تَعتبِر البكتيريا أمعاءَ الثدييات مخبأً مثاليًّا؛ فهي دافئة طوال الوقت، ومحمية من البيئة، ويتدفَّق فيها سائلٌ مغذٍّ بصفة منتظمة، لكن ماذا يحدث عندما يتوقَّف هذا الإمدادُ المستمر من الطعام؟ ماذا يحدث للميكروبات إذا توقَّفَ عائِلُها عن تناوُل الطعام؟
عندما تمرض الحيوانات من الفئران وحتى الذباب، فعادةً ما تفقد شهيتها وتمتنع مؤقَّتًا عن تناوُل الطعام، وهذا أمر منطقي؛ فالبحث عن الطعام أو صيده يتطلَّبان الكثيرَ من الطاقة، وفي هذا الوقت يكون من الأفضل توجيهُ هذه الطاقة إلى محارَبةِ المرض، إلا أنَّ هذا الصيام القصير الأمد عن الطعام يضرُّ الميكروبات المفيدة التي تعيش داخل أمعائنا؛ فعندما نُحرَم من الطعام تُحرَم منه هي أيضًا، وإنَّ غياب هذه الميكروبات يؤدِّي إلى تقليل كفاءتنا في هضم الطعام، ويُنشِئ مساحاتٍ خاليةً يمكن لمزيدٍ من الميكروبات الضارة استغلالها.
وقد اكتشَفَ فريق من العلماء مؤخَّرًا — بقيادة ألكسندر شيرفونسكي من جامعة شيكاجو — أن الفئران تحلُّ هذه المشكلة عن طريق تصنيع جزيئات تُغذِّي ميكروباتها المَعويَّة أثناء نوبات العدوى.
تربط خلايا أمعاء هذه الحيوانات نوعًا من السكر — يُسمَّى فوكوز — بالدهون والبروتينات؛ بحيث تستطيع البكتيريا أن تستخلِصَه منها وتتغذَّى عليه. يمثِّل هذا النوعُ من السكر العملةَ المستخدَمة في حالات الطوارئ؛ فيُستخدَم لدفع أجور الميكروبات عندما تكون الخزانةُ المعتادة فارغةً، من أجل منعهم من تَرْك الشركة.
اكتشف جوزيف بيكارد وغيره من أعضاء الفريق هذه المدفوعاتِ الاحتياطيةَ من خلال حَقْن الفئران بجزيئات مثل عديد السكاريد الشحمي، الموجود على الغطاء الخارجي للبكتيريا؛ فعند ابتلاع مثل هذه الجزيئات لا تُسبِّب مشكلةً كبيرةً، لكنها إذا سبَحَتْ في مجرى الدم، فيمكن أن تستثيرَ استجابةً مناعيةً قوية، وكان ما شاهَدَه الفريق هو التالي: كانت الجزيئات المحقونة كافيةً لإصابة الفئران بالمرض، ففقدَتِ الفئرانُ شهيتَها وأصبحت خاملةً، وأُصِيبت بالإسهال وفقدت بعضَ وزنِها.
استجابَتْ خلايا أمعائها بالبدء في إضافة سكر الفوكوز إلى البروتينات وغيرها من الجزيئات باستخدام جين يُسمَّى Fut2، بعد هذا أطلقَتْ هذه الموادَّ المعدَّلة في أمعائها؛ ونتيجةً لذلك تعافَتِ الفئرانُ بسرعة أكبر واستعادت ما فقدته من وزن. وعندما أجرى الفريقُ التجاربَ نفسها على فئرانٍ تفتقر إلى جين Fut2، استغرقت هذه الحيوانات يومًا إضافيًّا في استعادة وزنٍ يُضاهِي الوزنَ الذي استعادَتْه أقرانُها الطبيعية.
اكتشف الفريق أن سكر الفوكوز يحثُّ على تسريع عملية الشفاء، فقط إذا كانَتِ الفئرانُ تتمتَّع بمجتمع طبيعي من الميكروبات المعوية. شكَّ الفريق في أن الميكروبات كانت تأكل السكرَ مباشَرةً، وتوصَّلوا إلى طريقة لمراقبة عملية الأكل المحمومة هذه؛ فقد حقنوا الفئرانَ بنوع من البكتيريا يُصدِر وهجًا أخضر اللون عندما تستخدم الفئران جيناتٍ هاضمةً لسكر الفوكوز، وعندما حُقِنت الفئران بجزيئاتِ عديد السكاريد الشحمي وبدأت في إفراز سكر الفوكوز؛ بدأت هذه الميكروبات الكاشفة تتوهَّج.
من ثَمَّ يبدو أنه إذا توقَّفَ العائلُ المريض عن استقبال الطعام من الخارج، فإنه يفرزه من الداخل من أجل البكتيريا المقيمة داخله. بالطبع ربما تتمكَّنُ الميكروبات المسبِّبة للمرض من التغذِّي على هذه الأنواع من السكريات، لكن الفريق اكتشَفَ أيضًا أن سكر الفوكوز يُوقِف عملَ جينات الضَّراوة لدى الميكروبات المعوية، بحيث يُضعِف قدرتها على التسبُّب في المرض؛ فهو لا يغذِّي البكتيريا المفيدة فقط، وإنما يُضعِف البكتيريا الضارَّة أيضًا.
مع أن هذه التجارب قد أُجرِيت على الفئران؛ فإن شيرفونسكي يعتقد أن أمرًا مماثلًا يحدث لدى البشر أو لدى معظمهم — على الأقل — فنحو خُمس الناس يفتقرون إلى جين Fut2، ويزيد احتمالُ إصابتهم باضطراب معوي التهابي يُطلَق عليه مرض كرون؛ ربما يرجع هذا إلى عدم قدرتهم على الاحتفاظ بعلاقة طيبة مع بكتيريا أمعائهم في الشدائد.
إرسال تعليق