوم نفائس تفوق ما عسى أن يسلبك اياه » .
فأجابها أخيل :
« سأمتثل لأمرك ، مهما كان في نفسي من غيض ، فان من استمع لدعوة الآلهة الخالدين سمعت الآلهة منه الدعاء » . قال هذا وألقى يده الثقيلة على مقبض حسامه ، فأرجعه إلى غمده ، وعادت أثينا أدراجها إلى الأولمب .
ثم مال على الملك أغاممنون وقال وغيظه جائش لم يسكن بعد :
«أيها المثقل بنشوة الراح يا من له عيون كلب وقلب ايل ، يا من لم يجرؤ قط على أن يكون في مقدمة المعركة أو أن يترصد كامنا ، انك لم تفز بهذا الحكم إلا لأنك تحكم أنذالا ، ولولا ذلك لكان اليوم هو آخر أيام عتوك ولكنني أقول لك ، وأؤكد قولي بقسم عظيم ، فأقسم بهذا الصولجان ، هذا الذي كان يوما عود شجرة يانعة ، ويحمله الآن أبناء الإغريق بأيديهم ، وهم حفظة شرع زوس ، أقول كما هو محقق أن لن يعود لهذا العود لحاء ، أو ورق أو براعم ، فهو محقق أيضا أن الإغريق سيتلمسون مكان أخيل ، حينما يصرعون أكواما أمام هكطور البطل المخيف وأنت سيأكل الندم قلبك ، لاساءتك إلى أبسل رجال جيشك » .
قال هذا وألقى الصولجان المرصع بمسامير الذهب إلى الأرض وجلس مكانه ، ولبث أغاممنون جالسا في الجانب الآخر يتلظى غيظا ثم نهض نسطور ، وهو رجل عجوز في المائة من عمره أو يزيد ، و دعا إلى الصلح و الاصغاء إلى نصيحته قائلا ان أعاظم الزعماء في الأيام السالفة ، ممن لا يجسر على قتالهم اليوم رجل حي ، كانوا للنصح يذعنون ، فليس لأغاممنون أن يغتصب من أشجع الإغريق جائزة الحرب ، وليس لأخيل و هو البطل الفرد في ميدان الكفاح ، أن يخاصم أغاممنون الحاكم الآمر في جميع جيوش الإغريق ولكن كلامه كان عبثا لأن أغاممنون أجاب :
-« بالحكمة نطقت يا نسطور ، فالصلح سيد الأحكام ولكن هذا ، يريد امتلاك الأمر كله ، مع أنني على يقين بأن هنالك من لا يطيع له أمرا واذا جعل الآلهة الخالدون منه محاربا بطلا ، فهل أباحوا له النطق بكلمات التمرد و العصيان ؟ والحق أنه يجب أن يعلم بأن هنا رجلا واحدا يفضله على الأقل » .
فقال أخيل :
« كلا . انني أكون عبدا جبانا لو ملكتك أمري ، فالعب دور السيد الآمر مع سواي ، ولا تظن أن في وسعك السيادة علي ، أما الهبة التي منحتها من الإغريق ، فلهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون هم أعطوا فليستردوا العطاء ولكن حذار أن تجرؤ على مس شيء من متاعي ، فستكون عندئذ ساعة يخضب بها سنان رمحي بدماء حياتك ».
فانفرط عقد الجمع ، وأرسلت خريسا إلى أهلها ومعها الضحايا للاله ، وبصحبتها الحكيم أوذيس ثم قام الجميع يتطهرون ، ويقدمون الذبائح للآلهة ، وانتشرت الروائح الزكية بعقود من الدخان تتصاعد إلى السماء .
ولكن الملك أغاممنون لم يرجع عن قصده ، بل نادى باثنين من دعاته هما تلثيبيوس و أوربات وقال :
« اذهبا لخيم أخيل ، واقتادا الفتاة بريسا إلى هنا ، واذا لقيتما منه عنادا فأخبراه أنني سأحضر معي كثيرين ، وآتي بنفسي لأخذها وعندها سيلقى الخسران المبين » .
