في العشرين من شهر أكتوبر 1993 وصَلَت مذكرة من إدارة المخابرات المركزية الأمريكية إلى الكونجرس الأمريكي تحتوي على تصوُّر مُقْلق عن رئيس هاييتي المبعَد "جان بيرتراند أريستيد"، زعَمَت المذكرة أنَّ تاريخ "أريستيد" بيَّن أنه كان يُعاني من مرض عقلي، وكان عُرضة لاكتئاب جنوني، وميْل إلى العُنف، وأنه كان قد تلقَّى علاجًا طبيًّا نفسيًّا في مستشفي مونتريال في عام 1980، في نفس اليوم توجَّه السناتور "جيللي هيلمز" ممثِّل نورث كالورينا الذي كان قد طلَب المذكرة؛ ليُعلنَ أنَّ "أريستيد" شخصٌ سيكوباتي مضطرب العقل.
أنكر"أريستيد" التقرير الذي جاء بخصوصه، ووجَّه الرئيس "بيل كلينتون" ونائبه "آل جور" توبيخًا فوق العادة للوكالة..، وصَف "كلينتون" و"آل جور" دراسة الوكالة بأنها غير موثقة ومبنيَّة على معلومات قديمة، وتتناقَض مع سِجِلِّ "أريستيد" كرئيس، وقال "كلينتون": إنَّ تقرير الوكالة فَشِل في أنْ يقفَ على حقيقة أن "أريستيد" كانتْ له اتِّصالات مكثَّفة مع المسؤولين الأمريكيين في واشنطن التي عاش فيها لمدة عامين، وقال: "أنا لا أوافق مع الاستنتاج الذي رُسِم حوله، وأرى أنَّهم وضعوه على أدلة غير كافية".
التصوُّر الذي وضعتْه الوكالة عن "أريستيد" أدَّى إلى تشويه سُمعتها إلى درجة بعيدة؛ قالت صحيفة "النيويورك تايمز": "إنها اكتشفَت أنَّ الوكالة كانتْ تدفع لقادة الانقلاب العسكري وهم أعداء لـ"أريستيد"؛ للحصول على معلومات، وتَبيَّن للوكالة فيما بعد أن تقريرَها عن "أريستيد" قد شوَّهته علاقتها بمعارضيه الذين أطاحوا به، كما نشَرَت صحيفة "ميامي هيرالد" بعد ذلك تقريرًا فنَّدَت فيه مزاعم خضوع "أريستيد" للعلاج الطبي النفسي في كندا، بعد أن حصَلت على تصريح منه؛ لمراجعة سِجِلاته الطبيَّة؛ يقول "صمويل لويس" رئيس فرع تخطيط السياسات في وزارة الخارجية: "كان يجب على الوكالة أن تراجِعَ المزاعم التي ادَّعتها عن حالة "أريستيد" العقلية.
إنَّ الوكالة لَم تبذُل أيَّة جهود في مقابلة الناس الذين كانوا قد تَقَابلوا مع "أريستيد" عبر السنتين الماضيتين الأخيرتين، لقد وضَع المسؤولون في الوكالة رأيًا محددًا عنه، وأنا أعتقد أنهم شعَروا بأنه ليستْ هناك حاجة لإثباته، لقد كانت تصورات الوكالة سطحيَّة في حقيقتها ومكثَّفة في تأمُّلاتها، لقد كانت أقربَ إلى اغتيال شخصيَّة أكثر منها تحليل لشخصيَّة".
عندما تسرَّبت الأنباء عن الاستقرار العقلي لـ"أريستيد"، فتَحَت الطريق للعديد من التساؤلات عن هذا اللغز وحقل البحث السري المسمى بـ"البروفيل النفسي"، كان علماء النفس والأطباء النفسيون العاملون في وكالة المخابرات المركزية يُجرون العديد من الدراسات على شخصيَّات رؤساء الدول الأجنبيَّة التي تهوِّن كثيرًا من شأْنهم، كانت نتائج دراساتهم مُصنفة على أنها سريَّة، وكانت الوكالة تمنع باحثيها من مناقشة أعمالهم على الملأ، ومع ذلك فإن العشرات من اللقاءات مع العديد من صانعي السياسة والرسميين من رجال المخابرات أكَّدت أن مشروع التصورات التشخيصيَّة النفسية الحكوميَّة والأكاديميَّة يحتاج إلى مراجعة، وأنَّ هذا المشروع مشكلة في حدِّ ذاته، وقال "روبرت باستر" الباحث المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينيَّة: "إنَّ المشكلة ليستْ مشكلة "أريستيد" وحْده، لقد كنتُ أحاول مراجعة المعلومات البيوجرافية بطرقٍ غير مباشرة، وتَبيَّن لي أنَّ أكثر من نصفها خاطئ.
إن وكالة المخابرات قد تقف جامدةً أمام معلومات تتعلَّق بما إذا كانت الشخصية موضع البحث متعلِّمة أم لا، وما إذا كان صاحبها متزوِّجًا وله أطفال أم لا".
لقد دمَّرت حالة "أريستيد" سُمعة المشروع في الإدارة الأمريكية والكونجرس، وكانت النتيجة هي نقْل موظفي هذا المشروع إلى وحدات أخرى، كما خُفِّضِت ميزانية المشروع، وازدَادت الشكوك حول فائدة التصورات التشخيصية النفسية ومدى دقَّتها في تحليل الشخصية؛ قال أحد كبار موظفي المخابرات الذي طلب عدم ذِكْر اسمه حديثًا: "إنَّ هذا المشروع يُعَدُّ من أضعف وسائل التحليل لشخصيات الرؤساء، وأنا لا أثقُ فيه كثيرًا".
إرسال تعليق