U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

رواية الطنطورية رضوى عاشور:

رواية الطنطورية تحتاج إلى قلب قوي، ونفس متماسكة لقراءتها حتى النهاية، ولم أكن تلك النفس للأسف. هي بحق واحدة من أروع وأصدق ما كُتِبَ عن مرارة التهجير وفقد الأوطان. وأي ألم يصف أن تترك منزلك، الذي يتم هدمه في اليوم التالي، وحينما تعود حتى لتستنشق عبير المكان، تجد مكانًا غير المكان، وتجد حتى أن منزلك لم يعد منزلك، وإنما أصبح منزل من استباح ديارك يومًا ما.


غلاف رواية الطنطورية – رضوى عاشور – قرأت لك

رواية الطنطورية وقفت معها كثيرًا، ومع كل لفتة، وكل لمحة لشخوص وأبطال الرواية، وما مرّ بهم من أزمات، وآلام، وأثر ذلك على حياتهم. قرأت في رواية الطنطورية معنى ألا يكون لك وطن تنتمي إليه. معنى أن يكون وطنك همًا وحملاً يثقل كاهلك. معنى أن تكون جنسيتك محل انتقاد وانتقام. معنى أن تكون لفظة “فلسطيني” توازي لفظة “مُخَرِّب” يجب أن يتم توريتها عن الأعين. معنى أن تقاتل بجلد غمار قضية خاسرة، ليس لك فيها نصير ولا ظهير .. هذه هي رواية الطنطورية.
رواية الطنطورية وقفت عندها كثيرًا، وأظنني سأعود إليها كلما أردت أن أتعلم من التاريخ، كيف تُفقد الأوطان، وأي مرارة تصاحب من فقدوا أوطانهم وحملوا لقب “لاجئ”. أكتب هذه الكلمات، ويحيط بنا – الآن – الآلاف من اللاجئين السوريين المهجرين من وطنهم الذي دمرته الحروب. ما أشبه الليلة بالبارحة. لا بأس .. الطنطورية تروي حكايتهم جميعًا ليعلمها العالم.

نظرة عامة على رواية الطنطورية

رواية الطنطورية هي مزيج ما بين عمل أدبي وسرد تاريخي، تم صياغته بشكل متفرد، لا يقدر عليه إلا كاتب في ثقل رضوى عاشور. رواية الطنطورية هي العمل الثاني الذي أقرأه لرضوى عاشور – بعد رواية ثلاثية غرناطة – والتي تروي مأساة ومعاناة فقد الأوطان. ويبدو أن الكاتبة بارعة للغاية في هذا الفن من الرواية، فهو يتطلب بحثًا تاريخيًا شاقًا، ودقة بالغة لربط الأحداث بالشخصيات، في نسق واقعي. كل هذا بلغة أدبية بارعة فذة، تنقلك من حدث إلى حدث بسلاسة بالغة، على اختلاف الشخصيات، وتناقض الأحداث، وتتابع الأزمان، ولكن الرابط المرافق لصدق مشاعر الراوية في الرواية لا يفارقك.
بصيغة الراوي، تحكي رقية بنت أبو الصادق من قرية الطنطورة الرواية. قصة عائلة من قرية الطنطورة جنوب حيفا، منذ مطلع العام 1948 حتى عام 2000م. اختارت الكاتبة – ببراعة شديدة – قرية الطنطورة، لكونها من أوائل القرى التي حدثت فيها مذبحة بشعة أيام الاجتياح الصهيوني الأول، وتم إغفال الكثير من التفاصيل الخاصة بها إعلاميًا، بجانب المذابح المروعة التي حدثت في حيفا، دير ياسين، ثم لاحقًا صبرا وشاتيلا.
اختارت رضوى عاشور شخصيات افتراضية – غير حقيقية – من وحي خيالها، ونوّهت عن هذا في نهاية الرواية، وإن كان المتابع للأحداث يكاد يجزم أن الشخصيات حقيقية، لصدق وحرارة الراوية، وسلاسة نقل الأحاسيس والمشاعر. كذلك يُنصح قبل قراءة الرواية، قراءة ملحق الألفاظ الموجود في صفحة 461 والذي ذكرت فيه الكاتبة معظم الألفاظ العامية المستخدمة في الراوية، من اللهجة الفلسطينية أو اللبنانية. للأسف لاحظته قبيل الانتهاء من الرواية، وبالتأكيد كان ليكون عونًا لي، فقد اضطررت لسؤال أصدقائي ومعارفي الفلسطينيين عن الكثير من المصطلحات أثناء قراءة الرواية. وبالتأكيد كان من المفضل أن يكون في بداية الرواية، ليعين القارئ على فهم المصطلحات التي يتم استخدامها بكثرة في الرواية.


قائمة الكلمات الغريبة الواردة في رواية الطنطورية - قرأت لك
قائمة الكلمات الغريبة الواردة في رواية الطنطورية – قرأت لك

كذلك، اختصارًا لكثير من السرد التقليدي الخاص بالتعريف بالشخصيات، الأماكن، وأضلاع الرواية، قامت رضوى عاشور بفكرة بسيطة لاختصار هذه التفاصيل. في مقدمة الكتاب قامت بعرض 3 صور تمثل خريطة عامة لفلسطين، تُظهر فيها موقع قرية الطنطورة بالضبط. ثم صورة أخرى لقرية الطنطورة نفسها توضح مكان بيت أبو الصادق والد رقية، وما حولها من الدور. ثم صورة ثالثة توضح شجرة العائلة، منذ بداية الرواية وحتى آخر طفل تم ولادته. وليس شجرة العائلة فحسب، ولكن كذلك أماكن وسنوات ميلاد الشخصيات، ومكان وفاة من مات منهم أثناء أحداث الرواية.


خريطة فلسطين من رواية الطنطورية - قرأت لك
خريطة فلسطين من رواية الطنطورية – قرأت لك

خريطة فلسطين كما تم تضمينها في رواية الطنطورية، وتظهر فيها قرية الطنطورة بخط أوضح، وبارز عما حوله من أماكن


مخطط لقرية الطنطورة قديمًا حسب رواية الطنطورية لرضوى عاشور - قرأت لك
مخطط لقرية الطنطورة قديمًا حسب رواية الطنطورية لرضوى عاشور – قرأت لك

خريطة أشهر مساكن البلدة حول دار أبو الصادق والد رقية بجانب البحر، وما حولها من دور وأماكن


شجرة العائلة من رواية الطنطورية رضوى عاشور - قرأت لك
شجرة العائلة من رواية الطنطورية رضوى عاشور – قرأت لك

شجرة العائلة الواردة في الرواية، والتي اختصرت الكثير من السرد الخاص بالتعرف على الشخصيات، وعلاقتها ببعضها البعض

ملخص رواية الطنطورية لرضوى عاشور

الراوية في الرواية تسرد كما كانت تحكي لنا جدتنا حكايات الأجداد. ليست الأحداث مرتبة أو مترابطة بشكل مباشر، بل يبدو الأمر كما لو كانت الجدة تروي ما يأتي على الذاكرة فقط. فتأخذك رقية الطنطورية إلى الماضي في مشهد من مشاهد المراهقة، وهي ترى خطيبها – المرتقب – يخرج من البحر، ثم عرض الزواج من بيت عين غزال، واجتماع أهل العريس في بيت أبو الصادق لطلب يد رقية، على الرغم من غياب العريس (يحيى) في القاهرة لأنه يدرس هناك.
ثم تنتقل فجأة الجدة إلى مشهد حديث، حيث يجتمع حولها أبنائها وأحفادها، وهي تروي لهم مشهدًا من الماضي، وطرائف ما كان يحدث معها ومع والدتها – جدتهم الكبرى أم الصادق – من أحداث تلقت عليها العقاب حينذاك، ولكنها تضحك عليها الآن. الأمر في مجمله يبدو كما لو كان هناك شخص ما يروي لك رواية طويلة، أو مجموعة من القصص، ولكنه يمسك بصعوبة بأطرافها، أو لا يرغب في سردها.
نفسية الراوية في الرواية تمر بهذه الظروف. فهي تروي في ثنايا الرواية أنها لا تكتب رغبة منها، ولكن تروي القصة بناءً على ضغط مهذب من ولدها (حسن) الذي يصر على ضرورة توثيق الأحداث الدامية التي تعرض لها الفلسطينيون من بعد تهجيرهم في أرضهم، سواء لحظة التهجير نفسها، أو ما حدث بعدها من تداعيات، بكونهم في بلد غير بلدهم، ويحملون لقب (لاجئ) ليس له أي حقوق قانونية من حقوق المواطنة التي يحظها بها أبناء شعب هذا البلد.
لذلك جاءت الرواية نوعًا ما مليئة بالكثير من المشاهد السابقة عن الأحداث (تقنية الـ Flash Backward)، والمشاهد التالية للأحداث (تقنية الـ Flash Forward). ولكن الوجبة الأدبية والعاطفية المتولدة عن رواية بمثل هذه الأحداث كانت دسمة للغاية.
تبدأ الأحداث الرئيسية بمشاجرة .. مشاجرة كبيرة بين الأخوين أبو الصادق وأبو الأمين. هي المشاجرة الأولى من نوعها. أبو الأمين – الأخ الأصغر – يصرح بأنه راحل غدًا، وأنه يجب أن يأخذ النساء والأطفال معه. ويجب أن يحذو أبو الصادق حذوه، فقد سقطت حيفا (المدينة الأكبر) في يد الصهاينة في يومين فقط ولن ينجدهم من السقوط شيء. يرفض أبو الصادق الهرب، وينعت أخوه بالخائن، ويبرر بقاؤه في الطنطورة بأن الجيوش العربية لن تقف مكتوفة الأيدي، وأنها حتمًا ستتدخل. فيلطم أبو الأمين خده كالنساء ويصرخ في وجه أخيه للمرة الأولى بأنه سيضيع نساؤه مع من سيضيع من نساء البلدة. ويرحل الأخ الصغير .. ويعود بعد عدة أيام، يطلب أخذ رقية الصغيرة، وأمها إنقاذًا لهم، فيقف له أبو الصادق بالسلاح – للمرة الأولى أمام أخيه – وينهره ويزجره عن الاقتراب من أهل بيته.


مشاجرة أبو الصادق مع أبو الأمين لمغادرة البلد بالنساء والأطفال
مشاجرة أبو الصادق مع أبو الأمين لمغادرة البلد بالنساء والأطفال

ولكن تصح رؤية أبو الأمين للأحداث .. ويأتي صباح الثالث والعشرين من آيار (23 مايو 1984) بالفزع، إذ تحكي رقية أن أمها أيقذتها وطلبت منها ارتداء ثلاثة أثواب فوق بعضها البعض، وحملت القليل من الزاد وانطلقت إلى دار أقربائهم أم جميل. قبل أن يوقفهم جنود عصابات الصهاينة. تروي رقية الحدث بتفصيلاته وكيف اصطف المدنيون من النساء والأطفال والشيوخ وما بقي من الرجال، وجاءت المجندات الغليظات من الصهاينة وقاموا بتفتيشهم وأخذ ما معهم من المال والذهب والطعام، بل كانوا ينزعون الحلقان من آذان الأطفال.
ثم يأتي مشهد (كيس الخيش) .. كيس الخيش هو رجل يرتدي في رأسه كيسًا من الخيش، لا يظهر منه سوى عينيه. كان يقف بجانب جنود الاحتلال وهم ينادون على الرجال، فكان كيس الخيش يشير إلى من نادى عليه الجنود، ويُعرّفهم به حتى يخرج من الصف، ويقتاده الجنود إلى حتفه. بل كان يُخرج من الصف من يعرفهم بدون حتى أن يسأله أو ينادي عليه الجنود.
كيس الخيش هو المشهد الذي يتكرر في أي احتلال في التاريخ .. ذلك الخائن الجبان الذي خشي على نفسه القتل، الذي انصاع لعدوه، وضعف أمام إغراء المادة، والوعد بالمكاسب – الزائفة – فباع أمامه كل شيء، ولم يرع أهل أو دم أو دين أو عشيرة.


مشهد كيس الخيش من رواية الطنطورية
مشهد كيس الخيش من رواية الطنطورية

ثم حملوا ما بقي من الرجال والنساء والشيوخ في شاحنة. وهم في الشاحنة ترى رقية جثة جميل ابن خال أمها. فتصرخ أم جميل، وتصرخ أمها فزعًا لرؤية جثة ابن خالها مضرجة في الدماء، خالية من الروح. ثم لم تلبث رقية أن صرخت فزعًا لهول ما رأت من مشهد أبوها وأخويها الاثنين – الصادق وحسن – جثثًا هامدة على أطراف تل كبير من الجثث الملقاة في الطريق. وتصرخ رقية وتخبر أمها، ولكن أمها بدا كمن فقدت القدرة على رؤية زوجها وأبنائها مضرجين في دمائهم. بل اشتد الأمر عليها بعد ذلك، فأخذت تصرح بأن أبو الصادق في الأسر، وولديها هربا إلى مصر بثقة هائلة ويقين عجيب. أما رقية فقد فقدت القدرة على النطق، فلم تنطق حرفًا بعدها، إلا حينما وصلوا إلى صيدا حيث بيت عمهم الجديد، فكان أول الكلمات التي همست بها لعمها:
“أبي وأخواي الاثنان قُتِلُوا. رأيتهم بعينيّ على الكوم. كانوا بين مائة وربما مائتي قتيل، ولكنهم كانوا على طرف الكوم، رأيتهم. ستقول لك أمي إن الصادق وحسن ذهبا إلى مصر، وإن أبي في الأسر. أنا رأيتهم غارقين في دمهم على الكوم.”
تبدأ في صيدا الحكايات. حكايات السفر، حكايات الفقد، حكايات المشاعر والأحاسيس التي تبلدت، أو تغيرت، أو اشتدت قسوتها، أو زادت رقتها. ترى رقية ابن عمها عزّ، وتسمع منه الحكايات، وتروي له المزيد، وتحاول تخفف عنه رغم أن آلامها أشد من آلامه وهي ابن الخمسة عشر ربيعًا. يعرض أبو الأمين تزويج رقية من ابنه البكر أمين، فتوافق، وتبدأ مع أمين حياة جديدة.
لا تنقطع حياتها عن حياة عمها وزوجة عمها، غير أن أمها تفارق الحياة سريعًا بعد زواجها بأيام قليلة، وقبل رحيلها تعطيها أغلى ما تملك .. مفتاح دارهم.
مفتاح دارهم الذي لازمها مربوطًا بحبل حول عنقها، منذ تركت الدار يوم اجتياح الصهاينة له، فلم يفارقها حتى وهي تستحم. كان الحبل يدوب، فتستبدله بحبل آخر، ولكن يظل المفتاح ملاصقًا لصدرها، انتظارًا لأمل العودة إلى الديار، وفتح الأبواب.
وتأخذه منه رقية، ويظل ملازمًا لها للأبد، فكانت كأمها، لا تخلعه أبدًا من حول عنقها، حتى أنها كانت تستحم به. وكلما داب الحبل غيرته، ويبقى المفتاح كما هو ملاصق لصدرها.
تبدأ حياتها مع أمين – ابن عمها الطبيب – الطيب الذي يحمل لها مشاعر الرفق والحنان، فلا تدري رقية أهو بسبب وجيعتها في فقد عائلتها بالكامل، أم بسبب صلة الرحم التي يحرص عليها الجميع، أم بسبب حبه لها بالفعل .. لا تدري .. ولكنها تظل على وفاق دائم معه حتى الفراق، وتنسى – أو تتناسى – يحيى بن عين غزال.
بعد زواجها من يحيى والمعاملة الكريمة التي يعاملها بها، وهو الطبيب المتخرج من الجامعة، وهي الفتاة التي لم تكمل تعليمها الثانوي بعد، تضطرب حياة رقية النفسية. ليس لأجل هذه المعاملة الطيبة، ولكن كذلك لأجل الأحداث التي تمر بهم. فهم – وإن كانوا يسكنون في دارهم في صيدا – فهم يحملون لقب لاجئ. حالهم أفضل بكثير من حال أبناء المخيم، الذين يسكنون الخيام، وليس لهم الحق في أي شيء. ليس لهم حق في العمل، أو الحصول على امتيازات المواطنين في البلد، أو حتى بناء دور يسكنوا بها بدلاً من الخيام .. ليس لهم الحق في أي شيء.
في خطوات – بل قفزات – تمر رقية على أدق الأحداث السياسية التي حدثت في الفترة التي بقيت فيها في صيدا، وجهاد عمّها، بل وإصراره على الجهاد بكل نفس من أنفاسه حتى آخر لحظة في عمره، وهو يعلم أحفاده معنى كلمة “وطن”. ذلك العم – أبو الأمين – يرفض بشدة أن يوصف بلفظة “لاجئ”. يرفض أن يقبل إعانات الحكومة للاجئين. يرفض أن يستخرج بطاقة يُكتب عليها مثل هذه اللفظة، أو تصنفه على أنه مواطن درجة ثانية يجبب أن يُعامل معاملة دونية، لأنه ليس من “أصحاب البلد”.


أبو الأمين يكره أن يعترف بكونه لاجئًا ويكره توصيف لاجئ
أبو الأمين يكره أن يعترف بكونه لاجئًا ويكره توصيف لاجئ

على الرغم من أنها لم تتعرض لاضطهاد مباشر، ربما بسبب وضع زوجها الاجتماعي كمدير لمستشفى عكا، إلا أن رقية تنقل كل المآسي والآلام التي تعرض لها الشعب الفلسطيني منذ مجزرة الطنطورة لحظة بلحظة، حتى أنها تشارك الأحداث السياسية، والأمور العامة المشهورة في تلك الفترة، بل وتنقل ظنون الناس الوقتية وتفاعلهم مع تلك الأحداث.
ثم تمر في روايتها على الذكرى الأشد والأكثر إيلامًا بالنسبة لها منذ مجزرة الطنطورة ..مذبحة صبرا وشاتيلا. مرارة التفاصيل منعتها من الاستطراد في السرد، لذلك يتولى عنها هذا الجزء ولدها عبد الرحمن في رسالة أرسلها إلى أخيه صادق المقيم في أبو ظبي.
لا .. لم تستطع رقية الحديث بشكل مستفيض عن مذبحة صبرا وشاتيلا .. لقد رأت مجزرة الطنطورة بشكل عابر وهي بعد مراهقة، أما مذبحة صبرا وشاتيلا فقد حدثت وهي امرأة، أم لأبناء رجال. أما أشد الآلام عليها في هذه الذكرى فهو اختفاء زوجها – أمين – في هذه الأحداث.
لا تدري ما حدث له بالضبط .. هل مات؟ هل اعتقل؟ هل تم دفن جثته؟ هل تم حرقها؟ لا تدري .. ولم يظهر أمين مع أحد، ولا رآه أحد وظل حيًا. فمن رأى الدكتور أمين، كان إما مقتول، أو معتقل، أو مُطارد. فلم يتوفر لدى عبد الرحمن – ولده الذي كان في لبنان أثناء هذه الأحداث – أي تفاصيل كافية تعرفه بمصير أبيه، وكان هذا هو ما اختتم به رسالته إلى أخيه.


خطاب عبد الرحمن لأخيه صادق عن رحلة البحث عن أبيه بعد مذبحة صبرا وشاتيلا - رواية الطنطورية
خطاب عبد الرحمن لأخيه صادق عن رحلة البحث عن أبيه بعد مذبحة صبرا وشاتيلا – رواية الطنطورية

لم تمض أيام بعد على اختفاء أمين، حتى رحلت خالتها العزيزة – أم الأمين – وآخر روائح الأحبة من الطنطورة، وآخر الرؤوس الكبيرة التي بقيت بعد الاجتياح الصهيوني للطنطورة.
يتخلل الرواية الكثير من المشاهد الممتعة عن العادات والأخلاق الفلسطينية، وخاصة فيما يتعلق بالأفراح. الأفراح الفلسطينية يجب أن تُقَام بجمع العائلتين في دار العروس، وحتى إذا تعذر الأمر لا يتم إتمام الزاوج إلا بهذه المراسم، حتى لو تمت في دولة أخرى، كما فعل صادق في زواج أخيه حسن.
كذلك يعبر مضمون الحديث عن بسالة الأم الفلسطينية في تربية وتنشئة أبنائها نشأة صارمة، بعيدًا عن الميوعة، فتُخرج للمجتمع أبناءً صالحين يتحملون المسئولية، ويعرفون قضيتهم حق المعرفة، ويسعون لعلاجها والتفاعل معها بشتى الطرق.
كذلك بعض العادات الخاصة، مثل كرم الضيافة وحسن الإيواء للمتأثرين بالاجتياح الصهيوني لديارهم، سواء في القرى الفلسطينية، أو المدنة اللبنانية.
الرواية بحق ممتعة، دسمة، زاخرة بالكثير من الأحداث الشيقة، التي تم نقلها كاملة بما فيها من مشاعر وأحاسيس، فتشعر وكأنك بداخل تلك الأحداث، وجزءًا أصيلاً فيها.

رأيي الشخصي في رواية الطنطورية للكاتبة رضوى عاشور

كما هي العادة مع الأعلام المميزين في عالم الرواية العربية، يشعر المرء بالحرج في إبداء رأيه الشخصي في عمل بهذا الثقل. رضوى عاشور روائية قوية للغاية، متمكنة من أدواتها الأدبية، يمكنها صياغة وربط الأحداث بالمكان بالمشاعر والأحاسيس، فتشعر وكأنك جزء من الرواية، حتى أنك بعد أن تنتهي من الرواية، تظل مرتبطًا بها بشكل أو بآخر.
لذلك، لن أقول أن هذا (رأي)، ولكنه مجرد ملاحظات شخصية، يمكن أخذها في الاعتبار، أو ملاحظتها أثناء قراءة الرواية.
  1. الحالة الدينية لشخصيات الرواية:
ما أعرفه عن المجتمع الفلسطيني، هو التدين الشديد مثله مثل آبائنا وأجدادنا الذين نشأوا على تربية دينية فطرية في القرى الريفية. حتى أن أبطال الرواية يتحدثون عن الشيخ أمين بصفته قائد المجاهدين، ويتحدثون عن الجهاد بصيغته – الجهاد – وليس بصيغة المقاومة الوطنية.
وعلى الرغم من هذا ترى في شخصيات الرواية تدينًا ضعيفًا، لا يرقى إلى تدين الآباء. فتجد صادق – ابن أمين ورقية – يقدم الخمر (الويسكي) في منزله بشكل عادي، ويحتسيه مع أخيه، والأم رقية جالسة، وتتعامل مع الأمر بشكل عادي، وكأنهم كانوا يشربون الخمر في ديار أبو الصادق وأبو الأمين بشكل عادي! هذا لا يستقيم أبدًا مع شخصيات الرواية، وطبيعة المجتمع الفلسطيني المعروف بتدينه، وبنزعته الدينية في كل شيء، واحتفاظه بهذه العادات حتى لو تغرَّب في ديار غير دياره.
كذا بدا الأمر مع رقية، التي خفت حديثها كثيرًا عن التعلق بالله، أو التضرع له، أو اللجوء إليه. فتصدق في نقل المشاعر والأحاسيس، ولكن يبدو المشهد فاترًا دينيًا مقارنة بحال أبويها.
  1. الاعتراض على القضاء والقدر:
كما نوّهت بأعلى، ليست هذه هي الرواية الأولى لي مع رضوى عاشور، ولكن الثانية بعد ثلاثية غرناطة. أبطال روايات رضوى عاشور دائمًا يحدث لهم هزّة  إيمانية. دائمًا يتساءلون أسئلة متعلقة بالقضاء والقدر في شكل اعتراضي، وكأنهم لا يرضون بأن يحدث لهم هذا. الأمر مفهوم حينما يتعرض الإنسان لمثل هذه الأحداث، وليس من اللائق التنظير على مُبْتَلَى بالتهجير والتشريد واللجوء، بينما نجلس نحن آمنين في ديارنا.


بعد الشطحات النفسية لشخصية رقية في رواية الطنطورية - قرأت لك
بعد الشطحات النفسية لشخصية رقية في رواية الطنطورية – قرأت لك

نعم .. ربما أرادت الكاتبة إضافة المزيد من الآلام النفسية الواقعية التي يتعرض لها كل من يواجه مثل تلك المذابح، ويتعرض للتشريد وهجر وطنه، وما قد يتعرض له من وهن في نفسيته وفهمه لسنن الله في الكون.
  1. القفزات الروائية:
الأمر بدا شديد الواقعية في السرد، وكأن رقية تجلس معك تحكي التفاصيل، وليس رواية كما اعتدنا. فرقية تروي الأحداث بدون نظام، فتأخذ مشهد من البدايات، ومشهد آخر من النهايات، وتخلط فيما بينهما حتى تصل إلى لحظة التنوير. الأمر في مجملة شديد الواقعية لو كانت الرواية مسموعة. ربما أرادت الكاتبة إضفاء المزيد من الواقعية على الرواية، فقامت بسردها بهذه الطريقة.
ولكن الأصل في الرواية، الانتظام في سرد الأحداث حتى تصل إلى لحظة التنوير بشكل طبيعي، مع القليل من الـ Flash Backward والـ Flash Forward لضبط جرعة الإثارة فحسب.
شراء رواية الطنطورية للكاتبة رضوى عاشور
الآن يمكنك طلب رواية الطنطورية مباشرة من موقع قرأت لك، لتصلك حتى باب منزلك. الشحن مجاني.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة