رجل شريفٌ.. وزمن داعِرٌ ...
هذا ما انْتَهيْتُ إليه وأنا أقرأ سيرَةَ رجلٍ قَوِيٍّ، عاش في عَصْرٍ ضعيفٍ !!
ورأيتُ أنَّ زمننا يُشْبِهُ زَمنَه في نَواحٍ عديدةٍ، وأَنَّ حُكَّامَنا يُشْبِهونَ حُكَّامَهُ، وأَنَّ الناسَ لم يتغيروا على الرَغْمِ من تَداوُلِ الأيام وتعاقُبِ الأجْيالِ، وأنَّ كثيراً من رِجالَنا العلماء، والفقهاء، لا يشبهونه في شيء .
وأن التاريخ يُعيدُ نفسه، ويُكَرِّرُ حوادثه، بنفس الصورة والمصير، عند العرب .
طغيانٌ، وفسادٌ، ومظالمٌ، وفِتَنٌ.. ثم ضُعْفٌ وانْهِيارٌ .
الرجل هو ابن حزم الأندلسي (384ه/456ه)، والزمن زمن ملوك الطوائف في الأندلس .
فقد شاءت الأقْدارُ أن يعيش ابن حزم في عَهْدٍ نَكَبَتْ فيه الخلافة الإسلامية في الأندلس، وأن يَشْهدَ غُروبَ شَمْسِها مع لَوْنٍ واحدٍ من السَّوادِ الشَّديدِ، يَصْبَغُ الحياة السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية، للحُكَّامِ والمَحْكومينَ جميعاً .
فقد رأى بَلَدَهُ ـ الأندلسَ ـ يَنْفَلِتُ من عصْرِه الذَّهبِيِّ، ويَتخبَّطُ في دَياجيرِ الفوضى، والاضطراب، والتَّفَكُّكِ، والصراع السياسي، والقلق الفكري، والفساد الاجتماعي ...
ورَأى هجماتِ أعداء الإسلام تتزايد، بينما وُلاةَ الأَمْر يَبْنون القصور، ويثقلون على الرعايا بالضرائب. وبَدلَ أن يَصُدُّوا الهجمات، ويَحْموا المدُنَ والحُصونَ، ويَرْأفوا بالشعب، فإنهم يحاربون الله ورسوله، ويَسْعونَ في الأرض بالفساد، ويُسَلِّطون جُنودَهم على الأهالي، ويُمَكِّنون لليهودِ رِقابَ المسلمين وأمْوالَهم، كي يحافظوا على مقامهم، ويَسْتَديموا نفوذهم. «وَلَوْ علموا أَنَّ في عبادة الصُّلْبانِ تَمْشِيَّةً لأُمورِهم لَبادَروا إليها، فنحن نراهم يَسْتَمِدُّونَ النَّصارَى، فَيُمَكِّنونَهم مِنْ حَرَُمِ المسلمين وأبنائهم ورجالهم، يَحْمِلونَهم أَسْرَى إلى بلادهم، وربما يَحْمونَهم عن حَريمِ الأرض وحَشْرِهم معهم آمنين. وربما أعطوهم المُدُنَ والقِلاعَ طَوْعاً، فأَخْلَوْها من الإسلام وعَمَّروها بالنواقيس" !!
ورأى الناسَ لم يَعودوا يُفَرِّقون بين الحلال وبين الحرام، في مَعاشِهم ومَكاسِبهم، وأن الأمور اختلطت بعضها ببعض، وأن رجال الدين أنفسهم قد أصبحوا عَوْناً للشيطان، يحللون الحرام، ويتهاونون في الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ويُبيحون الفِسْقَ والفُجور أحْياناً، و«.. بُرْهان ذلك أني لا أَعْلَمُ، لا أنا ولا غيري بالأندلس، دِرْهَماً حلالاً ولا ديناراً طَيِّباً يُقْطَعُ على أنه حلالٌ» كما قال .
ورأى أَنَّ الدولة الواحدة انقسمت إلى دويلاتٍ، وكل دويلة لها خليفة يحمل لقباً يوحي بصفة خارقة لا يتمتع بها أصلاً، مثل: (وَلِيِّ الدولة، وركن الدولة، وغيث الأمة، وسيف المِلَّةِ...)، يستعين بالعدو على الآخر، ودخلوا جميعاً في صراعٍ مع بعضهم بعض، هذا يحارب ذلك، ويسعى إلى قتله إذا وجد إليه سبيلاً؛ وقد.. «اجتمع عندنا بالأندلس، في صقيع واحدٍ: خلفاء أربعة. كل واحدٍ منهم يُخْطَبُ له بالخلافة بموضعه. وتلك فضيحة لم يُرَ مثلُها: أربعة رجالٍ في مسافة ثلاثة أيام.. كلهم يتسمى بالخلافة وإمارة المؤمنين" ..!!
ورأى الفساد الأخلاقي، وعند الطبقات الثرية خاصة، فَمِمَّا يَحْكيه في كتابه {طوق الحمامة} أن امرأة ثرية، علية المنصب، غليظة الحجاب، أعجبها فتى يمرُّ من الطريق أمام قصرها.. فتعلقت به، وتعلق بها، وبدأت المراسلات الغرامية بينهما. وهذا السلوك كان ظاهرة اجتماعية متفشية في المجتمع الأندلسي، وكان البحث عن اللذة والمغامرات العاطفية شُغْلَ كثيرٍ من الأفراد. كما جَهَرَ السفهاءُ بالمعاصي، وشربوا الخمور علنيةً، وأتوا كثيراً من الموبقات، وكَلَفوا بالغناء والطرب أشدَّ كَلَفٍ، فكان له علاقةٌ عظيمةٌ بهلاكهم، وقد تألَّم ابنُ حزم من انتشار هذه الأمور، وما أدت إليه من فسادِ وانحلالٍ .
والعجب ـ كما يقول صاحب كتاب {البيان المغرب} أن يتمادوا في المجاهرة بالمعاصي مع ما حلَّ بهم من البلاء عند محاصرة البربر قرطبة، إذْ غلتِ الأسعارُ، وفُقِدَ الغذاءُ، حتى أكلَ الناس الدَّمَ من مذابح البقر والغنم، وأكلوا المَيْتَةَ... ومع هذا المُحَقِ: فشُرْبُ الخمر ظاهرٌ، والزِّنا مُباحٌ، واللِّواطُ غير مستورٍ، ولا ترى إلا مُجاهِراً بِمَعْصِيةٍ. فتحقق فيهم شيء من تأويل النبي، صلى الله عليه وسلم،: «في هذه الأمة خَسْفٌ، ومَسْخٌ، وقَذْفٌ، فقال رجل من المسلمين: يا رسول الله ! ومتى ذاك؟ قال: إذا ظهرت القَيْناتُ، والمَعازِفُ، وشُرِبَتِ الخُمورُ".
ورأى الفقهاء يَسْكُتونَ عن الفساد، أو يشاركون فيه؛ فقد حدث أن مات المُسْتنْصِرُ، فخرجوا يُبايِعون بَعْدَهُ غُلاماً لم يبلغ الثانية عشرة من عمره، لِيَصيرَ خَليفةً وإِماماً !!
ورأى اليهود يتسللون إلى أكبر مناصب الدولة، بعد أن قَرَّبهم الأمراءُ إليهم، وجعلوهم بِطانَةً وخاصَّةَ، بل كان منهم وزيرٌ لدى أميرِ غرناطة باديس بن حبوس، أَلَّفَ رسالةً في الإسلام، طعن فيها في بعض آيات القرآن، وأَقْسَمَ أَنَّهُ سينظم جميع القرآن في أشعارٍ ومُوَشَّحاتٍ يُغَنَّى بها !!
وهذا الوزير اسمه ابن النغريلة، وقد تَصَدَّى له ابن حزم ورَدَّ عليه، قائلا: «اللهم، إنا نشكو إليك تشاغل أهل الممالك من أهل مِلَّتِنا بدنياهم عن إقامة دينهم. وبِعَمارَةِ قُصورٍ يترُكونها عمَّا قريبٍ عن عمارة شريعتهم اللازمة في معادهم ودار قرارهم، وبِجَمْعِ أَمْوالٍ ربما كانت سبباً إلى انقراض أعمارهم، وعَوْناً لأعدائهم عليهم، عن حيطَةِ مِلَّتِهم التي بها عَزُّوا في عاجلتهم، وبها يَرْجونَ الفَوْزَ في آجِلَتِهم .
ورأى كثيراً من الأوضاع السيئة، كانت فِتناً شديدةً، وكانت سبباً مباشراً في انهيار الخلافة الإسلامية في الأندلس؛ لذا فقد عَمِلَ جُهْدَه لِمُحاربتها، وتَجَرَّدَ بعِلْمِه الغزير، لِنُصْرَةِ الحَقِّ، ونُصْحِ الأُمَّةِ، وعَبَّرَ عن اسْتيائه بكلماتٍ صادقةٍ، وأَحْكام قَوِيَّةٍ، في كثيرٍ من العنف والقسوة، وسَلاطَةِ اللسان أحياناً، حتى قيلَ عنه: «سَيْفُ الحَجَّاجِ ولِسانُ ابْنِ حَزْمٍ شَقيقان»، فَعَرَفَ أصْنافاً من المِحَنِ والبَلاءِ، من سِجْنٍ، ونَفْيٍ، وسُخْطٍ من قِبَلِ السلاطين والولاة، واتِّهامٍ من طرف فقهاء الدنيا، وحَرْقٍ لرسائله ومُصَنَّفاتِه.
ألسنا نحن أيضاً نرى في زماننا عَيْنَ ما رأى ابنُ حَزْمٍ في زمانه ؟!
بلى هو عَيْنُهُ، ولكن في غياب عَيْنَيْ واحدٍ مثل ابن حزمٍ ...!!
إرسال تعليق