فسار الرسولان على مضض مرغمين ، وحاذيا الشاطئ حتى وصلا إلى خيم أخيل في وسط المرامدة ، وهناك ألفياه بين فلكه و خيمته ، فلم يهش لرؤيتهما ، ولم يبديا حراكا خجلا منه ووجلا ولكن قلبه أنبأه بسر مجيئهما فصرخ بهما :
« اقتربا يا رسولي الأرباب و البشر ، فليس الذنب ذنبكما إذا أتيتماني بمهمة كهذه ». ثم التفت إلى فطرقل وهو أعز الأصدقاء لديه وقال :
« أحضر الفتاة من خبائها ، ودع الرسولين يحملانها ، وليكونا شاهدين أمام الآلهة و أمام الخلق أجمعين ، و أمام هذا الملك الشرير في ذلك اليوم الذي ستمسه فيه الحاجة الملحة إلي ، لكي أنقذ جيشه من الهلاك وأي مجنون هذا الذي لا يعرف أن يرجع البصر إلى الماضي ، ولا أن ينفذ ببصيرته إلى المستقبل فيهيء لأمته الأمن و السلام » .
أما فطرقل فقد أحضر الفتاة من خبائها ، وسلمها إلى الرسولين فذهبا بها رغم ارادتها ولكن أخيل انتبذ من رفاقه جانبا ، وجلس إلى الشاطئ مستسلما لبكاء عاطفي عنيف ، باسطا ذراعيه ، جاهرا بدعوة أمه ثيتيس ابنة البحر اليه ، فسمعته وهي جالسة في الأعماق إلى أبيها ملك البحار ، وهبت اليه صعدا كهبوب الدخان ، وأتت إلى حيث جلس ينتحب ، فلمسته بيدها ، ونادته باسمه و قالت له :
« ما خطبك يا ولدي؟ ».
فقص عليها قصة الحيف الذي أصابه ، ولما انتهى قال :
« أضرع إليك أن تذهبي إلى قصر زفس في أعالي الأولمب ..اذهبي اليه ، فقد سمعتك في قصر أبي منذ أمد بعيد ، تروين بفخر أقاصيص معاونتك اياه عندما خذله باقي الأرباب ، فأتيت بالجبار بريارا ، ذي المائة ذراع ، فآزره بشدة بأسه ، حتى خشي الأرباب قربه اذهبي الآن و ذكريه بهذا ، ثم توسلي اليه أن يساعد أبناء طروادة ، وينصرهم في وقائعهم حتى يتشتت الإغريق أمامهم ، وقد نالهم الفخر من مليكهم هذا ، الذي أساء إلى أبسل رجال جيشه » .
فاجابته أمه :
« حقا انك سيء الحظ يا بني ، فان حياتك لقصيرة الأمد ، وما ضر لو خلت من الدموع و الأحزان ، وملئت بالبهجة و المسرات ، ولكنني لا أراها إلا قصيرة كئيبة وسأذهب بعد حين بشكاتك هذه إلى قصر زوس في أعالي الأولمب أما الآن فقد ذهب مع الأرباب لعيد الأثيوبيين الأبرار ، الذي يدوم اثني عشر يوما ومتى رجع استعطفته مقنعة اياه ، فأقم حيث أنت ولا تتجه للقتال » .
وفي هذه الآونة كان أوذيس يقترب بقرابينه المقدسة من خريس ، ولما أصبحوا داخل الميناء ، طووا الشرع و طرحوها في السفينة ، وأنزلوا السارية ، ثم جذفوا إلى المرفأ ، وألقوا المراسي ، وأوثقوا شد الحبال ، وبعد ذلك نزلوا إلى البر وأخذوا معهم القرابين ، والفتاة خريسا التي ساروا بها إلى المذبح ، وأعادوها إلى ذراعي أبيها ثم قال الحكيم أوذيس :
« هاك ابنتك ، يردها أغاممنون إليك ومعها مائة ذبيحة للضحية ، علنا نسكن من غضب الاله الذي ابتلى الإغريق بضربات حنقه » .
