ألفة يوسف أكاديميّة مختصة في اللغة العربية، وكاتبة تونسيّة، اشتهرت بكتاباتها وآرائها الجريئة حول العديد من القضايا الدينية كالحجاب والنقاب، والموروث الديني بشكل عام، ولطالما تحدثت عن المرأة وعن وضعيتها داخل المجتمعات الإسلامية، وقدمت أعمالاً مهمة كـ "الإخبار عن المرأة في الكتاب والسُنّة" و"حيرة مسلمة" و"ناقصات عقل ودين".
ويأتي كتاب "ناقصات عقل ودين، فصول في حديث الرسول (مقاربة تحليلية نفسية)"، دار سحر للنشر، ط1، 2005، في الخط التحريري نفسه للكاتبة ألفة يوسف. وقد ضمنته في فصوله الأربعة أفكاراً جديدة وتحليلات مبتكرة لمواضيع مختلفة لها علاقة بالدين الإسلامي بالدرجة الأولى.
اختارت الكاتبة في تقديم الكتاب التنويه بأنّها تريد من خلال كتابها هذا الاهتمام بوجه من وجوه الخطاب الديني، وذلك بمساءلة أحاديث الرسول بالبحث في بعض أبعادها الروحية والنفسية. وأن تبرز الاختلافات التاريخية حول أحاديث الرسول، وعمّا يمكن أن يكون قد تسّرب إليها من تحريف وتحوير.
وتجدر الإشارة إلى أنّ كتاب "ناقصات عقل ودين" تضمن أربعة فصول حول مواضيع مختلفة، كان الفصل الأخير منها هو الذي ركز على موضوع النساء ناقصات عقل ودين، في حين اختلفت المواضيع الأخرى في مواضيعها، ولكنّ ألفة يوسف اعتبرت أنّ هذه المقالات على اختلافها تتفق في وحدة المنهج وفي الرؤى.
استعانت الدكتورة ألفة يوسف في كتابها بالتحليل النفسي في قراءتها للأحاديث الدينية، وانطلقت في دراساتها من المصادر الإيمانية، وهي بذلك تؤكد على أنها لا تقدم كتاباً أكاديمياً مختصاً، ولكن شواغل فكرية قد تهم المختص وغير المختص.
محنة الغياب:
جاء الفصل الأول تحت عنوان "محنة الغياب" ليشير إلى عدد من الأحاديث والآيات القرآنية التي حاولت الكاتبة تفسيرها في أبعادها الروحية، كما استعانت بالسيرة النبوية مشيرة إلى مفهومي الافتقار والشبع، وأنّ على الإنسان أن يتخلى عن وهم الامتلاك، لأنّه بكل بساطة لا يمكن أن يمتلك أيّ شيء، وقد ورد في سيرة ابن هشام أنّ قريشاً في بداية خروج الرسول للدعوة، ذهبت إلى عمه أبي طالب تشكو له محمّداً، وعندما بعث لرسول الله يعلمه قال له: "يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يظهره الله أو أهلك دونه".
وقد اعتبرت ألفة يوسف أنّ مثل هذا الاختيار الرمزي الذي عرض على الرسول يعرض علينا في حياتنا بأشكال شتى، فإمّا أن نجمع ونمتلك ظانين في ذلك الجمع والامتلاك حقيقة ذواتنا، أو أن نعلم أنّ أي جمع ليس سوى طامس لكلمة الحقيقة فينا. وعلى هذا الأساس اعتبرت أنّ انغلاق الفرد على ذاته في أيّ ضرب من ضروب الجمع للمال والعلم أو السلطة هو ما يفسّر رفض الإنسان أن يتزحزح من صورته لينفتح على الآخر فيه وعلى الأخر حوله.
وتنتقل ألفة يوسف في الفصل نفسه إلى موضوع مهم لطالما شكل موضوع بحوث وتساؤلات، وهو عن حقيقة وجود الله، حيث أشارت إلى أنّه لا يمكن تحقيق وجود الله تجريبياً، وهنا يحضر دور الفلسفة، فمثلاً "لاكان" اعتبر في المفارقة ذاتها في حديثه عن اللغة أنّه لا وجود لما وراء اللغة، أي أنّه لا وجود لشيء خارج عن اللغة يضمن وجودها. وهنا تقرّ الكاتبة بأنّ الإيمان بالله لا يحتاج إلى أدلة، على اعتبار أنّه فعل نفسي لا عمل منطقي، وهو ما يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم إنّ حقيقة الإيمان هي في قول المؤمن "لا إله إلا الله خاصاً من قلبه أو نفسه"[1]. وفي الوقت ذاته أشارت إلى أنّ غياب الله يسقط المؤمن في حيرة، حيث إنّه يقوم بكلّ العبادات والطقوس لنيل رضى الله، ولكنّ غياب الله يجعل المؤمن غير متيقن من مدى رضا الله عنه، لأنّ الله لا يمكن أن يجيبه بشكل مباشر، وهنا تطرح الفكرة التي سبق وطرحها ماكس فيبر حين أوضح كيف أنّ المؤمن الكالفيني لم يكن يعرف إذا كان الله راضياً عنه أم لا، وعلى هذا الأساس يلجأ إلى مزيد من العمل وتحقيق النجاح، وهو السبيل الوحيد الذي يدلّ على الحظوة الإلهية في الدنيا والخلاص الأبدي في العالم الآخر..[2]، غير أنّه في الدين الإسلامي ليس هناك ما يؤكد ذلك، والرسول لم يجب عن أسئلة كثيرة تطمئن المؤمنين، كما لم يجدوا لها إجابات في القرآن. ومع أنّ الرسول أكد على أنه ترك فينا ما إن اتبعناه لن نضل، كتاب الله وسنّة رسوله، ولكنّ نظرة سريعة إلى تاريخ الإسلام تبين وجود اختلافات كبيرة بين مختلف المذاهب والفرق سببت العديد من الحروب، وهذا راجع لكون القرآن مهما تكن مواضع إعجازه لا يعدو أن يكون قولاً لغوياً يقبل معناه التعدد بالقوة. كما أنّ الرسول نفسه غاب بالموت، ولم تكد تمرّ ساعات حتى دبت الخلافات بين صحابته، وخلال سنوات انشقوا في فتن عديدة، حيث كان حضور الرسول هو الضامن لتواصل ممكن مع الذات الإلهية، وبغيابه غاب هذا التواصل.
وتؤكد الكاتبة أنّه لا يمكن البتة أن نعرف في الحياة الدنيا مدى رضا الله عنا، ولا أن نجزم بأنّ ما يفعله أي منا هو خير أم شر، وتضرب مثالاً على ذلك بحكاية الخضر والآيات 65 ـ 82 من سورة الكهف، والتي توضح كيف أنّ ما يراه موسى شرّاً، كان بالنسبة إلى العبد الصالح خيراً، وبالتالي لسنا قادرين على النفاذ إلى الحكمة التي تسيّر الكون كله.
وفي تماهٍ مع الصوفية، أكدت ألفة يوسف أنّ الله لا يكون إلا في غيابه، فهو لا يقبل التحقيق العقلي أو التجريبي، وأنّ ذات الله ليست موضع معرفة ومنطق ولكن موضع انكشافٍ وتجلٍّ، وهذا يعني أنّ طاعة الله والتقرّب إليه لا تقتصر على تطبيق لطقوس فارغة من كلّ بعد روحي، ولكنّها سعي من الإنسان نحو صوت الله.
بين حرفية القانون وروح القانون: الزنى مثالاً:
في الفصل الثاني الذي اختارت له الكاتبة عنوان "بين حرفية القانون وروح القانون: الزنى مثالًا"، تّم طرح موضوع في غاية من الأهمية، ويتعلق الأمر بإقامة الحدود وتطبيق القانون، حيث وجدت أنّ هناك تقابلاً كبيراً بين تسامح الرسول، وبين ما يقوم عليه الفقه الإسلامي، لا سيما في الوقت الحالي من تركيز على الحدود وإعلاء من شأنها.
وأوردت أمثلة مختلفة على هذا التسامح، كقصة المؤمن الذي جاء النبي وأعلمه أنه قد زنى مع أنه متزوج، فكان جواب النبي "لو سترته بردائك لكان خيراً لك"[3]، وسلوك الرسول هنا يوحي ظاهرياً على الأقل بأنّه خروج عن القانون المفترض، وهو الرجم أو الجلد، والذي تمّ تقييده بوجود أربعة شهداء، فهل يعني هذا التشديد في شرط تطبيق الحد موقفاً متسامحاً من الزنى أم هو وقاية من الوشاية؟ لا يمكن تقديم جواب قطعي حسب ألفة يوسف، التي أشارت في الوقت نفسه إلى أنّ المواضيع الجنسية المباحة في الإسلام أكثر من المحرّمة، فباستثناء المحارم والمشركين يمنح الإسلام للرجل أن يتزوج أربع نساء، وبعقد لا يتطلب أكثر من شاهدين عدلين ومهر، ويختلف المفسرون في زواج المتعة انطلاقاً من قوله تعالى {فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن فريضة}[4]. كما يمكن في إطار العلاقات الاجتماعية التي تعترف بنظام الرق أن يتسرّى الرجل بمن شاء في ملك اليمين، وللرجل تسريح زوجته بإحسان، كما للزوجة خلع زوجها بردّ مهره إليه.
وكما هو الشأن بالنسبة إلى الرجل ترى ألفة يوسف أنّه لا توجد آية صريحة في تحريم علاقة الحرّة بملك يمينها، ولا آية صريحة في تحريم زواج المرأة بأكثر من رجل، وذلك انطلاقاً من الآية القرآنية: {حرمت عليكم أمهاتكم ... والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم}.[5]
ولكن، نظراً لوجود عرف سائد فضلت الكاتبة ودرءاً للجدل أن تأخذ بالرأي الذي يرى أنّ للمرأة أن تنكح زوجاً واحداً، يمكنها خلعه متى شاءت.
ولكنّ الزنى كفاحشة وممارسة حيّرت الفقهاء وولدت اختلافات عديدة، وخاصة في ظلّ وجود زواج وتسرٍ من جهة، وزنى من جهة أخرى، ويبدو أنّ الفرق هو في خضوع العلاقتين الأوليتين لشروط تنظيمية مقابل خلو العلاقة الثالثة منها، وهنا يمكن القول وبالنفاذ إلى روح القانون إنّ تحريم الزنى ليس هدفاً في حد ذاته، ولكنّه متصل بالخشية من اختلاط الأنساب، ومن ثمّ خشية إتيان المحارم.
وعلى هذا الأساس فتصوّر القانون كلاجم للفطرة البشرية يتنافى مع إقرار الله سبحانه وتعالى بأنّه يُحلّ لنا الطيبات ويُحرّم علينا الخبائث، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة تدل على ذلك، فالرسول تزوج من امرأة ابنه بالتبني، وليس في اشتهائه لها ما يحرج أو يعيب، فليس الرسول إلا بشراً مثلنا يُوحى إليه، وأنّه تزوج خديجة وهي تكبره في السن، كما أنّه سمح لامرأة بالطلاق لأنّ مع زوجها مثل "هدبة الثوب"، وسمح لامرأة أن تخلع زوجها لأنّها لم تعد تطيقه، ولكننا ابتعدنا عن التصورات الإسلامية، فصرنا ندعو إلى الوحدانية في العلاقات الجنسية، في حين أنّ سلوك جلنا ينقض هذه الدعوة.
واختتمت ألفة يوسف هذا الفصل بالتذكير بأنّ القانون وتطبيقه ليس ضامناً للفضيلة ولا للخلاص، ولكنّ الضامن لها رحمة الله، وهو ما أكده الرسول نفسه في قوله: "لن يدخل أحد عمله الجنة، قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال لا، ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته".[6]
لا إله إلا الله:
جاء الفصل الثالث حاملاً عنوان لا إله إلا الله، وابتدأته الكاتبة بالحديث عن الشرك كرأس الكبائر، وخاصة أنّ القرآن يقرّ بأنه ذنب لا يغتفر {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء...}[7]، وفي الوقت نفسه يقول الحديث القدسي: "يا ابن ادم لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لغفرت لك"[8]، وهنا يطرح السؤال عن ماهية الشرك الذي لا يغفر؟ وهو ما كان هناك خلاف في تحديده بين من قصره على عبادة الأوثان ومن قام بتوسيعه إلى الصلاة والزكاة.
لكنّ كلمة شرك تفترض بالضرورة إسباغ صفات الألوهيّة على غير الله، وللشرك في مظاهره اللاواعية تجليات شائعة ذكرت منها الكاتبة عشق الآخر كقيمة تضفي عليه صفتي الأزلية والأبدية، وهو ما يعني ضرباً من ضروب العبادة، ومن هنا تكون عبادة الآخر الصغير دون الآخر المطلق بعداً من أبعاد الشرك. وفي صورة ثانية من صور الشرك تطرح ألفة يوسف علاقة الأب والأم مع ابنهما، حيث يمكن أن يحوَلا الابن إلى ملك لهما على أساس أنهما من وهباه الحياةـ متناسين أنّهما ليسا أصل الحياة بل صورة بدايتها، ومن هنا يمكن أن نفهم التقابل في القرآن بين من كان على دين الآباء ومن كان على دين الله، وكان الرسول ينهى عن القسم بغير الله، حيث كانت قريش تحلف بآبائها. أمّا الصورة الثالثة فكانت الصورة الإله، حيث أوضحت من خلالها كيف أنّ الإنسان قد يخلط بين أبعاده المتخيلة وأبعاده الواقعية حيث قد يطابق بين تخيله لنفسه وللعالم من جهة، وحقيقة نفسه والعالم الخارجي من جهة أخرى، وقد يتجاوز الإنسان تخيله المطابقة بين معرفته الواقع وحقيقة الواقع إلى تخيله القدرة على الفعل في الواقع، أي إلى درجة تخيله القدرة على تحقيق مشيئته في الكون دون مشيئة أخرى عليا.[9] بالتالي توصلت الكاتبة إلى أنّ عبادة الأنا قد تصم أذاننا عن صوت الحقيقة في ذواتنا، فيتخيل الأنا أنّه فاعل حر في الكون، في حين أنّ أقصى حريته لا تتجسم إلا في الخضوع لأصل الحق فيه.
وإذا كان الشرك أكبر الكبائر فإنّ كلّ الكبائر تحمل في جوهرها وجهاً من وجوه الشرك، اختلف المفسرون في تصنيفها، واختلفت أحاديث الرسول في عددها، على أنّ أدناها اثنان هما الشرك بالله وعقوق الوالدين، وأوسطها أربع هي الشرك بالله وقتل النفس وعقوق الوالدين وشهادة الزور، وأقصاها سبع هي الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات. ومهما تعدّدت وجوه الشرك وتنوعت فهي تشترك حسب ألفة يوسف في الإيهام بتأثير الإنسان فيما لا يملك فيه تأثيراً.
ناقصات عقل ودين:
آخر فصل في الكتاب، وهو الذي اختارت الكاتبة أن تعنون به كتابها، هو الفصل الرابع الذي جاء تحت عنوان: ناقصات عقل ودين، وقد أوضحت منذ بدايته كيف أنّ المرأة كانت موضوعاً لصراعات إيديولوجية وسياسية بين الأحزاب الدينية والأحزاب اللائكية، بين الفريق الأول الذي يدّعي أنّ المرأة عرض يجب أن يصان، وأنّ الإسلام حرّر المرأة وأكرمها، في حين يرى الفريق الثاني، وعلى العكس من ذلك، أنّ الإسلام يحرم المرأة من حقوق كثيرة، ويستشهد بأشهر حديث عن المرأة، مفاده أنّ النساء ناقصات عقل ودين، وعلى هذا الأساس حاولت ألفة يوسف في هذا الفصل التركيز على موقف الرسول من المرأة انطلاقاً من مساءلة هذا الحديث تحديداً، بعيداً عن الظروف التاريخية المتحولة، ليس بشكل نقدي، ولكن انطلاقاً من اعتبار أنّ هذا الحديث له علاقة بالطبيعة الأنثوية للمرأة التي لا تختلف عبر الزمان والمكان.
اختارت الكاتبة أول تمييز أنثوي عند المرأة وهو الأمومة، باعتباره فارقاً بيولوجياً بين الرجل والمرأة، ومع أنّ الجنين إذا ولد ينفصل عن أمه بقطع الحبل السري، فإنّه يظل في حاجة إليها لتحقق له حاجاته، وهنا يطرح تساؤل بعض النسويات حول تسمية الابن باسم أبيه، [10] حيث اعتبرنها تفضيلاً للرجل على المرأة، ولكنّ الكاتبة ألفة يوسف رأت أنّ هذا ليس تفضيلاً، بقدر ما هو إشراك للطرف الثالث الضروري لإخراج الطفل رمزياً من علاقة ثنائية بينه وبين أمّه. وهي الفكرة التي ستتوسع فيها من خلال طرح عقدة أوديب بين الأنثى والذكر، حيث لاحظت أنّ هناك اختلافاً بينهما، فالذكر يشتاق في البدء لأمّه ثم ينقلب على هذا الشوق، أي أنّ الذكر يماهي الأب، ويبتعد عن الأم متجهاً نحو موضوع مشابه لها في الجنس، في حين أنّ البنت تشتاق إلى الأم، ثم تنأى متجهة نحو موضوع مخالف لها في الجنس، وهذا ما يعني أنّ الأنوثة في تشكلها اللاواعي هذا ما يُعدّ نقصاناً للعقل عندها.
والنساء لسنَ ناقصاتِ عقلٍ فقط، ولكن ناقصات دينٍ أيضاً، وإذا نظرنا إلى الديانات الكتابية نجد أنّ الدين اليهودي متّصل بأحبار اليهود، والدين المسيحي متصل بالكنيسة وباباواتها، والدين الإسلامي بالفقهاء والأئمة، وتضطلع هذه المؤسسات بدور الحامي الرمزي والفعلي للجماعة في حال الاعتداء عليها، ولذلك اعتبر دولتو أنّ الأديان مؤسسات سياسية اجتماعية تقوم على تراتبية قضيبية، أساسها طاعة ولي الأمر أو طاعة الفقيه أو القس.
واسترسلت الكاتبة في شرح هذه الفكرة مشيرة إلى أنّ لكلمة القضيبية هنا قيمة كبرى كدال يرمز للذكر، وبما أنّ اللغة هي المحددة للكائن، فهي التي تحدد انتماء الذات إلى جنس أو آخر.
ولكنّ مبدأ المجموعة هو في أساسه ذكوري، وهذا شأن التجمعات الحزبية والعسكرية والدينية، في حين أنّ مبدأ الأفراد هو أنثوي، وفي غياب سمة لمجموعة النساء تغيب المجموعة، وتعدد النساء واحدة واحدة إلى ما لا نهاية. كما أنّ سلوك الفقهاء ذكوري يحتفي بالرمز ومتعة الفقهاء القضيبية تقوم على لم شمل الأمّة ضمن رؤية واحدة هي جوهر المجموعة وعمادها، أمّا سلوك المتصوفة فهو أنثوي يفتح باباً على الواقعي، ولأنّه متعة صامتة تقرّ بوجد لا تملك عنه تعبيراً. وهذه المقارنة هي التي تبرز كيف أنّ نقصان عقل المرأة ودينها تعبير عميق عن طبيعة الذات الأنثوية في أعماقها النفسية.
حاولت ألفة يوسف من خلال هذه الفكرة الأخيرة أن تفسّر بعض تأويلاتها لفهم خصائص الجنسين الواردة في القرآن والأحاديث، كما هو الشأن بالنسبة إلى خلق آدم قبل حواء. حيث أقرّت بداية أنّه لا يمكن أن يخلق آدم وحواء في آن واحد، وكان لا بدّ أن يسبق أحدهما الآخر، لأنّ طبيعة الوجود التتالي. وبما أنّ اللغة هي التي تشكل الكائن كما أسلفت الكاتبة، والدالة القضيبية اللغوية تمثل الذكور ولا تحيط بالمرأة، فلا يمكن أن تخلق المرأة قبل الرجل، إذ لا يمكن أن يوجد الكائن قبل اللغة. وهي خلقت من الرجل، وليس الرجل كله ولكن من ضلعه، وهي في الحالتين محكومة بالدالة القضيبية التي تسبقها، ومع ذلك فليس هناك أي انتقاص لشأن المرأة. ولكن لماذا كانت للرجال درجة على النساء؟[11]
استعانت الكاتبة بموقف المفسّرين في هذه النقطة، فقد اعتبروا أنّ هذه الدرجة لا تخصّ المنزلة عند الله، ولكنهم اختلفوا في تفسيرها حيث هناك من رأى أنّها في الطاعة وزيادة الميراث والجهاد والنفقة والقيام على المرأة أو حق اللعان...، فلمَ لا تكون هذه الدرجة هي درجة خضوع الرجل للدالة القضيبية دون المرأة؟ إنّ هذا يسري على كلّ الحالات التي تبدو فيها المرأة أقلّ درجة من الرجل، وقد سبق واعترضت أم سلمة على كون الرجال يغزون والمرأة لا تغزو، وهو ما يعني شعوراً واضحاً بالحيف والظلم عند النساء، يقابله إحساس واضح بالتفوّق عند الرجل. وإذا اعتبرنا أنّ هذا يضمر حالة عصابية، فمن المشروع السؤال عن كيفية الخروج من هذا المأزق.
وجدت ألفة يوسف في الآية القرءانية {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب ممّا اكتسبوا وللنساء نصيب ممّا اكتسبن...}[12] إجابة عن هذا السؤال، وضرورة قبول كّل جنس لسماته المميزة عن الآخر.
وعرّجت الكاتبة على موقف الأساطير من المرأة، وقدمت نموذج الأساطير الإغريقية التي ترمز للموت بثلاث نساء، ومن خلال التحليل النفسي يتضح أنّ هذه الفكرة مبينة على العلاقة الوثيقة بين الأنثى التي تلد الحياة، وعندما يموت الإنسان يرجع إلى الأرض الأم الرمزية، ولمّا كانت اللغة هي التي تُسمّي الكائن فتنشئه بتلك التسمية كائناً فإنّه يمكننا أن نقرّ بالعلاقة الوثيقة بين الموت والصمت. ومن سمات المرأة في المخيال العربي الإسلامي أن تكون صامتة.
وتؤكد ألفة يوسف على أنّ منطلقات التحليل النفسي في رمزيتها، ومنطلقات الملاحظة المباشرة في بساطتها، ومنطلقات العلوم الطبيعية في دقتها تقرّ باختلاف رمزي بين الجنسين، تكون بمقتضاه المرأة ناقصة عقل ودين، ولكن من منظور واع لا يعني أيّ تفضيل بين الجنسين.
ثمّ تطرّقت الكاتبة إلى أحد أكثر المواضيع طرحاً للجدل بين صفوف المسلمين، وهو قضية الحجاب وعلاقته بالأنثوي، والذي تناولته من جانب واقعي تاريخي ومن جانب رمزي نفسي.
يدلّ الجانب التاريخي للموضوع على أنّ الحجاب لغة لا علاقة له باللباس الذي ترتديه بعض المسلمات اليوم، فالحجاب يفترض غياباً تاماً للمحجوب عن الرؤية[13]، وقد طلب الله تعالى من زوجات الرسول أن يتحجبن بقوله {... وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب...}[14].
وذكر في أسباب نزول هذه الآية أكثر من سبب، من بينها أنّ عمر بن الخطاب قال: "يا رسول الله إنّ نساءك يدخل عليهنّ البر والفاجر فلو أمرتهنّ أن يحتجبن قال: فنزلت آية الحجاب"، بالإضافة إلى روايات أخرى تفيد كلها أنّ نزول الحجاب كان لرفع ضرر محتمل عن زوجات الرسول، ومن ثمّة عن الرسول نفسه، خاصة وأنّ المجتمع القرشي لم يكن يتصور المرأة كائناً ذا قيمة.
وقد تجاوز الأذى المحتمل نساء الرسول ليشمل سائر النساء[15]، ولكن هناك من اعتبر أنّ هذا الأمر خاص بالحرائر دون الإماء، حتى في قوله تعالى {قل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ...}[16]، كان ذلك من أجل تجنيبهن الأذى، وهو ما شكل موضع خلل داخل المجتمع في تنظيم الطبقات الاجتماعية آنذاك، حيث كان عمر بن الخطاب يضرب الأمَة التي تلبس زي الحرائر، وهو ما يفقد إدناء الجلابيب البعد المقدّس، لأنّه لو كان مقدّساً لشمل جميع النساء بلا استثناء بغرض اتقاء الفتنة، وهو ما يعني أنّ آية الحجاب متصلة بظرف تاريخي عرضي يهدف إلى حماية النساء الحرائر عموماً، ونساء الرسول خصوصاً.
لقد أدّى مفهوم الزينة بدوره إلى اختلاف المفسرين حول ما يقصد بالزينة، وما يمكن أن يكشف من جسد المرأة، وشاع أنّ جسد المرأة كله عورة، لأنّه لو اقتصر الأمر على درجة الفتنة لوجدنا درء الفتنة يتجاوز الخوف على الرجل من فتنة النساء إلى الخوف على النساء من فتنة الرجال، ولكنّ صوت المفسرين بقي خافتاً، وبقي حجاب المرأة هو ذاك الذي يستجيب لحاجات نفسية عميقة مخمداً بعض جوانب اللاوعي.
ويمكن في الأخير القول إنّ ألفة يوسف حاولت في كتابها الاعتماد على الحياد في تناولها لمواضيع كتابها، من خلال تحليل منطقي يعتمد على التأويل والتحليل النفسي للأحاديث والآيات القرآنية، وهي في حديثها عن أنّ المرأة ناقصة عقل ودين لم تنفِ المقولة، ولكن حاولت من خلالها إبراز تميز المرأة التي توجد قوتها في أنوثتها.
* نشرت هذه القراءة في: "النسوية الإسلامية"، إشراف وتنسيق بسام الجمل وأنس الطريقي، سلسلة ملفات بحثية، قسم الدراسات الدينية، منشورات مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث.
[1]ـ صحيح البخاري مج 3، ج 8، ص 146
[2]. Weber, Max, «l’Ethique protestante et l’esprit du Capitalisme», éd Plon, 1964 p.115
[3]ـ مالك موطأ، ص 546
[4]ـ النساء 4/24
[5]ـ النساء 4/23 ـ 24
[6]ـ صحيح البخاري مج 3، ج 1، ص 157
[7]ـ النساء 4/48 - 119
[8]ـ رواه الترمذي، وصححه ابن القيم، وحسنه الألباني.
[9]ـ "ولا تقولنّ لشيء إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله". الكهف. 18/23 ـ 24
[10]ـ "ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله". الأحزاب 33/ 5
[11]ـ "ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة" البقرة 2/228
[12]ـ النساء 4/32
[13]ـ يقول الله تعالى: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحياً أو من وراء حجاب"، الشورى 42/51
[14]ـ الأحزاب 33/53
[15]ـ "يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً"، الأحزاب 33/59
[16]ـ النور 24/31
إرسال تعليق