U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

نــزار قبــاني (1923 – 1998) حياته :

الحجم
نــزار قبــاني
(1923 – 1998)
1- حياته :
شاعر سوري ولد في دمشق تخرج في الجامعة السورية عام 1945 م باجازة في الحقوق عمل في السلك الدبلوماسي من 1945 الى 1966 فعرف عدة دول مثل تركيا وفرنسا وانكلترا واسبانيا وبعض الدول العربية.
ترك الوظيفة حبا للأدب واتخذ من لبنان مقاما وأسس في بيروت دار نزار قباني للنشر مارس نشاطات صحفية وأدبية.
لنزار قباني شخصية أدبية محببة لدى القراء نتبينها من نتاجه الأدبي ومن سماتها رقة العاطفة وخصوبة الخيال والقدرة على تمثيل الواقع بكلمات دافئة من دواوينه قالت لي السمراء 1944 طفولة نهد 1948 أنت لي 1950 قصائد 1956 حبيبتي 1961 السم بالكلمات 1966 قصائد متوحشة 1970 وله في النقد الشعر قنديل أخضر 1956
- الى تلميذة -
قصيدة غزلية من ديوان الشاعر الرسم بالكلمات الذي حمل بعض أجواء الأندلس وقد سميت هذه المجموعة لشعرية من باب تسمية الجزء حيث تحمل إحدى القصائد عنوان "الرسم بالكلمات" وفيها يبين الشاعر أن لا خلاص لنا إلا عن طريق الشعر فيقول في آخر أبياتها:
قل لي ولو كذبا كلاما ناعمــا قد كاد يقتلني بك التمثـال
ما زلت في فن المحبة .. طفلة بيني وبينك أبحر وجبـال
لم تستطيعي بعد أن تتفهمــي أن الرجال جميعهم أطفـال
إني لأرفض ان أكون مهرجـا قزما ... على كلماته يحتال (1)
فاذا وقفت أمام حسنك صامتـا فالصمت في حرم الجمال جمال (1)
كلماتنا في الحب تقتل حبنــا إن الحروف تموت حين تقـال
قصص الهوى قد أفسدتك فكلها غيبوبة وخرافـة وخيـــال (2)
الحب ليس رواية شرقيـــة بختامــها يتزوج الأبطــال
لكنه الإبــحار دون سفينـة وشعورنا أن الوصول محــال(3) هو أن تظل على الأصابع رعشة وعلى الشفاه المطبقات ســؤال
هو جدول الأحزان في أعماقنا تنمو كروم حولــه وغـــلال
هو هذه الأزمات تسحقنا معا فنموت نحن وتزهر الآمـــال
هو أن تثور لأي شيء تافه هو يأسنا .. وشكنا القتــــال
هو هذه الكف التي تغتالنا ونقبل الكف التــي تغتـــال
لا تجرحي التمثال في إحساسه فلكم بكى صمتــه تمثــــال
قد يطلع الحجر الصغير براعما وتسيل مــنه جداول وظـلال (4)
إني أحبك .. من خلال كآبتي وجها كوجه الله ليس يطــــال
حسبي وحسبك أن تظلي دائما سرا يمزقني .. وليس يقــــال
دراسة وتحليل
غزل وموقف :
القصيدة غزلية تمثل فن التحدث الى المرأة وبراعة الكشف عن العواطف المشحونة بالمفاهيم والمواقف وهي من شعر نزار قباني الذي يمثل انقلابا على مفهوم الغزل العربي حيث البوح بالحب في مجتمع مسيج بالأعراف والتقاليد مجتمع لم يكن يعترف بمثل الحب الجريء والصريح وهذا التوجه الى الغزل عند نزار جعله في رأي النقاد والدارسين شاعر المرأة والجمال في دنيا العرب
الفكرة : يمثل مطلع القصيدة موقفا لفتاة معجبة بالشاعر وقد أثارتها لا مبالاته نحوها فتسأله قل لي كلاما ناعما ولو كذبا ويرد الشاعر بسيل عن المعاني والمواقف تتخللها جملة من المشاعر والعواطف التي تداخلتها مفاهيم وآراء جاد بها فكره فاذا بالفتاة الغضة العطشى الى الحب الذي تكتنفه البراءة وتظلله الأحلام بعيدا عن التقاليد وقساوتها أحيانا اما الشاعر ففي رده نصح وارشاد يطمسان حقيقة اندفاعه نحو الفتاة ويأخذ الشاعر في ايراد سلسة من التعريفات للحب تعمق مفهومه عند الفتاة وتوسع ادراكها له فصمته أمامها بوح واعتراف بحبها والتعبير عن الحب ليس احياء له وانما قتل وتحديد قصص الهوى التي سمعتها هذه الفتاة ماهي الا من نسخ الخيال مسطح الحب عند الشاعر ليس طقسا شرقيا ينهي حكما نهاية معهودة انه أي الحب ارتياد للمجهول وملامسة للمستحيل هو انفعال دائم وبحث مضن عن جدوى الوجود هو هذا الحزن الدفين الذي يرعى نفوسنا ويحيا بها هو الثورة والانفعال والشك .