فتلقى الكاهن ابنته جذلا ، ولما صفوا الضحايا على المذبح ، وصبوا الماء الطهور ، وأخذوا حفنة من الشعير المطحون ، تضرع الكاهن قائلا :
« رب يا ذا القوس الفضية استمع إلي ! واذا كنت قد أجبت قبلا دعائي وأنزلت بالاغريق شر البلاء ، فاستجب لي الآن وأزل عنهم ما لحق بهم من وباء » .
هكذا دعا فألقى اليه الاله سمعه .
ثم ذروا الشعير على رؤوس الماشية وذبحوها ، وسلخوا جلودها ، وقطعوا الفخذ منها ، ولفوها بطبقات من الشحم ، ووضعوا فوقها قطعا نيئة أحرقها الكاهن على رزم من الحطب ، صابا فوقها خمرة تتلألأ . ووقف حوله الفتيان وبأيديهم شوك وذوات خمس شعب . حتى إذا ما التهمت النار الأفخاذ ، مالوا على ما بقي فقطعوه وشووه قطعا شكت بالسفافيد . فعلوا كل ذلك بعناية ، ووضعوا طعامهم ، ولم يتخلف عن أخذ قسيمته منهم أحد . ولما انتهى الطعام ، جعلوا قليلا من الخمرة في الكؤوس ، لتراق في سبيل الأرباب . و ظلوا على ذلك إلى غروب الشمس ، يترنمون بالأناشيد موجهة إلى مرسل النبال ، ويمرحون .
فأصغى لأصواتهم ، وطاب نفسا . ولما غابت الشمس ناموا قرب مربط فلكهم ، حتى إذا كان الفجر أقلعوا ، ورفعوا ساريتهم ، ونشروا الشرع .
وسخر لهم أفلون ريحا رخاء ، وتسلل الموج يجاري مقدم السفينة ، حتى بلغوا مقام الإغريق .
أما أخيل ، فكان لا يزال حانقا ، ولم يبرح جانب سفنه ، ولم يذهب لحرب أو لاجتماع ، بل أقام وفي فؤاده تبرم يضج شوقا إلى نداء القتال .
مجلس الشورى :
ولما كان اليوم الثاني عشر شقت ثيتيس عباب البحر صاعدة الى الأولمب ، وهنالك وجدت زفس بعيدا عن رهطه ، قابعا في أعالي الذرى ، فجثت أمامه مستنجدة به ، وقد أمسكت بيدها اليسرى ركبتيه ، ومست باليمنى لحيته وقالت :
« زفس يا أبا الخلق . إذا سبقت لي عندك يد بقول أو عمل فحقق الآن مبتغاي ، وامنح ابني أخيل ، القصير الأجل ، من لدنك شرفا . فقد اعتدى عليه أغاممنون و أهانه باغتصاب ما أهداه الاغريق اليه . وهب الطرواديين ظفرا مؤقتا ، يشعر الاغريق بمقام ولدي الرفيع ».
قالت هذا ولبث زفس طويلا لا يبدي ولا يعيد ، ولكن ثيتيس ظلت متمسكة بمطلبها ، وأعادت تقول :
« أعطني الآن وعدك ، وأكده بايماءة ، أو فارفضه حتى أعلم أنني أحط الأرباب منـزلة لديك ».
فنطق زفس بالجواب ، وقد نال منه الاضطراب :
« انه لأمر شاق ، لأنك ستعرضينني لجفاء هيرا وتوبيخها . فهي الآن تعتب علي ، وتتهمني بأنني أفضل رجال طروادة في ميادين القتال . فأسرعي بالذهاب كيلا تعلم بمجيئك ، وسأنظر في اتمام هذا الأمر على أحسن وجه . وأؤكد لك وعدي الآن بايماءة لأنني عندما أومىء لا يبقى لي مجال للندم أو الاهمال ».
قال هذا وأومأ بحاجبيه الحالكين ، فتموج الشعر حول رأسه ، ومادت أركان الأولمب جميعا . عندها عادت ثيتيس غائصة الى أعماق البحر ، وذهب زفس الى صرحه ، ووقف الأرباب ازاءه اجلالا . ولما استوى على عرشه أتت هيرا ، وقد علمت بزيارة ثيتيس ، ذات الأقدام الفضية ، ووجهت اليه مر الكلام قائلة :
-« مع من كنت تتشاور أيها الماكر ؟ انك تسر دائما بما تتخذ من أساليب سرية في غيابي ، ولا تصارحني قط بنياتك ».
فأجابها سيد الآلهة و الناس :
« لا تطمعي يا هيرا باستجلاء كل أفكاري ، فلا قبل لك بذلك ، ولو كنت زوجي . وستسمعين قبل الجميع ما يجدر بك سماعه ، أما مجالسي الخاصة فلا تستطلعي أخبارها » .
فأجابت هيرا :
« ماذا تقول : انني لم أتجسس على مجالسك ، ولك أن تختط فيها ما تشاء .و يؤلمني أن أخشى عليك سيطرة ثيتيس ، ذات الأقدام الفضية ، فقد رأيتها عند الفجر تجثو أمامك ، ولست أشك بأنك منحتها الوعد باكرام أخيل ، في حين يهلك الكثيرون من الاغريق عند سفنهم » .
وأجابها زفس على ذلك بقوله :
« حقا انه لم يغب عنك شيء أيتها الساحرة . واذا كان ما تقولين صدقا ، فهذه هي ارادتي . فالزمي الصمت و أطيعي ، والا فليس لك من قبضة يدي من عاصم ، ولو اجتمع على ذلك أرباب الأولمب جميعا » .
فخافت هيرا ، ولزمت السكون . واضطرب الأرباب جميعا . ولكن هيفست الصانع الماهر ، تكلم قائلا :
« انه حقا لأمر خطير أن تختصما أنتما كلاكما في سبيل مخلوقات فانية . وتتسببا للأرباب قلقا . و إذا سادت بيننا آراء سوء كهذه فبم ننعم في أعيادنا ؟ انني أنصح لأمي الآن بالرجوع الى مصافاة زفس ، لكي لا يعاود زجرها مرة أخرى . و الا فمن يقف في سبيله لو رغب في قذفها عن مقاعدها هذه ؟ » .
ثم وضع بين يدي أمه الكأس ذات العروتين وقال :
« هدئي روعك يا أماه ! وخففي ما بك من استياء ، كي لا أراك تندحرين أمام عيني ، فانني لا أقدر مد يد العون اليك ، وقد جربت مرة أن أساعدك فقبض علي من رجلي ، و ألقى بي من عتبة السماء ، فتدحرجت طول النهار حتى هبطت عند مغيب الشمس فوق ليمنوس » .
فابتسمت هيرا عند ذاك ، وتناولت الكأس من ابنها ، أما هو فدار على الأرباب من الشمال الى اليمين ، شأن الساقي الحاذق ، وملأ من دنه كؤوسهم برحيق الهي .
وعلا بين الأرباب الأبرار ضحك لا نهاية له ، وهو يرونه يلهث غاديا رائحا في وسط القاعة .
وهكذا أقاموا احتفالهم ، لا تنقصه القيثارة ، وقد ضرب عليها أفلون بأنغامه ، ولا يعوزه الإنشاد ، وقد تناوبته الحوريات بأصواتهن العذبة .
وهجع الأرباب و الناس تلك الليلة ، ما عدا زفس ، الذي ظل يهجس في ما عساه يفعل لاعزاز أخيل ، وقد اهتدى الى أفضل السبل . فارتأى ارسال حلم مضلل لأغاممنون ، وقال :
« اذهب أيها الحلم المضلل لسفن الاغريق السريعة ، واقصد خيمة أغاممنون ، وأطلب اليه أن يسرع في تجهيز الاغريق بالأسلحة ، وبهذا يتحقق له الاستيلاء على مدينة طروادة » .
وهكذا ذهب الحلم الى خيمة أغاممنون ، فألفاه متدثرا بنوم عميق ، فاتخذ شكل نسطور الزعيم الشيخ ، الذي كان أعظم الناس قدرا لدى الملك . ثم قال نسطور الزائف :
« أتنام يا أغاممنون ؟ ليس للملوك أن يناموا الليل الطويل ، لأن عليهم أن يفكروا في الكثيرين ، وعلى عواتقهم تقع الهموم الجسام . فاصغ الآن الى كلمات زفس : أقم الحرب صفوفا ضد طروادة ، فقد أزمع الأرباب أمرهم . والمدينة دنا هلاكها ، وستصبح ملكا لك ، فتكسب لنفسك مجدا مخلدا » .
فصدق أغاممنون الحلم ، ولم يعلم بغاية زفس اذ دعاه ليتوجه للقتال ، ولا أن الطرواديين سيربحون موقعة اليوم ، وسيلحقه هو العار الشائن ، ولا أن أخيل سينال الشرف الكبير ، يوم يتوسل اليه الاغريق جميعا بأن ينجيهم من الموت . وهكذا نهض أغاممنون من فراشه ، فلبس جلبابه ، وألقى فوقه معطفا كبيرا ، و أوثق خفيه بقدميه ، وتدلى من كتفيه سيفه الفتاك المرصع بالفضة ، وأخذ بيمناه صولجان بيته العظيم ، الذي كان رمز سلطانه على جميع الاغريق .
ودعا الى عقد مجلس الزعماء ، قرب سفينة الملك نسطور.
ولما أخذوا أماكنهم قال :
« اسمعوا يا أصدقائي ! أتاني الليلة في المنام طيف هو أشبه ما يكون بنسطور ، فوقف عند رأسي و قال : أتنام يا ابن أتريذ وليس للملوك أن يناموا الليل بطوله ؟ فاسمع الآن وعي . لقد أتيتك من قبل زفس الذي يهتم بأمرك ، ولو كان عنك بعيدا ، وهو يطلب اليك أن تدعوا الاغريق الى القتال ، لأنك ستفتح طروادة ، هكذا قال الحلم ، فلنستنهض الاغريق الآن . ولكن دعوني أبل استعدادهم أولا ، بأن أشير عليهم بالفرار الى بلادهم ، بينما تردوهم عن ذلك ».
فنهض نسطور عن مكانه وقال :
« لو قص علينا غيرك هذا الحلم لحسبناه أضغاثا ، أما وقد رآه من هو بمقام الزعامة منا فلندع القوم الى السلاح ».
فقام الدعاة بالاعلان ، وأسرع القوم في انتجاع أماكنهم . أرأيت الى النحل يدوي خارجا من تجاويف الصخور كأنه عناقيد علقت حول أزهار الربيع ، يتطاير بعضه هنا وبعضه هناك ؟ هكذا مشت القبائل المختلفة ، من سفنها و مضاربها ، تطلب مكان الاجتماع . وقد كان تبلبلهم عظيما ، وضجيجهم صاخبا ، حتى استوجب الأمر دعوة تسعة من الدعاة يهدئون روعهم ، لكي يتمكنوا من الاستماع لخطب الملوك . وأخيرا كف الاغريق عن صياحهم و جلسوا في أماكنهم . فنهض فيهم أغاممنون وقد حمل صولجانه بيده ، وخاطبهم قائلا :
- « أيها الأصدقاء ، لقد أساء زفس معاملتي ، فقد وعدني بالاستيلاء على طروادة ، وبالعودة الى موطني ، ولكنه كان وعدا غادرا ، اذ ها هو الآن يطلب الي الرجوع الى أرغوس مدحورا ، فاقد الكثير من رجالي .
وقد كان من العار حقا أن يعلم الناس بعدئذ بأننا ، ونحن الأكثر عددا ، كان كفاحنا عبثا . اننا الفئة الكثيرة تحارب الفئة القليلة ، من غير أن نجتلي لهذا الأمر نهاية . وحقا لو تهادن الاغريق ورجال طروادة ، وقاموا بتعداد أنفسهم ، ثم قسم الاغريق الى عشرات ، وجعل لكل عشرة منهم واحد من الطرواديين يصب لهم الخمر ، لبقي منهم عشرات لا تجد لها ساقيا . أجل ان الطرواديين هم الأقلون ولكن لهم حلفاء ، رماة صناديد ، يصدونني عن فتح المدينة ، وها قد مضى علينا الآن تسعة أعوام ، تعفن فيها خشب سفننا ، و اهترأت حبالها . ثم ان هنالك في الحمى ، نساءنا و أطفالنا ينتظرون عودتنا اليهم ، فتعالوا الآن اذن نفر الى بلاد آبائنا ، فقد لا نستولي على طروادة »
بهذا نطق الملك ، فحرك قلوب القوم ، أي الذين لم يحضروا منهم الاجتماع السري .
وجاشت الجموع كما يجيش البحر عندما تثير أمواجه ريح شرقية ، بل كانوا كحقول من القمح ، عصفت بها ريح غربية شديدة ، فزعزعت سنابلها . وأسرعوا الى فلكهم يتصايحون ، ووضعوا أيديهم عليها بقصد انزالها ، ونظف البعض ترع رسوها ، ونزعوا الدعائم من تحت جوانبها .
وهكذا هم الاغريق بالرجوع ، حتى ولو لم يشأ القضاء ذلك . ولكن هيرا قالت لأثينا :
« أهكذا يفر الاغريق كسالى الى بلادهم ؟ أهكذا يتركون هيلانة مدارا لمباهاة فريام و طروادة ؟ هيلانة التي صرع لأجلها الكثيرون بعبدا عن أوطانهم . فعجلي الآن اليهم ، وأرجعيهم عما يقصدون ».
فأسرعت أثينا هابطة من الأولمب ، ووجدت أوذيس وهو لم يلقي على سفينته يدا لأن الأسى قد برح به ، وحز في فؤاده .
فقالت له :
« أحقا يا ابن ليرت انك هارب الى موطن آبائك ، تاركا هيلانة التي صرع في سبيلها الكثيرون لتبجح فريام ورجال طروادة اذهب الآن الى الاغريق وصدهم عن عزمهم ، ولا تدعهم يجهدون في انزال سفنهم الى البحر » .
ولما سمع أوذيس صوت الإلهة نضى عنه معطفه ، وركض حاملا صولجان أغاممنون ، وقد تسلمه منه ، ومضى يتجول بين السفن ، فاذا رأى أحد الزعماء ألان له الكلام وقال :
«مهلا يا مولاي ! لا يليق بك أن تكون جبانا ، فامكث مكانك ، وأمسك عليك قومك ، فأنت لا تعلم أن غاية الملك كانت لتجربة استعداد الاغريق فقط . فلا تغضبه ،لكي لا ينال القوم بشر »
ولكنه إذا رأى أحد السوقة ضربه بصولجانه وقال :
« قف أيها الرجل وأصغ الى من هم خير منك ، وليكن هنالك سيد واحد ، وملك أوحد ، وهو من أعطي السلطة من قبل زفس ».
وهكذا أرجعهم عن قصدهم ، وارتدوا عجالا الى مكان الاجتماع ، ولأصواتهم صخب كصخب تلاطم الموج على الشاطىء.
وقد سكت الجميع الا ثرسيت ، الذي تهكم بالأمراء ، ساخرا منهم ، ليستضحك الاغريق عليهم . وقد كان شر القادمين على طروادة خلقا و خلقا . أعوج الساقين ، إذا مشى ظلع على رجل واحدة ، له حدبة في الظهر ، وضيق في الصدر ، وتشويه في الرأس وهو فوق ذلك عاثر خائر .
وقد صاح الآن بأعلى صوته ، موجها السباب الى أغاممنون :
-« ماذا ينقصك بعد يا ابن أتريذ ؟ ان خيامك ملأى بالبرونز ، كما هي ملأى بما أعطيناك من سبايا غيد حسان .فماذا تريد اكثر من هذا ؟ ان من يتصدى لزعامة الرجال لا يلقي الاغريق في المهالك . وأنتم ، يا من هم أقرب الى النساء منهم الى الرجال ، لماذا لا تبحرون الى أوطانكم ، وتتركون هذا الرجل يزدرد أسلابه بنفسه وحيدا ، فقد اعتدى على أخيل . الذي هو خير منه ، وسلبه حقه . ولكن لا ريب في أن أخيل سهل الطبع ، ولولا ذلك لكانت هذه آخر أعمال طغيانك ».
عند ذلك قام أوذيس محنقا وقال :
« صه أيها المهذار ، واياك أن تذكر أسماء الملوك بشفتيك ، أو تقدح بأفاضلهم ، واصغ الي . إذا سمعتك بعد الآن تتفوه بما كنت تلوكه اليوم ، فانني سأنزع عنك معطفك ، وأجردك من جلبابك ، وأسوقك الى السفن بضربات العار » .
قال هذا وضربه بصولجانه على ظهره وكتفيه ضربات بانت تحتها الدماء ، فبهت الرجل و استكن صاغرا يكفكف الدمع ، وضحك الحاضرون مرحا ، يقول أحدهم لجاره :
« كل ما يفعله أوذيس حسن ، ولكنه لم يأت بأحسن مما أتى به الآن ، لما أخرس لسان هذا المهذار ، الذي لن يعود الى شتم الملوك بعد اليوم » .
ثم وقف أوذيس ، ووقفت أثينا بجانبه على هيئة داع ، طالبة الى القوم السكوت حتى يتمكن من سماعه القريب و البعيد فقال :
« والآن أيها الملك ان الاغريق يتبجحون بخزيك ، دون أن يرتبطوا بمواعيدهم السابقة لك التي بموجبها أتوا بك من أرغوس ، مؤكدين أنهم لن يرجعوا قبل أن يستولوا على مدينة طروادة . حقا ان لدينا من العمل هنا ما يجعل قلوبنا تحن شوقا الى العودة .
فان الرجل منا ليأخذ منه الاعياء ، إذا أبعد عن زوجته شهرا واحدا أيام الريح الباردة ، و البحر المتلاطم ، فما بالك بمن يجول هنا اثني عشر شهرا مضاعفة تسع مرات ؟ ولكن ليس من الخير أن نقيم زمنا طويلا ، ثم نرجع بعد ذلك صفر اليدين . وكلكم تذكرون – وأقصد الذين لم يغيبهم الموت – ما وقع لنا في أوليس ، حينما اجتمع الجيش لمحاربة طروادة . وقد كنا نقدم الضحايا للآلهة الخالدين تحت شجرة الدلب ، قرب الينبوع . تذكرون أي ثعبان هائل ، عظيم ، أحمر ، مخيف المرأى ، قد زحف من تحت المذبح واثبا الى الشجرة . وهنالك في أعالي فروعها قام عش عصفور مستورا بالأوراق ، يضم ثمانية فراخ و أمهم التاسعة ، وقد التهمهم الثعبان واحدا واحدا ، وهم يصيحون بما يثير الشفقة ، والأم ترفرف حولهم نادبة أطفالها ، وكانت هي آخر فرائسه . وقد أخذها من جناحيها ملتويا ، ولما ازدردها جميعا ، أما و فراخا ، مسخ حجرا . ذلك أن الاله الذي أرسله أراد ان يجعل الرمز فيه أكثر وضوحا . وعندها قال لنا كلخاس ، وقد كنا جلوسا ننظر عجبا ، لماذا أنتم سكوت ؟ ان رمز الشؤم هذا انما أرسل الينا . فكما أن هذه الأفعى أكلت الفراخ الثمانية ، وأمها التاسعة فان حربنا في الأرض التي نقصد اليها ستدوم تسع سنوات ، وفي العاشرة سنأخذ مدينة طروادة الجميلة ، هكذا قال ، ولا ريب أن كلماته ستحقق ، فامكثوا أيها الاغريق حتى تأخذوا مدينة فريام الجبارة » .
قال هذا وصاح جميع الاغريق مؤكدين ، ورجعت السفن صدى الصياح كانه الرعد .
عندها قام الملك أغاممنون وقال :
- « قوموا الآن الى طعامكم ثم نمضي بعد ذلك الى القتال . وليشحذ كل رجل سيفه جيدا ، وليعد درعه وليسخ على جواده بالطعام ، وليتفقد مركبته ، فقد نقضي النهار بطوله مقاتلين ، دون أي توقف ، الى أن يأتي الليل فتفترق الجيوش . ولا ريب في أن أربطة الدرع ستبلى ، و اليد التي تحمل الرمح سينهكها الاعياء ، و الخيل التي تجر المركبات اللامعة ستسبح عرقا .
أما أولئك الذين يمتنعون عن القتال ، أو يتأخرون في سفنهم ، فلن ينجيهم شيء من أن يصبحوا طعاما لكلاب البر و طيور السماء ».
و أعاد الاغريق عند ذاك ترديد الصياح ، ثم أسرعوا أشتاتا الى مراكبهم وخيمهم ، يطهون طعامهم ، وأولم أغاممنون وليمة ، دعا اليها الزعماء نسطور و ايذومين و أياس الأكبر و أياس الأصغر و ذيوميذ و أوذيس . أما مانيلا الذي يلبي عند الحاجة اليه ، فقد أتى من غير دعوة ، عالما بانه سيرحب به على كل حال .
ووقف عندها أغاممنون ودعا زفس قائلا :
« لا تدع الشمس تغرب يا الهي و يأتي الظلام قبل أن أمرغ سقف فريام بالتراب ، و أحرق أبوابه بلهب النار ، وقبل ان أمزق درع هكطور على صدره » .
هكذا دعا ، ولكن زفس لم يسمعه كما شاء . ولما انتهت الوليمة نظم الزعماء جيوشهم للقتال . وفي وسطهم أثينا ، تختال بين الجيوش ، محرضة اياهم على النـزال ، حتى أثارت حب القتال في كل قلب . ولم يبقى رجل منهم ، الا وهو يفضل الحرب على الرجوع الى وطنه و أهله .
وكما يسطع لهيب نار عظيمة ، من غابة تحترق في أعلى الهضاب ، هكذا سطع نور أسلحتهم و دروعهم وهم يتأهبون لميدان القتال . و كأسراب لا عداد لها من أوز وبجع وكراكي ، تدور حينا وتستقر حينا عند المستنقع الآسيوي العظيم ، قرب مجرى كيسطر ، أو كخلية نحل ، تحتشد متهافتة في الربيع على قصاع اللبن الطافحة ، هكذا تكاثف الاغريق ، محتشدين للقتال في السهل الفسيح على ضفة اسكامندر.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة