لما باعد النوم عيني ، وقد سئمت وسادتي بلل مدامعي ، قررت أن أشكو إلى غيرها ، وحملت نفسي من على فراشي بعدما هدني الحزن ، وبدأت أحبو حتى تشبثت بمكتبي ووقفت ، وأجلست نفسي على الكرسي ، وشاهدت أقلامي ملقاة على ماستي ، كأنها قتلى جف منها دمها لا تحرك ساكنا ، ونظرت في الجهة الأخرى من مكتبي وإذا بقلم بحبر مستلقيا على ماستي ، فأيقظته من سباته وأنا أردد :
أوّاه لو كان الرقاد يزورني *** لرضيت من دنياي بالإغفاء
لا يلتقي جفناي إلا خلسة *** فكأن بينهما قديم عداء
ألمي يشق على الخيال لحاقه *** فيتيه بين البحر والصحراء
فإذا مررت على الجريح تعوده*** فلقد أتيت مدافن الأحياء
وقلت له يا قلما بات نائما لا تعرف الحزن شاكيا ، ولا هما يسامرك باقيا ، أما آن لك أن تحزن مثلنا ، ألا تعلم أن الكرى لا يأتي جفونا أقلقها هما ، أما عشت جور الزمان ، ولا جواد يترجى ولا صديق قد أشفقا ، وغيض على الأيام كالنار في أحشائي ، ولا ليلة تمضي أسر بها الفؤاد المفجع ، إنها أيامي أندبها إذا انقضت وأنا اليوم أشكيها ، ألا تريد أن تسمع مني أمورا أبكيها ، فلم يجبني ! فضغطت عليه بأناملي ، ألا تريد أن تسمع منا ما أيقض مضجعنا ، وما أسقط مدامعنا ، وأمسكته بيدي ، وسحبت إحدى ورقاتي ، وبدأت أكتب وإذا بالحبر لا يخط حرفا ، ونظرت إلى الدواة فوجدتها فارغة ، ونظر إلي ، وقال : أما زلت ماكثا على حالك ، ألم تجد لك غير البكاء مسالك ، ، ويومك مثل بقية أيامك ، قلت له ألم تسمع قول الشاعر :
يــوم يــبــكـينا وآونــةً *** يــومٌ يـبـكـيـنا عـليه غـده
نكبي على زمن ومن زمن *** فبـكـاؤنـا مـوصـولـة مـدده
وغمست سن القلم في جوف دمعاتي المتساقطة ، قال لي : لن ترى للخط حبرا ، قلت له إن كان بدمعي حسرة وأسفا سترى حبر دمعاتي ، وبدأت أكتب على ورقتي حتى سمعت صريره ، وما إن انتهيت من السطر الأول ، ارتج قلمي في يدي فرفعته ، فقال : إني أجد حرقة من حبرك ، ولم تكمل سطرا من حكاياتك ، إني لا أطيق حرّ ما تكتب ، قلت له : ألا تتحمل مثلما تحملت أنا ما أكتبه ، وأكملت كتاباتي وما إن توسط السطر الثاني ، وإذا بحروفي تشتعل كشرارة الفتيل ، واضطرب قلمي ، وتحركت من الخوف بقية أوراقي ، وأسرعت في كتابتي ، وأسرعت حروفي المشتعلة تلحق بقلمي ، واقتربت مني ، ومازالت تقترب أكثر ، ولم تتوقف كأنها تريد سنة قلمي ، حتى وصلت مني قبـيل آخر حرف كتبته ، وقلمي زاد ارتجافه في يدي ، عندها رفعت قلمي ، وإذا بأوراقي الباقيات ترتعش جزعا وخوفا مما حدث ، وصرخ بي قلمي : كفّ عن هذا يا فتى ، ارأف بنا ، لا تتلفنا حزنا مثلما أحرقت نفسك ، احبس حبرك المتساقط عنا ، كفاك ما أتلفت من أقلام وأوراق .
ونظرت إلى قلمي وهو متأسف على حالي ، وهو يقول : يا فتى الحزنِ مالك وللحزن مصاحبا ، وكأنك جعلت السعادة مأتما ، لا نراك إلا أسيفا ، ولا تتوسد الليل إلا متنهدا ، نضت محاسن وجهك ، والجسم قد بان شحوبه ، فقلت له : ألم ترى حزنا بات يكويني بنار كلما اضطجعت لنومي ، رأيت حرها تحت منامي ، أتقلب على شوك همومي ، وأتلحف بآلامي ، لم أرى لانكشاف الضر وجها ، فكيف لا أبكي ليلي ، حتى ليلي ملني كلما أقبل وجدني مطرقا رأسي بين أقدامي ، يحاكيني لم أجد مثلك شاكيا ، أللحزن خلقت أم الحزن خلق لك راعيا ، فرفعت نظري إلى ليلي ، فأودى ليلي بسلطاني صباحي ، وأنا أقول في نفسي سأتعبد ربي بصبرٍ على حزن بات يرقبني ، عرفني لما عرفت البراءة طفلا ، وبدأ يرهقني بالسهر بريئا ، فكان حزني يلاعبني طفلا صغيرا ، وآخاني كبيرا ، احتضنني عندما بكيت دمع الحنان ، وفتح له يدي كأب يقول لي هيت لك ، فاتخذته إما وأبا فكيف الإنسان ينسى أمه وأباه ، كان أستاذي عندما علمني حروف هجائي ، وجعلني أسير مع بقية الصغار ، فيريني أني كبيرا في تصوراتي ، رأيت سعادتهم مطرا وسط صحرائهم ، كان ربيعها مرتعا لهم في صباهم ، وأنا أجدبت صحرائي ويبست جميع شجراتي ، وأسقيتها مرا من مائي ، وسالت بها ودياني ولكنني لم أجد ربيعا أرتع فيه ، ولا أشجارا أستظل بها عن شمس أكداري ، ليت للزمن عينا يبصر بها ظلما قد أوردنيه ، لبكى بها ما إن رآني .
وعندما بلغت أشدي ، تربع الحزن أمامي ، يطلب مني علما ، قلت أنت من علمني ، كيف تطلبني علما ؟ قال لي : كلما أقبلت على الناس وجدتهم فرحين ، ثم إذا رأوني بدءوا يحزنون ، إلا أنت كلما أقبلت عليك وجدتك باكيا حزينا ، وإذا رأيتني تبسمت لي .
وسقط مني قلمي وارتمى في حضن أوراقي الباكيات ، وهم في غوغاء البكاء سحبت قلمي وهو متمايل يتمتم ببعض الكلام ، ونظرت في ورقاتي ، وتمنت أني لم أسقط دمعاتي وبها أكتب عباراتي ، فوضعت يدي على إحداهن واستأذنتها بالكتابة وكأنها لا تريد ، وهززتها من جنبيها وصرخت فيها لما لا تكوني لي صدرا أبث فيها شكاياتي ؟ فلم تجبني ، وألقيتها أرضا وتوكأت عليها بقلمي ، وقد طاشت عليها دمعاتي ، لا يسعك أن يُكْتب عليك ما أرقني ، أما تطيقين حبر دمعاتي ، إن لم تقبلي ما أريده قسمتك برأس قلمي نصفين ، ومزقتك أشلاء ، وعندما أمسكت بقلمي لأكتب عباراتي ، سمعت نداء فجري كسابق أيامي ، وبدأت أجهش بالبكاء ، وألقيت برأسي في حضن أوراقي ، وأمرغ بهي وجهي حتى تبللت وأنا أنشد بتلك الأبيات :
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا
وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا عدتي في كل نائبة
ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورا أنت تعلمها
مالي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلا
إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يارب خائبة
فبحر جودك يروي كل من يرد
ورفعت رأسي من على أوراقي ، ولم أستطع أن اكتب شيئا وقمت من على كرسيَ ، وابتعدت عن ماستي ، فنادى علي قلمي ، ألا تريد أن تشكو إلينا ، فوقفت والتفت إليهم وقلت :
(إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) .
أوّاه لو كان الرقاد يزورني *** لرضيت من دنياي بالإغفاء
لا يلتقي جفناي إلا خلسة *** فكأن بينهما قديم عداء
ألمي يشق على الخيال لحاقه *** فيتيه بين البحر والصحراء
فإذا مررت على الجريح تعوده*** فلقد أتيت مدافن الأحياء
وقلت له يا قلما بات نائما لا تعرف الحزن شاكيا ، ولا هما يسامرك باقيا ، أما آن لك أن تحزن مثلنا ، ألا تعلم أن الكرى لا يأتي جفونا أقلقها هما ، أما عشت جور الزمان ، ولا جواد يترجى ولا صديق قد أشفقا ، وغيض على الأيام كالنار في أحشائي ، ولا ليلة تمضي أسر بها الفؤاد المفجع ، إنها أيامي أندبها إذا انقضت وأنا اليوم أشكيها ، ألا تريد أن تسمع مني أمورا أبكيها ، فلم يجبني ! فضغطت عليه بأناملي ، ألا تريد أن تسمع منا ما أيقض مضجعنا ، وما أسقط مدامعنا ، وأمسكته بيدي ، وسحبت إحدى ورقاتي ، وبدأت أكتب وإذا بالحبر لا يخط حرفا ، ونظرت إلى الدواة فوجدتها فارغة ، ونظر إلي ، وقال : أما زلت ماكثا على حالك ، ألم تجد لك غير البكاء مسالك ، ، ويومك مثل بقية أيامك ، قلت له ألم تسمع قول الشاعر :
يــوم يــبــكـينا وآونــةً *** يــومٌ يـبـكـيـنا عـليه غـده
نكبي على زمن ومن زمن *** فبـكـاؤنـا مـوصـولـة مـدده
وغمست سن القلم في جوف دمعاتي المتساقطة ، قال لي : لن ترى للخط حبرا ، قلت له إن كان بدمعي حسرة وأسفا سترى حبر دمعاتي ، وبدأت أكتب على ورقتي حتى سمعت صريره ، وما إن انتهيت من السطر الأول ، ارتج قلمي في يدي فرفعته ، فقال : إني أجد حرقة من حبرك ، ولم تكمل سطرا من حكاياتك ، إني لا أطيق حرّ ما تكتب ، قلت له : ألا تتحمل مثلما تحملت أنا ما أكتبه ، وأكملت كتاباتي وما إن توسط السطر الثاني ، وإذا بحروفي تشتعل كشرارة الفتيل ، واضطرب قلمي ، وتحركت من الخوف بقية أوراقي ، وأسرعت في كتابتي ، وأسرعت حروفي المشتعلة تلحق بقلمي ، واقتربت مني ، ومازالت تقترب أكثر ، ولم تتوقف كأنها تريد سنة قلمي ، حتى وصلت مني قبـيل آخر حرف كتبته ، وقلمي زاد ارتجافه في يدي ، عندها رفعت قلمي ، وإذا بأوراقي الباقيات ترتعش جزعا وخوفا مما حدث ، وصرخ بي قلمي : كفّ عن هذا يا فتى ، ارأف بنا ، لا تتلفنا حزنا مثلما أحرقت نفسك ، احبس حبرك المتساقط عنا ، كفاك ما أتلفت من أقلام وأوراق .
ونظرت إلى قلمي وهو متأسف على حالي ، وهو يقول : يا فتى الحزنِ مالك وللحزن مصاحبا ، وكأنك جعلت السعادة مأتما ، لا نراك إلا أسيفا ، ولا تتوسد الليل إلا متنهدا ، نضت محاسن وجهك ، والجسم قد بان شحوبه ، فقلت له : ألم ترى حزنا بات يكويني بنار كلما اضطجعت لنومي ، رأيت حرها تحت منامي ، أتقلب على شوك همومي ، وأتلحف بآلامي ، لم أرى لانكشاف الضر وجها ، فكيف لا أبكي ليلي ، حتى ليلي ملني كلما أقبل وجدني مطرقا رأسي بين أقدامي ، يحاكيني لم أجد مثلك شاكيا ، أللحزن خلقت أم الحزن خلق لك راعيا ، فرفعت نظري إلى ليلي ، فأودى ليلي بسلطاني صباحي ، وأنا أقول في نفسي سأتعبد ربي بصبرٍ على حزن بات يرقبني ، عرفني لما عرفت البراءة طفلا ، وبدأ يرهقني بالسهر بريئا ، فكان حزني يلاعبني طفلا صغيرا ، وآخاني كبيرا ، احتضنني عندما بكيت دمع الحنان ، وفتح له يدي كأب يقول لي هيت لك ، فاتخذته إما وأبا فكيف الإنسان ينسى أمه وأباه ، كان أستاذي عندما علمني حروف هجائي ، وجعلني أسير مع بقية الصغار ، فيريني أني كبيرا في تصوراتي ، رأيت سعادتهم مطرا وسط صحرائهم ، كان ربيعها مرتعا لهم في صباهم ، وأنا أجدبت صحرائي ويبست جميع شجراتي ، وأسقيتها مرا من مائي ، وسالت بها ودياني ولكنني لم أجد ربيعا أرتع فيه ، ولا أشجارا أستظل بها عن شمس أكداري ، ليت للزمن عينا يبصر بها ظلما قد أوردنيه ، لبكى بها ما إن رآني .
وعندما بلغت أشدي ، تربع الحزن أمامي ، يطلب مني علما ، قلت أنت من علمني ، كيف تطلبني علما ؟ قال لي : كلما أقبلت على الناس وجدتهم فرحين ، ثم إذا رأوني بدءوا يحزنون ، إلا أنت كلما أقبلت عليك وجدتك باكيا حزينا ، وإذا رأيتني تبسمت لي .
وسقط مني قلمي وارتمى في حضن أوراقي الباكيات ، وهم في غوغاء البكاء سحبت قلمي وهو متمايل يتمتم ببعض الكلام ، ونظرت في ورقاتي ، وتمنت أني لم أسقط دمعاتي وبها أكتب عباراتي ، فوضعت يدي على إحداهن واستأذنتها بالكتابة وكأنها لا تريد ، وهززتها من جنبيها وصرخت فيها لما لا تكوني لي صدرا أبث فيها شكاياتي ؟ فلم تجبني ، وألقيتها أرضا وتوكأت عليها بقلمي ، وقد طاشت عليها دمعاتي ، لا يسعك أن يُكْتب عليك ما أرقني ، أما تطيقين حبر دمعاتي ، إن لم تقبلي ما أريده قسمتك برأس قلمي نصفين ، ومزقتك أشلاء ، وعندما أمسكت بقلمي لأكتب عباراتي ، سمعت نداء فجري كسابق أيامي ، وبدأت أجهش بالبكاء ، وألقيت برأسي في حضن أوراقي ، وأمرغ بهي وجهي حتى تبللت وأنا أنشد بتلك الأبيات :
لبست ثوب الرجا والناس قد رقدوا
وقمت أشكو إلى مولاي ما أجد
وقلت يا عدتي في كل نائبة
ومن عليه لكشف الضر أعتمد
أشكو إليك أمورا أنت تعلمها
مالي على حملها صبر ولا جلد
وقد مددت يدي بالذل مبتهلا
إليك يا خير من مدت إليه يد
فلا تردنها يارب خائبة
فبحر جودك يروي كل من يرد
ورفعت رأسي من على أوراقي ، ولم أستطع أن اكتب شيئا وقمت من على كرسيَ ، وابتعدت عن ماستي ، فنادى علي قلمي ، ألا تريد أن تشكو إلينا ، فوقفت والتفت إليهم وقلت :
(إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) .
إرسال تعليق