ونزار قباني يكشف عن موقف من الجمال يتمثل في الصمت المعبر بوضوح عن حقيقة ما يفكر فيه تجاه قضية شغلت لناس والمجتمع منذ أقدم العصور انها قضية الحب والعلاقة بين الرجل والمرأة ومفهوم كل منهما لهذه القضية حيث التباين يفي الرأي وف المفهوم والموقف ومن المعاني التي تستوقفنا قول الشاعر :
الصمت في حرم الجمال جمال وقوله:
اني أحبك من خلال كآبتي وجها كوجه الله ليس يطال
فيعبر بذلك عن سمو الحب ولا نهائياته.
وتجربة الشاعر وان كانت ذاتية الطابع شخصية الانتماء الا انها ترقي لتبلغ مستوى انسانيا حيث تكتسب الفكرة طابع شموليا
العاطفة :
والعاطفة في القصيدة جارفة وطاغية نراها في براءة الفتاة الراغبة في سماع كلمات الحب تدغدغ مشاعرها وتثيرها وهي ما تزال طفلة لا تقوى على تحمل عاطفة الرجل المنفجرة انها طفولة فكر غض غرير لا يقوى على الحب اللاهب الذي يمثله رجل جاوز في التجربة والمعاناة حدود النضج وتتنوع العاطفة بين الصدق والاندفاع الجارف بين التعبير عن مكامن الذات ومظاهر الحديث الخادع بين الصمت والبوح بين حقيقة المشاعر وما يختزنه وجدان الانسان المحب من حزن وثورة وشك وخرافة
نزار قباني في القصيدة يتدفق انفعالا بلغة اليأس والأمل ويتفجر بكاء صامتا وكآبة حيث عاطفة الحب سر لا يجوز الكشف عنها او تعريتها عاطفة تكمن في هذا اللغز المحير هكذا تتبدى العاطفة الصادقة مسيطرة عميقة متجذرة ذات طابع انساني لأنها تلامس كل ذات بشرية ولا تقتصر على ذات صاحبها.
الخيال :
اما الخيال في النص فيعانق الاطار العاطفي المشحون بحيث تطالعنا صور محتشدة ولوحات متلاحقة يجود بها خيال الشعر الخصب والمتسم ببعد التصور فاذا بنا امام عالم خيالي مثالي صحيح ان بعض الصور عادي محسوس كقول الشاعر : " اني لأرفض أن أكون مهرجا قزما " ولكن يبقى في بعضها جمال وبهاء يدلان على جنوح المخيلة وتنامي المقدرة على التصوير فلنسمع الشاعر يصف ٍالحب بأنه الابحار دون سفينة هو الشعور بأن الوصول الى الشاطىء مستحيل هو جدول الأحزان يتمثل في موت الانسان وفي ثورته هو في تفجير الحجر براعم وجداول وظلال .
التعبير :
والقصيدة بمعانيها وعواطفها وصورها نتاج متوازن للقوي الأدبية جاء في صياغة متميزة بالرقة والسلاسة وبالتعبير الحي والمتنوع فمن جملة انشائية الى أخرى خبرية حيث الانسياب والعذوبة ومن أسلوب التوكيد ( 4 – 17 ) الى أسلوب التكرار ( 11 – 14 ) ومن كم تكثر في المحسنات البديعية والصور البيانية من مثل التشبيه والاستعارة والكناية والطباق وغيره مما يضفي على الكلام الكثير من الرونق بعيدا عن التكلف
اما اللفظة فتبعث على الارتياح وتدل على حسن الانتقاء وهي مختارة للفن نفسه الجرس والايقاع متوافران ويتركان أثا في نفس السامع وبخاصة عند الاحساس بالوزن الفخم المختار والقافية اللينة الممدودة لقد أجاد الشاعر تحقيق التآلف بين مختلف عناصر الأدب من فكرة وعاطفة وصورة وبرع في الصياغة والملاءمة بشكل طبيعي وعفوي يشف عن ذوق رفيع وفهم وتعمق واحاطة باللغة التي أتقنها .
وخلاصة القول ان القصيدة أثر فني جامع لناصر الأدب وهي تأكيد على ماهية الأدب في كونه كلاما فنيا يعبر به انسان موهوب عن أحاسيس ومشاعر وأخيلة وأفكار تخطر في باله فيعيشها ثم يرسلها في مناخ نفسي ملائم بقصد خلق حالة وجدانية مماثلة لتلك التي مر بها أثناء الانفعال وفي سعيه نحو اشراك الآخرين في تجربته الذاتية .
محمود درويش
التعريف بالشاعر:
هو محمود درويش شاعر فلسطين معاصر، ملتزم، مناضل عنيد ومقاوم من سخر، وطن نفسه لخدمة فلسطين بكل ما أوتي من جهد وفكر ، وصخر أدبه لخدمة قضيتها وقضية شعبه وأمته.
التعرف على النص:
النص مقتطف قصير من قصيدة طويلة عن مجزرة كفر قاسم، من ديوان "يوميات جرح فلسطين" فالنص عبارة عن قصيدة شعرية من الشعر الحر، ينتمي إلى الأدب العربي الحديث، أدب الثورة والمقاومة، والقصيدة التي سنتناولها بالدراسة ليست من أعظم قصائده أو من أهمها، ولكنها إحدى قصائده العديدة التي تمتلئ بنبض الإيقاع وعمق الفكرة وروح المقاومة مع بساطة الأداء.
تتألف القصيدة عن ثلاثة مقاطع، يتناول فيها الشاعر فكرة بسيطة ليخاطب عاطفة الفلسطينيين وعقلهم ليحثهم على مواصلة المقاومة بإرادة أكبر وببسالة أعظم.
قصيدة : نداء من القبر
أنا ... عمر موتي ثماني سنين
وعمر أبي مثل عمري
نناشد أحباءنا الطيبين
وكل الذين
يريدون ان يكبروا
على الأرض لا تحتها
وأن ينضج القمح في حقلهم
وهم يزرعون وهم يحصدون
وان يخمر الخبز في بيتهم
وهم يخبزون و هم يأكلون
نناشدهم لا تناموا
لكي تكبروا
على الأرض لا تحتها
وحذار ... هنا الشمس دود وطين
وتحسب أعمارنا بالمنون
أنا .. عمر موتي ثماني سنين
وعمر أبي مثل عمري
-2-
سألناكم: لا نريد
على القبر ماء وزهرا
فلا شيء حي سوى
قطيع أفاع ... ودود
سألناكم: لا نريد
ثياب حداد
فلا لون في القبر
الا السواد:
سألناكم : لا نريد
مواويل حزن طويلة
فنحن هنا راقدون
وعودتنا مستحبله
- 3-
سألناكم : أن تغنوا
لأرضكم الباقية
وان تغضوا
وترووا حكايتنا القانية لأبنائكم ..
لتبقى على علم المجرمين
دمانا
إاشارة درب الى الهاوية
سألناكم أن تصدوا
الرصاص عن الآمنين
لينجوا أحياؤكم .. والذين
غدا يولدون
فمازال نبع الجريمة ثرا
أهيلوا عليه التراب
وكونوا على حذر صامدين !!
- محمود درويش -
* تحليل القصيدة:
قصيدة محمود درويش نداء من القبر ليست واحدة من أعظم قصائده او أهمها ولكنها احدى قصائده العديدة التي تمتلء بنبض الايقاع وعمق الفكرة وروح المقاومة مع بساطة في الأداء .
تتكون قصيدته من مقاطع ثلاثة ولكن أكان ضروريا ان تأتي كذلك في محاولتنا لفهم القصيدة لعلنا نجيب عن هذا التساؤل .
الشاعر يتناول فكرة بسيطة ليخاطب بها عاطفة وعقل جمهوره معا ...
هاهو شهيد من شهداء كفر قاسم استيقظ من موته بعد ثمانين سنين من المجزرة قام محتجا على أبناء شعبه الذين مازلوا يلبسون ثياب الحداد ويغنون المواويل الحزينة وطالبهم الكف عن ذلك لأن الحزن لا يجدي ولا يجدي غير الوقوق أمام الأعداء مصدر الجريمة والصمود في وجه مغتصبي وطنه.
هذه هي القصيدة نداء مباشر من أحد الشهداء الى الأحياء كي يكونوا أحياء حقا لسان الشهيد هنا ينطق بقوة وأحيانا بعبارات مباشرة ليعبر عن القضية التي استحضر من أجلها.
فماذا قالت القصيدة ؟ وكيف عبر الدرويش عن ذلك ؟
القصيدة كما أشرنا تتناول استحضار شهيد من قبره جاء ليخاطب الأحياء وهذا الموقف الأسطوري ليس هو بحد ذاته القضية بل يجعلنا نتساءل ماذا يمكن ان يحقق ؟ ان استيقاظ الشهيد - الموقف الأسطوري ؟ ونداء للأحياء أمر غير منطقي ولكن يقف هناك منطق آخر مواز للامنطقية الموقف الأسطوري ..
فالشهداء دوما يتركون دماهم كنداء للثأر وهنا يصبح نداء الشهداء للأحياء كجانب أسطوري غير منطقي يوازي دماء الشهداء التي تدعوا للثأر ويبدأ الشاعر بتقديم الشهيد إلينا .
أنا عمر موتي ثمانين سنسن
وعمر أبي مثل عمري .."
هذه القصيدة من ديوان "يوميات جرح فلسطيني"
هكذا تبدأ القصيدة المأساة حيث يتقدم الشهيد دون استئذان ليعرف بنفسه مات منذ ثماني سنسن.
ولكن ما يعني الموت هنا والآلف يموتون عربا وغير عرب ؟ وتجسيدا للمأساة و ايجاد بما وراء هذا الموت كان عمر أبي مثل عمري مات أبوه معه هنا تكمن المأساة اذ الموت في كفر قاسم أسرا بأكملها ومنذ البيت الأول تنساب الى قلوبنا مأساة الشهيد التي تناولها الشاعر بإيقاعات هادئة مستخدمة تفعيلات المتقارب فعولن - فعولن - فعولن * المتكررة , وبقافية تلتزم السكن , لتعطي رتابة تكرار التفعيلة والتزام السكون بالقافية سكونا ورتابة يشبهان ذلكما السكون والرتابة المخيمان على القبور صمتا هو أشبه بصمت الموتى ختى لو كانوا شهداء ...
ويبدأ الشهيد حديثا هادئا لا يبتعد في لهجته كثيرا عن لغة الحديث اليومي الأحياء - الطيبين ونحن دوما نتحديث عن الرجل الطيب ونتحدث عن تضج القمح في الحقول والزراعة والحصاد ... وان جاءت كلها بترتيب مختل فالزراعة قبل الحصاد والحصاد بعد النضج ...
ويتحدث عن الخبز الخامر الذي يصلح للأكل هذه أمور كلها هي حديث الناس الناس في معاشهم ويبدأ ويبدأ الشهيد في منشادتهم وكلمة المناشدة لا تعني الالزام ان الشهيد - الميت لن يخرج من قبره حاملا للسيف ولمكبر الصوت و إنما سوف يخرج هادئا يناشد أحياء الطيبين.
ويستخدم الشاعر في عرض قضيته أسلوبا يمكن وصفه بالتضاد التعبيري حيث يأتي بالشيء وضده تعميقا للمأساة وفصلا تاما بين قضية الشهداء وقضية الأحياء الذي لا يتحركون من أجل وطنهم ( الأحياء- الأموات ) .. ( الزهور على قبور الأموات-الأفاعي والدود ) .. ( مواويل الحزن - الغناء ) .. ( الظلمة - الضباب )
فالشهيد نجد عنده في القبر : ( الموت , ظلمة القبر , الأفاعي , الدود , الطين , العمر الذي يحسب بسنوات الموت , الرقدة الطويلة ).
في المقابل ماذا يبقى للأحياء ... وماذا يريد الشهيد لهم أن يصنعوا ؟
شهيدنا هنا مجرب خبر الحياة والموت , لذا يكون استخدامه أسلوب النضج والمناشدة بمثابة الأمر :
نناشد أحياءنا الطيبين
وكل الذين يريدون ان يكبروا
على الأرض لا تحتها
هؤلاء الذين يوجه الشهيد إليهم منشادته هم الأحياء - فعلا - بإرادة الحياة التي تصنع المستقبل لا الأحياء الأموات الذي يستلمون لاقدارهم ولعل الشهيد الذي أحكم عليه الرتاج بصندوق الموت المغلق لم يتمكن من تحقيق هدفه وأمنيته فخرج لمناشدة أبناء قومه الأحياء و ننسى ان الدين الاسلامي يعتبر الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون .. وقد تكون هذه الآية الكريمة هي إحدى مخزونات الشاعر الفكرية التي جعلت شهداءه أحياء يخاطبون الأحياء عما هو حقيقة بهم فالأحياء لهم الحياة بقمحها وخبزها كإرادة للحياة المادية :
نناشد أحياءنا الطيبين
وكل الذين
يريدون أن يكبروا
على الأرض لا تحتها
و ان ينضج القمح في حقلهم،
وهم يزرعون وهم يحصدون
وأن يخمر الخبز وهم يأكلون،،
وهم يخبزون وهم يأكلون،،
نناشدهم : لا تناموا
لكي تكبروا على الأرض لا تحتها
فالشاعر وهو يؤكد عن طريق شهيده ان يصنع مواطنوه الأحياء مستقبلهم بإرادة قوية وهم رافعوا رؤوسهم.
يريدون أن يكبروا على الأرض لا تحتها
فإن يطالبهم باليقظة و العزيمة و الإرادة المقاتلة و الصمود و ذلك بالعمل.
نناشدهم : لا تناموا
لكي تكبروا على الأرض لا تحتها
هنا نجد الشاعر استطرد في فكرته تلك وكان بمكانه أن يوجز فيها إذ أن قوله يريدون أن يكبروا صورة بسيطة وجميلة تعبر وتغني عن استطراداته :
وأن ينضج القمح في حقلهم
وهم يزرعون وهم يحصدون
وان يخمر الخبز في بيتهم وهم يخبزون وهم يأكلون.
ذلك لأنه أعاد مرة أخرى تلخيص ما قاله.
نناشدهم : لا تناموا
لكي تكبروا على الأرض لا تحتها
ومرة أخرى حاول تكثيف ما أراده بالتضاد التعبيري وإن كان ذهنيا خالصا حيث يقول:
نناشدهم : لا تناموا لكي تكبروا
على الأرض لا تحتها ...
حذار .. هنا الشمس دود و طين
وتحسب أعمارنا بالمنون
أنا عمر موتي ثماني سنسن ..
وعمر أبي مثل عمري
هنا يحذرهم الشهيد من شمسه التي هي في القبر دود وطين ويحذرهم من عمره الذي يحسب بالموت وهو يريد لهم الشمس الساطعة شمس الحياة التي تنكشف معها حقيقة وضعهم، ويريد كذلك أن تحسب أعمارهم بسنوات الحياة وهم فوق الأرض لا تحتها ... ويمكننا الإشارة الى هذه الصورة البسيطة التي جاء بها للتعبير عن أفكاره.
(تناشدهم لا تناموا لكي تكبروا) ، وهي تعبير عن المستقبل و إرادة الحياة والعمل (تكبروا على الأرض لا تحتها) تحمل أيضا نفس المعاني والشمس دود وطين تعبير عن تلك الظلمة والفناء و اللاجدوى اللائي يكتنفن حياة الميت.
وفي نهاية المقطع الأول يجعلنا الشاعر نتساءل كيف تكون الحياة ؟ والمأساة مازالت قائمة.
(أنا عمر موني ثماني سنين،
وعمر أبي مثل عمري ...)
ويأتي تكرار مطلع قصيدته هذا فنيا اذ يقف شاهدا - كوسيلة فنية - على المأساة القائمة، وناقوسا يحذر من خطرها. بل وتتعدى فائدته أكثر من ذلك، بحيث يصبح واصلا نفسيا يحاول به الشاعر أن يوثق الوشائج النفسية لكيان القصيدة العضوي بكاملة.
(أنا عمر موتي ثماني سنين ... وعمر أبي مثل عمري)
إذا كان المتحدث ميتا ومعه أبوه و إذا كان الأحياء قد اعتادوا أن يضعوا الماء والزهر على القبور ويلبسوا الحداد ويغنوا المواويل الحزينة، فان الشهداء يطرحون تساؤلات على الأحياء ليكونوا أكثر واقعية منهم.
(سألناكم : لا نريد ...
على القبر ماء وزهرا
فلا شيء حي سوى
قطيع أفاع و دود)
إن الشهداء يرفضون الماء والزهر حيث لا يوجد شيء حي في المقابر سوى الأفاعي والدود ويطلبون الماء والزهر للأحياء تعبيرا عن إرادة الحياة وإشراقة المستقبل وليدرك الأحياء أن الماء والزهر ليسا للدود ولا للأفاعي التي قتلت الشهداء في الحياة ونهشت لحمهم في الموت.
ويكون تساؤل الشهيد الاستنكاري نواعا من التضاد الذهني الذي يشمل المقطع الثاني بكامله.
(سألناكم : لا نريد
على القبر ماء وزهرا
فنحن هنا راقدون
وعودتنا مستحيلة )...
فإذا كان سؤاله «للأحياء بأنه لا يريد منهم ولا يريد ... » فإن نقيض النفي هو ما يريده لهم بمعنى أن التضاد الذهني الذي تخلقه صور النفي المتعددة هذه أنما تحمل في طياتها معنى ايجابيا وحيدا هو صورة لما يريده الشهداء للأحياء.
ولا يخلو هذا المقطع كسابقه من استطراد في التصوير، فثياب الحداد بمدلولها الحزين تغني عن مواويل الحزن الطويلة، بل و يقوم كذلك باستخدام أسلوب تقريري يخنق الصور التي تسبقها.
(فلا لون بالقبر إلا السواد)
(عودتنا مستحيلة....)
في المقطع الثالث من القصيدة يجيب الشاعر على بعض تلك التساؤلات التي طرحها في لمقطع الثاني.
سألناكم أن تغنوا لأرضكم الباقية
وان تغضوا وترووا حكايتنا القانية
لأبنائكم ...
لتبقى على علم المجرمين دمانا
إشارة درب إلى الهاوية ..
سألناكم أن تصدوا الرصاص عن الآمنين
لينجوا أحياؤكم ... والذين غداً يولدون
فما زال نبع الجريمة ثرا ...
أهيلوا عليه التراب
وكونوا على حذر صامدين ...)
إذن لا المواويل الحزينة مجدية ولا الزهر على القبور مؤمل، ولا الحداد بلونه الأسود مجد، إنما يجب أن تغنوا للأرض، وأن تغضبوا لتصنعوا الثورة وتربوا أبناءكم على حكايات الوطن واللون الأسود لابد أن يقابل اللون الأحمر لتظل دماء شهدائنا شارة لا تنسى تصبغ علم الأعداء...
تمت صورة هذا التضاد الموحي، بين ما يفعله الأحياء وما يريد الشهداء لهم أن يفعلوه، لأن القضية التي استشهد من أجلها الشهداء في كفر قاسم لم تنته بعد وتعنى أن كثيرا من المجازر ستقع في أية لحظة.
"فما زال نبع الجريمة ثرا"
والنبع بطبيعته عطاء فياض مستمر حتى ولو كان للجريمة، لذا كان على الأحياء عبء مسئولية ذات شقين: تجاه أنفسهم وتجاه وطنهم ومستقبله.
"سألناكم أن تصدوا الرصاص عن الآمنين..
لينجوا أحياؤكم: - والذين غدا يولدون"
وهذا لن يتم بدون حذر من الأعداء إذ علينا أن نهيل عليهم التراب كي نطمر نبعهم متمسكين بالصمود كأحد أدوات الانتصار، هذا المقطع لم يجب على كل التساؤلات الواردة في المقطع الثاني ففيه مثلا يقول:
"فنحن هنا راقدون وعودتنا مستحيلة"
والتضاد الذهني الذي يولده هذا البيت يكمن في (أن الشهداء الذين اقتلعوا من أرضهم بالموت، وتستحيل عودتهم إليها، يقابلهم الأحياء الذين اقتلعوا من أرضهم بالقهر ولكن عودتهم ممكنة"
فنلحظ بهذا المقطع ارتفاع نبرة الحديث عن سابقيه، ولعل حديثه عن الصمود والمقاومة والدعوة للثورة على الغاصب تبرر هذه النبرة.
نشير هنا إلى استخدامه لكلمة "نبع" للدلالة على العدو "نبع الجريمة" وهذه صورة لم يوفق شارعنا في استخدامها، فإن كلمة "النبع" بما لها من معاني تتسم بالطبيعة، والعطاء المتدفق والتجدد كانت غير مناسبة، وكان من الأوفق لو استخدم كلمة توائم ما قصد إليه كمثل "وكر" ذلك لأن النبع حتى لو طهرناه بالتراب، فإن ينابيعه لن تفتأ فتتفجر ثانية.
وهذا الحديث يجرنا للإشارة إلى لغته البسيطة التي استخدمها وهي تقارب لغة الحديث اليومي وذلك كما يرى "ت.س. اليوت" لا يعيب الشاعر فإن "مهمة الشاعر أن يستعمل اللغة الشائعة في محيطه – اللغة التي توثقت الألفة بينه وبينها.
و يمكننا القول بأن الشاعر هنا استخدم اللغة السهلة البسيطة مبتعدا فيها عن التكلف و باعثا في قصيدته الإنسجام، مدركين الدور الجماهيري الذي تحققه قصيدة في الأرض المحتلة بلغة تقترب مفرداتها من لهجة الحديث اليومي و قد أشرنا الى استخداماته اللغوية البسيطة في ما سبق.
في النهاية يمكننا التساؤل، ماذا حققت القصيدة في استخدامها أسلوب المقاطع ...؟.
تابعنا القصيدة في مقاطعها الثلاثة و أشرنا في البدء أن القصيدة هي حديث شهيد للأحياء، و يمكننا القول بأن الحديث اتسم بمنطقية واقعية ذات ثلاثة جوانب؛ فهو عبارة عن:
نداء ـــ و تساؤل ـــثم إجابة
و كان منطقيا أن تقسم القصيدة الى ثلاثة مقاطع:
المقطع الأول : هو النداء ، و يبدأ الشهيد فيه بالتعريف بنفسه ثم يناشد الأحياء.
المقطع الثاني: هو التساؤل الأساسي و الذي يشكل التضاد التعبيري الرئيسي ، و يبدأ بقوله: « سألناكم لا نريد على القبر ماء و زهرا».
المقطع الثالث: هو الإجابة و إن اشتمل في بداية حديثه على سؤال للأحياء لكنه حقيقة إجابة عن التساؤلات في المقطع الثاني إذ يبدأ بقول: « سألناكم أن تغنوا لأرضكم الباقية»....
هذه هي قصيدة محمود درويش ببساطتها و بقدرتها على إيصال الفكرة الى الجمهور وقربها من تذوقه أيضا.
خصائص أسلوبه في هذا النص:
1- استخدم الشاعر في هذا النص أسلوبا يمكن وصفه بالتضاد والتعبير، حيث يأتي بالشيء وضده تعميقا للمأساة وفصلا تاما بين قضية الشهداء وقضية الأحياء الذين لا يتحركون من أجل وطنهم، ويظهر ذلك في (الأحياء – الأموت) الزهور على القبور الأموات، الأفاعي والدود، مواويل الحزن - الغناء، الظلمة، الضياء.
2- توظيف الشهيد في النص أعطى بعدا روحيا كبيرا أراد أن يستميل بذلك بعض أبناء شعبه المترددين المتحمسين عن واجبهم نحو وطنهم ، فاستحضار الشهيد من قبره، فالشهداء دوما يتركون دماءهم كنداء للثأر.
وهنا يصبح نداء الشهداء للأحياء كجانب أسطوري غير منطقي يوازي دماء الشهداء التي تدعوا للثأر، ولجوء الشاعر إلى الشهيد ليوظفه في النص بقصد التأثير إنما مبعثه مخزونة لفكري و موروثه الديني المتمثل في إيمانه بالدين الإسلامي الذي يعتبر الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وللمكانة الكبيرة للشهداء عند الله عند المؤمنين.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة