"كان المفروض أن لا تكون هذه القضايا ساخنة .. وهي لم تكن ساخنة في يوم من الأيام قبل هذا العصر".. بهذه الكلمات بدأ العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، رحمه الله، كتابه " قاضيا ساخنة"، ليضيف موضحا :" إن الحرب المعلنة من أمريكا وحلفائها على الإسلام شدّت الحقائق لتتحول إلى أوهام، والأوهام لتتحول إلى حقائق، وقلب الرعونات إلى قيم، والقيم إلى رعونات.. وعملت هذه الحرب ما بوسعها على أن تجعل من العدل جريمة، وأن تعلو بالجريمة لتصبح هي العدل".
وفي محاولة منه للوقوف في وجه هذه الحرب يثير البوطي، في كتابه هذا، عددا من القضايا المهمة التي تجلت في المرحلة المتأخرة من حياته، وعاشها فكرا وعلما.. ويقدم رؤيته حولها، فيتحدث عن الإرهاب بين صنّاعه وسماسرته، كما يتحدث بإسهاب عن العولمة الإنسانية .. والعولمة الاستعمارية. ويعود ليقدم وجهة نظره في التصوف ..بعد أن يتطرق مجددا إلى مصادر التشريع وأصوله ومذاهبه.
هذه القضايا كانت تؤرق مؤلف هذا الكتاب، وقد أزعجه أنّ هذه القضايا لم تكن كذلك؛ كانت قضايا كغيرها من القضايا، فحوّلتها الحرب الحالية على الإسلام والمسلمين إلى موضوعات شائكة؛ فهي لم يكن لها أن تكون ساخنة؛ لولا سماسرة تلك الحرب، المنتشرون في العالم الإسلامي لتنفيذ مآرب العدو، والمؤلف بعدئذ يعالج هذه القضايا من منطلق علمي، مدعم بالحجج والبراهين، ليجلي الحقائق ويدفع الزيغ.
افتتح المؤلف كتابه بالحديث عن التشريع ومصادره وأصوله ومناهجه، ثم انتقل إلى موضوع دور علم أصول الفقه منهجاً في بناء التشريع الإسلامي. ثم عالج موضوع أهمية المذاهب الفقهية في رعاية الوحدة الإسلامية. وذيّله بالحديث عن الآفات التي لحقت بتلك المذاهب، ليقف عند النقاط الأربع في تشكيل نسيج الأمة الإسلامية الواحدة.
وفي موضوع الإرهاب؛ أشار إلى صناعته وسماسرته وقدّم له بسؤال: متى يكون الجهاد عنفاً؟ وبيّن كيف يصنع الإرهاب ويُصدَّر. وبحث في موضوع صدام الحضارات، وذكر رأيه فيه. تناول بعد ذلك ما يتعلق بالتحالف الصهيوني الصليبي، مع اقتراح للمواجهة.
وقدّم بعد ذلك صورة لما كان عليه المسلمون، ولما يفعله غيرهم.
وفي موضوع العولمة فرّق بين نوعين منها؛ العولمة الإنسانية والعولمة الاستعمارية؛ ليشير إلى دور الجامعات الإسلامية في تحقيق الثانية منها. ثم بحث المؤلف في عدد من الموضوعات المهمة بعدها، منها العلم الذي قدّسه القرآن ومدى الحرية في ممارسته، ورأى أن الباطل لا يقضي عليه الخنق وإنما الحوار، ودعا إلى حـــــــــرية الفكر لا حرية السباق إلى الحكم.
وذيّل البوطي رحمه الله تلك القضايا الساخنة بقضيتين ما تزالان تتجددان على صعيد البحث والنقاش والأخذ والرد؛ وهما المرأة التي ما زالت أداة للتعكير فالاصطياد، وأخيراً التصوف بين عشاقه وأعدائه.
/////قبسات من أنوار الكتاب/////
وسنقف في هذا العرض الموجز لفحوى الكتاب القيم على بعض آراء الرجل في أهم المسائل التي طرحها، وفي مقدمتها التصوف الذي إعتبر غيابه هو المسؤول عن جُلَّ مشكلاتنا اليوم، حيث يقؤكد البوطي لو أن النفوس زكيت وتطهرت من أهوائها ورعوناتها وعصبيتها ـــ وهذا لُبّ التصوف ومعناه ــــ لما تحول التصوف عند أرباب هذه النفوس إلى مطية لشهرة ، أو حرفةٍ لمال ، أو إطاراً لأُبَّهةٍ ، أو خندق لمحاربة العلم والانضباط بقيوده وأحكامه
ويضيف "لو زكيَت النفوس ، كما أمر الله في محكم تبيانه ، لما فرّقَ المسلمون أنفسهم فئات وجماعات ، ثم انهالت كل جماعةٍ على الأخرى توسِعُها انتقاصاً وشتماً ، بل وتكفيراً في كثير من الأحيان" .
ويتابع المؤلف " لو زكيت النفوس لما انتشرت آفة حُب الرياسة ، مُقنَّعة بأقنعة شتى ، بين كل الفئات والجماعات المسلمة ، فتقارعت الرؤوس وتشاحنت النفوس ، ووقع الإسلام الضحية الأولى لذلك ، في ما بينهم . ولو زكيت النفوس هذه التزكية التي لا يدور إلا على محورها التصوف الحقيقي ، لما كان نصيب الإسلام من جهودنا وقفاً عند حدود الدعاوي والأقوال ، ولما نسينا تحرّقنا وآلامنا على الإسلام ، عند ظهور بارقة من بوارق الشهرة أو الرئاسة أو المال . ولو زكيت النفوس لفاضت القلوب حُباً لله عز وجل ، وخوفاً ومهابةً منه ؛ ولأثمر هذا الحب حُباً لعباد الله وشفقةً عليهم . ، ولشاع فيما بينهم الإيثار بدلاً من الأثرة ، وبدلاً من التناكر والتدابر ولجاءت نصائح بعضهم لبعض نورانيّة مؤثرة تستقر في أعماق القلوب وتفعل فعلها الهادي في طوايا النفوس" .
وخلص البوطي إلى القول إن جُلَّ مشكلات مجتمعاتنا الإسلامية اليوم إنما يكمن في غياب هذه التربية الوجدانية التي هي العمود الفقري في جوهر الإسلام . وأن سائر مشكلاتنا النفسية والاجتماعية التي ترزح وتئن مجتمعاتنا الإسلامية تحت وطأتها ، إنما هي وليدة إعراضنا عن تربية النفس وإصلاح القلب بوسائلها المشروعة والمعروفة التي طالما نبّه إليها الربانيون من علماء هذه الأمة خلال القرون والأجيال .
وفي مسألة الإرهاب، يقول البوطي إن العنف الذي نراه اليوم مهتاجاً في حركة دائرية عائدة على الذات، داخل مجتمعاتنا العربية والإسلامية، من تألب بعض الإسلاميين على حكامهم ومن ثم تألب حكامهم عليهم، وتألب الإسلاميين بعضهم على بعض، إنما هو في حقيقته واحدة من عمليات التنفيس لمقاومة كانت متوجهة في أصلها إلى سياسة الإرهاب العالمي الذي تقوده أمريكا والصهيونية العالمية في سبيل مصالحهما.. إلا أن الذي يجري الآن هو إخماده عن طريق ما يتم من دفعها إلى التآكل الذاتي.
ويتابع " أجل.. فإن هذا الذي يسمى اليوم بالتطرف الإسلامي، والذي يبعث رجاله على اتخاذ الإرهاب الأداة الأولى لنشر الإسلام وتحضير فاعليته، إنما هو من صنع السياسة الأمريكية ذاتها. وهو الجزء المتمم والضامن لنجاح سياسة فرض الأمر الواقع التي تحاول أن تقود من خلاله العالم. وليست التصريحات التي يدلي بها زعماء هذه السياسة، والتي يعبرون من خلالها عن تبرمهم بهذا التطرف وتخوفهم منه، إلا غطاء للخطط الخفية التي يجب أن لا تنشط إلا تحت عناوين مناقضة لها".
ويعتبر البوطي أنّ التناقضات التي تقدح زناد البغضاء والكيد والعنف داخل المجتمعات العربية والإسلامية، من صنع الخطط الأمريكية، وليست صيحات الحذر منها والاستنكار لها، إلا من قبيل التغطية والإيهام.
ليخلص إلى أن مصيبة الأمتين العربية والإسلامية لا تكمن في الإرهاب المقنع الذي تغزو به أمريكا هذه الأمة حماية لمصالحها المزروعة في كل مكان من العالم، وإنما تتمثل في أمرين متمازجين، هما ضمور الوعي السياسي، والتفكك الأخلاقي اللذان يمسك الغرب الأمريكي منهما بأغلى ورقتين يلعب بهما.
وفي موضوع الجهاد، يسجل البوطي أنّ في الإسلاميين اليوم من تعوهم الرؤية السياسية الثاقبة، على الرغم من أنهم يأبون إلا أن يخوضوا غمار العمل السياسي.. ويعزهم الإخلاص لوجه الله عز وجل، على الرغم من أنهم باسم الإسلام يتحركون وفي سبيله يعملون.. ومن هنا يُستَدرجون إلى التطرف والعنف في التعامل مع أبناء دينهم وجلدتهم، باسم الجهاد الإسلامي المقدس، بدلاً من أن يتوجهوا بجهادهم المقدس إلى ذاك الذي يمعن في اغتصاب حقوقهم واستلاب ثرواتهم.
أما عن كفاح القادة ونضالهم أو جهاد المتطاولين، فيحسب البوطي أنه لم يعد خفياً على ذي بصيرة أن وحدة الأمة هي الأساس الذي لابد منه، لكل كفاح وهو الشرط الذي لابد أن تضيع سائر الجهود من دونه سدى، معتبرا
أن النضال أو الجهاد الذي تمارسه دول أو فئات متدابرة أو متناثرة، لن يكون مآله - مهما كان مشروعاً - إلا إلى اضطراب وخسران، ولن يكتسب في تيار الإعلام الغربي المهيمن إلا اسم التطرف والإرهاب، على حين يظل الإرهاب الغربي الذي يلاحق ويظلم، مقنعاً باسم حماية الأمن والنظام العالميين.
ولكن الجهاد المشروع ذاته، عندما تنهض به أمة ذات قيادة واحدة حقيقية، وتضامن استراتيجي راسخ، لن يكون مآله، بحسب البوطي، إلا الفوز والنصر. ولن يتماسك عليه إلا اسم الكفاح أو الجهاد، ولن يلتصق به إلا وصف الدفاع على الحق، مهما حاول الآخرون أن يصبغوه بسمات ونعوت أخرى، وعلى حين يعرى الموقف الغربي عندئذ، ويتجلى لكل ذي بصيرة أنه هو الذي يمعن في صنع الإرهاب وتصديره.
ونشير إلى أن هذا الكتاب القيّم الصادر عن دار الفكر السورية، متوفر حصريا بالجزائر لدى دار الوعي، باعتبارها وكيلها التجاري، فلكل من يرغب في الاستفادة منه، يمكنه التواصل معها عبر موقعها الإلكتروني أو على حسابها الرسمي عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو من خلال وكلائها الموزعين المعتمدين.
إرسال تعليق