محمد كامل
.................................................................................................................................................................
كان حدث إعادة توحيد ألمانيا الذي تم في الثالث من أكتوبر من العام 1990، وتحطيم جدار برلين في التاسع من نوفمبر من العام 1989م محطات تاريخية مهمة في العصر الحديث وفي القرن العشرين، ذلك أنه لم يكن أحدا ليتصور بأن يتم هذا الاتحاد بين ألمانيا الشرقية وجارتها الغربية ولا حتى في أحلام البعض فكيف على أرض الواقع نظرا للاختلافات الكبيرة بين الألمانيتين.
لمحة تاريخية:
لقد بدأت ألمانيا الحرب العالمية الثانية وجرّت العالم إليها، وفي النهاية تعرضت للهزيمة والدمار الكبير فقتل في هذه الحرب تسعة ملايين ألماني، من بينهم أكثر من ثلاثة ملايين مدني. كما تعرضت المدن الألمانية لقصف كبير من طرف الحلفاء، وتم تشريد اثنا عشر مليون شخص وأصبحت ألمانيا في حالة انهيار تام بعد هذه الحرب المدمرة.
لقد أدّى هذا الانقسام في العالم وحالة الدمار التي أصابت ألمانيا إلى وقوعها تحت سيطرة معسكري القوة في ذلك الوقت فكانت قد قسمت إلى أربع مناطق بالاضافة الي تقسيم برلين العاصمة الى أربع مناطق هي الأخرى.
في العام 1947م تم تقسيم غرب ألمانيا إلى ثلاثة أقسام بين فرنسا وبريطانيا وأمريكا، والقسم الشرقي انضم إلى معسكر الشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي، وعند استمرار الحرب الباردة بين هذين المعسكرين توحد القسم الغربي من ألمانيا في العام 1949م لتتكون الجمهورية الألمانية الفدرالية والتي احتوت على غرب برلين، وبقي القسم الشرقي من ألمانيا على حاله مكونا جمهورية ألمانيا الديمقراطية ضاما إليه شرق برلين.
بدأ النزاع يظهر بين الألمانيتين في أحقية كل منهما في تاريخ ألمانيا الموحدة قبل العام 1945م، وبدأ حث الخطى السياسي والاقتصادي والتجاذب في هذا الأمر لتثبت كل واحدة منهما هذه الأحقية، إلى أن غيّرت ألمانيا الشرقية وجهة نظرها واعتبرت أن ألمانيا الموحدة لم يعد لها وجود وأنه يوجد الآن دولتين مختلفتين.
لقد اتخذت ألمانيا الغربية مدينة بون عاصمة لها وانفتحت على العالم الغربي ونظامه الاقتصادي والسياسي، فكان هناك حرية في رأس المال اعتمادا على الرأسمالية، والحرية السياسية في ظل وجود تعددية حزبية.
أما في ألمانيا الشرقية فقد كانت الأمور مركزية في يد الدولة وبالتالي تحت سيطرة حزب الوحدة الاشتراكي الألماني وهو الحزب الحاكم الاشتراكي المدعوم من السوفييت والذي ظل حتى العام 1989م يحكم البلاد.
جدار برلين ومشكلة الهجرة:
ومع ازدياد القيود في العمل، وزيادة نسبة البطالة في ألمانيا الشرقية اضطر عدد كبير من سكانها الى الهجرة الى الجارة الغربية والتي كانت تسجل نسب عالية من النمو وفرص التشغيل، فهاجر العديد من الشباب وصغار السن من ذوي التعليم الجيد والذي يقدر عددهم حوالي 3 ملايين مما سبب مشكلة لأصحاب القرار في ألمانيا الشرقية، فحاولت الدولة منع مواطنيها من الهجرة ومنع السكان من المغادرة بتحصين الحدود الغربية للبلاد ومراقبة الحدود لمنع المهاجرين مما أدى في بعض الأحيان إلى قتل المئات من الأشخاص من قبل حرس الحدود، إلا أن وقوع برلين في منتصف الدولتين فكان يصعب على أفراد الأمن وحرس الحدود مراقبة المدينة، فكان قرار ألمانيا الشرقية ببناء جدار برلين في العام 1961 والذي قسّم المدينة بشكل تام ونهائي بل وقسّم العالم إلى قسمين رئيسيين كبيرين.
لقد أصبح هذا الجدار، والحدود الغربية لألمانيا الشرقية عموما حدودا تفصل ليس فقط بين الألمانيتين، بل حدودا تفصل بين المعسكر الشرقي والغربي من العالم، بين حلف وارسو وحلف الناتو، أي بين قطبين مختلفين سياسيا وثقافيا واقتصاديا. لقد بلغ طول هذا الجدار الخرساني المسلح 106 كيلومتر متضمنا 300 مركزًا للمراقبة ومزود بالأسلاك الشائكة.
كان سكان ألمانيا الشرقية يتطلعون لحياة سياسية أكثر مرونة وإلى نمو اقتصادي يضاهي النمو الذي يرونه في جارتهم الغربية، بالإضافة إلى زيادة استيائهم من سلطوية النظام الحاكم، والتقييد على الإعلام المحلي، ومحاولة محاصرة الإعلام الخارجي والتضييق عليه حتى وصل الأمر إلى منع بث قنوات الجارة الغربية في المقاهي والأماكن العامة والسماح بذلك في البيوت فقط كإجراء لمنع بث رواية الجارة الغربية عن البلاد.
وقد تصاعدت احتجاجات السكان في ألمانيا الشرقية رويدا رويدا ونمت حركات معارِضة لنظام الحكم تعلن صراحة عن مطالبها الإصلاحية وأن الوحدة مع الجارة الغربية أصبحت أمرا ملحا وضروريا، فقامت بتنظيم المظاهرات بهذا الخصوص والتي كانت ذروتها في 9 نوفمبر من العام 1989م بعد تراجع النظام الحاكم عن استخدام القوة لتفريق المتظاهرين الذين وصلوا الى الجدار، مستغلين بذلك تصريح “غونتر شابوفسكي” عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الألماني الحاكم عن رفع الدولة لقيود التنقل بين الألمانيتين، فأخذ آلاف الألمان من كلا الجارتين (الشرقة والغربية) بهدم الجدار بما يتوفر معهم من وسائل حتى اعتبر ذلك اليوم بداية انهيار جدار برلين ونهاية ألمانيا المقسمة وايذانا بالوحدة.
تكونت حكومة جديدة في ألمانيا الشرقية مكونة من حزب “الاتحاد من أجل ألمانيا” الذي رفع شعار الوحدة الشاملة بين الألمانيتين، وشرعت الحكومة في التفاوض مع حكومة ألمانيا الغربية بشأن هذه الوحدة، فبدأت بتوقيع اتفاقيات الوحدة في النظام الاقتصادي والضمان الاجتماعي واعتبار النظام الاقتصادي لألمانيا الغربية هو النظام الرسمي لكلا الألمانيتين، واعتبار دستور ألمانيا الغربية دستورا نافذا في ألمانيا الشرقية أيضا وذلك بعد تصويت البرلمان الشرقي على هذا الأمر واعتبار العمل بهذه الاصلاحات في الثالث من أكتوبر للعام 1990م والذي اعتبر تاريخ الإعلان الرسمي عن ألمانيا الموحدة.
بعد هذا التاريخ اجتمع البرلمان الموحد في مبنى البوندستاغ وضم 663 نائبا من برلمان المانيا الغربية والشرقية.
أهم العوامل التي ساعدت على توحيد ألمانيا:
- الحركات الإصلاحية التي ظهرت في ألمانيا الشرقية والتي تطالب بضرورة الوحدة مع الجارة الغربية.
- رغبة الشعب في كلا الجارتين الى إنجاز هذه الوحدة. هذا الأمر الذي كان يتمثل بتواصل الأفراد بين الجارتين، والزحف الكبير الذي حصل في 9 نوفمبر من العام 1989م لهدم جدار برلين.
- التقارب الحقيقي الذي اتبعته ألمانيا الغربية مع جارتها الشرقية والمحاولات المتكررة للمفاوضات مع الاتحاد السوفيتي لضم الجزء الشرقي من ألمانيا إلى ألمانيا الاتحادية.
- تقارب ألمانيا الشرقية مع الانفتاح الغربي والسوق الحرة _ ولو بشكل بطيء وبسيط _ مما جعل الأنظار تتجه نحو الوحدة مع الجارة الغربية.
- إنشاء العلاقات الاقتصادية بين الجارتين، مما أتاح لألمانيا الغربية تقديم قرضا لجارتها الشرقية بمليارات الدولارات عندما تعرضت الأخيرة لأزمة مالية شديدة.
- رغبة ألمانيا الشرقية الملحّة لإجراء إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية، إلا أن نظامها الذي لم يعد يصلح معه الإصلاح اضطر صناع القرار فيها الى فتح قنوات اتصال حقيقية مع الجارة الغربية لإتمام الوحدة.
- الإعلام الموجه من ألمانيا الغربية نحو سكان ألمانيا الشرقية لسببين رئيسيين أولهما نقل ما يجري في العالم الغربي من حداثة وتطور وبالتالي تحفيز السكان لتغيير حياتهم ونظام عيشهم، والثاني لبيان تدهور أوضاع بلادهم (ألمانيا الشرقية) وحاجتهم للتطور للحاق بركب الدول الغربية.
مواقف الدول المختلفة من توحيد ألمانيا:
- أدى انضمام الألمانيتين إلى الأمم المتحدة بموجب اتفاقية عام 1972م إلى اعتراف العالم بكلتا الدولتين، كما وتم فتح السفارات المختلفة في كلٍ منهما، وشاركت ألمانيا الشرقية بجانب الغربية في مؤتمر الأمن والتعاون في أوروبا الذي أفضى إلى الاعتراف بمبدأ احترام الحدود وحقوق الانسان. كل ذلك كان من شأنه تهيئة العالم إلى إمكانية حدوث الوحدة بين الجارتين في أي وقت.
- أدى ضعف الاتحاد السوفيتي إلى ضعف ألمانيا الشرقية، فرحبت دول الغرب بالوحدة وكذلك الاتحاد السوفيتي رغبة منه أيضا في الانفتاح على الغرب وتخفيف وطأة الحرب الباردة بين المعسكرين.
- تلاقي مصالح الدول المختلفة في توحيد ألمانيا جعلها تبارك هذه الوحدة على قاعدة انضمام ألمانيا الموحدة إلى حلف الناتو والنادي الغربي، مع إجراء إصلاحات وتنمية في الجزء الشرقي من الدولة بمساعدة الجميع.
آثار الوحدة على ألمانيا نفسها وعلى الدول المختلفة:
- جعلت الوحدة الألمانية بعض الأنظار في الدول المختلفة تتجه نحو هذه الوحدة، وعن أسبابها والأحداث التي أدت إليها، فبعض الدول رأت في هذه الوحدة تعزيزا لها بإمكانية نقل التجربة الألمانية لها من تعزيز الديمقراطية ومفاهيم العيش والسلم كما في دول القارة الأفريقية كأنغولا، ناميبيا، وجنوب أفريقيا.
- في الصين انتاب القلق القيادة الصينية آنذاك خصوصا مع بدايات انهيار الشوعية في عدد من الدول، وتقاربها مع الغرب في دول أخرى كما كان في ألمانيا الشرقية، هذا القلق كان نابعا من حذر القيادة الصينية من اضطرابات الشارع بين المطالبين بصين رأسمالية وصين اشتراكية.
- من المنطقي أن يتعثر الاقتصاد الالماني خصوصا في المدن الغربية ويبطؤ النمو الاقتصادي نتيجة هذا الاتحاد، خصوصا وأن المدن الشرقية كانت تعاني من الإهمال وتحتاج إلى الاهتمام الاقتصادي من الدولة الموحدة. وحتى الوقت الحديث تخصص الدولة ما يقرب من 100 مليار يورو للإهتمام بالجزء الشرقي من ألمانيا.
- اضطرت الحكومة الموحدة لخصخصة الصناعات الشرقية والتي كانت تعتمد بالأساس على دعم الدولة.
- انضمام ألمانيا إلى الاتحاد الأوروبي بشكل موحد أعطاها الثقة بنفسها، واستعادتها لمكانتها بين الدول خصوصا في الثِقل السياسي والاقتصادي، حيث أن الصناعات الألمانية وخاصة الثقيلة منها تتميز بمدى جودتها.
- حدث في بعض الدول العربية وخاصة عند بعض المفكرين بعض الارتدادات الفكرية خصوصا مع أولئك الذين كانوا يتبنون الافكار الاشتراكية، فكثرت في أوساطهم المراجعات الفكرية.
- بدأ العرب بعد نموذج الوحدة الألمانية بالنظر في أسباب الوحدة فرأى البعض بأن الوحدة لا تتم إلا بنبذ الاستبداد وقد وجدوا في هدم جدار برلين دلالة على أن الوحدة لا تكون الا بهدم جدر الاستبداد.
ما يمكن الاستفادة منه:
- الشعوب هي المحرك الأساسي للتغيرات الحقيقية في الدول.
- تهيئة الجو العام العالمي والاهتمام بعوامل القوة كالإعلام والاقتصاد من شأنه أن يطرح على الطاولة رؤية الطرف الأقوى وبالتالي الاندماج في منظومته.
- أكثر ما يهم في التحولات التاريخية هو الوعي، فبه يستطيع الانسان أن يعي المرحلة، وما بعدها، وأن يعي مسببات هذه التحولات.
- الاستبداد لا يمكن مواجهته الا بالأدوات الفعّالة، كزيادة وعي العامة، وقوة الإعلام والدعم المادي المناسب والذي يترجم إلى أعمال على أرض الواقع.
- أهمية النظرة الشمولية للأحداث ومدى الاستفادة من النتائج.
إرسال تعليق