U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

بدر شاكر السياب ترجمة حياته:

الحجم
بدر شاكر السياب
ترجمة حياته:
بدر شاكر السياب (24 ديسمبر 1926-1964م) شاعر عراقي ولد بقرية جيكور جنوب شرق البصرة. درس الابتدائية في مدرسة باب سليمان في أبي الخصيب ثم انتقل إلى مدرسة المحمودية وتخرج منها في 1 أكتوبر 1938م. ثم أكمل الثانوية في البصرة ما بين عامي 1938 و 1943م. ثم انتقل إلى بغداد فدخل جامعتها دار المعلمين العالية من عام 1943 إلى 1948م، والتحق بفرع اللغة العربية، ثم الإنجليزية. ومن خلال تلك الدراسة أتيحت له الفرصة للإطلاع على الأدب الإنجليزي بكل تفرعاته.
سيرته الأدبية.
اتسم شعره في الفترة الأولى بالرومانسية وبدا تأثره بجيل علي محمود طه من خلال تشكيل القصيد العمودي وتنويع القافية ومنذ 1947 انساق وراء السياسة وبدا ذلك واضحا في ديوانه أعاصير الذي حافظ فيه السياب على الشكل العمودي وبدأ فيه اهتمامه بقضايا الانسانية وقد تواصل هذا النفس مع مزجه يثقافته الانجليزية متأثرا بإليوت في أزهار وأساطير وظهرت محاولاته الأولى في الشعر الحر وقد ذهبت فئة من النقاد إلى أن قصيدته "هل كان حبا" هي أول نص في الشكل الجديد للشعر العربي ومازال الجدل قائما حتى الآن في خصوص الريادة بينه وبين نازك الملائكة.وفي أول الخمسينات كرس السياب كل شعره لهذا النمط الجديد واتخذ المطولات الشعرية وسيلة للكتابة فكانت "الأسلحة والأطفال" و"المومس العمياء" و"حفار القبور" وفيها تلتقي القضايا الاجتماعية بالشعر الذاتي. مع بداية الستينات نشر السياب ديوانه "أنشودة المطر" الذي انتزع به الاعتراف نهائيا للشعر الحر من القراء وصار هو الشكل الأكثر ملائمة لشعراء الأجيال الصاعدة وأخذ السيات موقع الريادة بفضل تدفقه الشعري وتمكنه من جميع الأغراض وكذلك للنفس الأسطوري الذي أدخله على الشعر العربي بإيقاظ أساطير بابل واليونان القديمة كما صنع رموزا خاصة بشعره مثل المطر، تموز، عشتار، جيكور قريته التي خلدها. وتخللت سنوات الشهرة صراعات السياب مع المرض ولكن لم تنقص مردوديته الشعرية وبدأت ملامح جديدة تظهر في شعره وتغيرت رموزه من تموز والمطر في "أنشودة المطر" إلى السراب والمراثي في مجموعته "المعبد الغريق" ولاحقا توغل السياب في ذكرياته الخاصة وصار شعره ملتصقا بسيرته الذاتية في "منزل الأقنان" و"شناشيل ابنة الجلبي" . سافر السياب في هذه الفترة الأخيرة من حياته كثيرا للتداوي وكذلك لحضور بعض المؤتمرات الأدبية وكتب في رحلاته هذه بوفرة ربما لاحساسه الدفين باقتراب النهاية. توفي عام 1964م بالمستشفى الأميري في الكويت، عن 38 عام ونقل جثمانه إلى البصرة أين دفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير.
دواوينه:
أزهار ذابلة 1947م.
أعاصير 1948
أزهار وأساطير 1950م.
فجر السلام 1951
حفار القبور 1952م. قصيدة مطولة
المومس العمياء 1954م. قصيدة مطولة
الأسلحة والأطفال 1955م. قصيدة مطولة
أنشودة المطر 1960.
المعبد الغريق 1962م.
منزل الأقنان 1963م.
شناشيل ابنة الجلبي 1964م.
نشر ديوان إقبال عام 1965م، وله قصيدة بين الروح والجسد في ألف بيت تقريبا ضاع معظمها. وقد جمعت دار العودة ديوان بدر شاكر السياب 1971م، وقدم له المفكر العربي المعروف الأستاذ ناجي علوش. وله من الكتب مختارات من الشعر العالمي الحديث، ومختارات من الأدب البصري الحديث. ولم مجموعة مقالات سياسية سماها "كنت شيوعيا".
أنشـودة المطـر
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر،
أو شرفتان راح ينأى عنها القمر
عيناك حين تبسمان تورق الكروم
وترقص الأضواء... كالأقمار في نهر
يرجّه المجذاف وهنا ساعة السّحر
كأنما تنبض في غوريهما، النّجوم ...
وتغرقان في ضباب من أسى شفيف
كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء،
دفء الشتاء فيه وارتعاشة الخريف،
والموت، والميلاد، والظلام، والضياء؛
فتستفيق ملء روحي، رعشة البكاء
وتشوة وحشيّة تعانق السماء
كنشوة الطفل إذا خاف من القمر !
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب في المطر...
وكركر الأطفال في عرائش الكروم،
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر ...
مطر ...
مطر ...
مطر ...
تثاءب السماء، والغيوم ما تزال
تسحّ ما تسحّ من دموعها الثقال.
كأنّ طفلا بات يهذي قبل أن ينام :
بأنّ أمّه- التي أفاق منذ عام
فلم يجدها، ثمّ حين لجّ في السؤال
قالوا له : " بعد غد تعود .. " –
لابّد أن تعود
وإن تهامس الرفاق أنّها هناك
في جانب التّل تنام نومة اللحود
تسفّ من ترابها وتشرب المطر؛
كأن صيادا حزينا يجمع الشّباك
ويلعن المياه والقدر
وينثر الغناء حيث يأفل القمر.
مطر ..
مطر ..
أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر ؟
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر ؟
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضيّاع ؟
بلا انتهاء- كالدّم المراق، كالجياع،
كالحبّ، كالأطفال، كالموتى- هو المطر!
ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم والمحار،
كأنها تهمّ بالشروق
فيسحب الليل عليها من دم دثار.
أصيح بالخليج : " يا خليج
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والرّدى ! "
فيرجع الصّدى
كأنّه النشيج :
" يا خليج
يا واهب المحار والرّدى .. "
أكاد أسمع العراق يذخر الرعود
ويحزن البروق في السّهول والجبال،
حتى إذا ما فضّ عنها ختمها الرجال
لم تترك الرياح من ثمود
في الواد من أثر
أكاد أسمع النخيل يشرب المطر
وأسمع القرى تئنّ، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع،
عواصف الخليج، والرعود، منشدين :
" مطر ...
مطر ...
مطر ...
وفي العراق جوع
وينثر الغلال فيه موسم الحصاد
لتشبع الغربان والجراد
وتطحن الشّوان والحجر
رحّى تدور في الحقول ... حولها بشر
مطر ...
مطر ...
مطر ...
وكم ذرفنا ليلة الرحيل، من دموع
ثمّ اعتللنا –خوف أن نلام- بالمطر ...
مطر ...
مطر ...
ومنذ أن كنّا صغارا، كان السّماء
تغيم في الشتاء
ويهطل المطر،
وكلّ عام –حين يعشب الثرى- نجوع
ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع.
مطر...
مطر...
مطر...
في كل قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنّة الزّهر
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حملة تورّدت على فم الوليد
في عالم الغد الفتّي، واهب الحياة !
مطر...
مطر...
مطر...
سيعشب العراق بالمطر... "
أصيح بالخليج : " يا خليج...
يا واهب اللؤلؤ، والمحار، والردى! "
فيرجع الصدى
كأنّه النشيج :
" يا خليج
يا واهب المحار والردى. "
وينثر الخليج من هباته الكثار،
على الرمال، رغوة الأجاج، والمحار
وما تبقى من عظام بائس غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الرّدى
من لجّة الخليج والقرار،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرّحيق
من زهرة يربّها الفرات بالنّدى.
وأسمع الصدى
يرنّ في الخليج
" مطر ..
مطر..
مطر..
في كلّ قطرة من المطر
حمراء أو صفراء من أجنّة الزّهر.
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيد
فهي ابتسام في انتظار مبسم جديد
أو حملة تورّدت على فم الوليد
في عالم الغد الفتيّ، واهب الحياة. "
ويهطل المطر..
- بدر شاكر السياب -
* قراءة في " أنشودة المطر " للسياب.
لا نعرف على وجه التحديد متى كتب السياب قصيدته " أنشودة المطر "هذه. ولكننا نعرف أمرين عنها : أولهما أنها نشرت في حزيران من عام 1954 بمجلة " الآداب " البنانية، وثانيهما أن بدرا قدم لها بملاحظات تقول : أنها من وحي " أيام الضياع في الكويت على الخليج العربي ".
ولكنّ هذه الملاحظة تكاد لا تقول شيئا محددا، فهي لا تنبئنا إن كانت القصيدة قد كتبها بدر وهو في الكويت، أم أن الشاعر كتبها بعد عودته إلى العراق مستوحيا أيام ضياعه في الكويت، على أننا نرجح أن يكون قد كتبها وهو في العراق، وربما كانت كتابتها في ربيع عام 1954، ففي هذا الربيع " زاد شقاء الشعب حدة فيضان دجله الذي هدّد بغداد ".
وإذ تفيض دجله فتهدّد بغداد، فتلك مفارقة لابد لها من أن تستقر في ذهن بدر، وأن تستفز مشاعره، فدجله رمز خصب العراق هي نفسها –وقد زاد المطر في غلوائها غلواء- تهدد بغداد، وتحيل مزارعها إلى خراب ! أية سخرة تلك، وأية مفارقة ؟
وتتوالى صور الخراب في ذهن الشاعر، فأمس –يوم كان هو في الكويت- كانت قد طحنت العراق أزمة اقتصادية خانقة اضطرت كثيرا من العمال والفلاحين العراقيين أن يهاجروا –بصورة مشروعة مرة، وغير مشروعة مرارا- إلى الكويت بلد النفط الجديد، لعلّهم يجدون فيه عملا، يوفر عليهم رزقهم، ورزق عوائلهم التي تركوها في العراق، ولا بد أن يكون السياب –وهو ابن البصرة- قد سمع كثيرا عن هؤلاء المهاجرين، بصورة غير مشروعة في زوارق المهربين المحترفين التي تمخر عباب شط العرب، وفي شاحناتهم التي تسلك الطرق البرية البعيدة عن نقاط الحدود، ومراكز التفتيش أما اليوم فدجلة تفيض تهدد بغداد بالفرق بين عشية وضحاها وبغداد لا تعرف إلا حكاما يدعون أنهم يرقّعون ما أفسدته السياسة البريطانية، فيروح نور الدين محمود، ليجيء فاضل الجمالي، ويذهب الجمالي ليخلفه نوري السعيد، وليس بين هذا وذاك، وذلك وهذا إلا الفقر، والخراب، وتضييق الحريات.
وصورة أخرى أهم من هذه الصور جميعا ما تزال عالقة في ذهن بدر تلك هي ما آلت إليه انتفاضة تشرين من عام 1952 من إخفاق اضطر بدرا نفسه أن يهاجر إلى الكويت خوفا من ملاحقة السلطة إياه، وما انتهت إليه من قبل وثبة كانون المجيدة في عام 1948. ولابد أن تكون هاتان الصورتان عزيزتين –بوجه من الوجوه- على نفس بدر، وتحتلان مكان الصدارة من ذكرياته القريبة، فقد شارك فيهما متظاهرا يهتف مع المتظاهرين، وشاعرا يحرض العاجزين أن يلتحقوا بركب الطليعة الواعية من شعبهم.
هذه الصور العامة عن العراق، ونضاله، ومآسيه، وخيباته قد وعتها ذاكرة بدر، ووعت إلى جانبها صورا خاصة من مأسي بدر وخيباته في حياته الخاصة بصورة عامة، وفي مرحلة الطفولة والصبا منها على وجه خاص. وإذا كانت الصور العامة عن العراق لم تظهر قبل عام 1954 –غريب على الخليج-، فذلك لأن أزمة الغربة كانت تعمق في نفسه إحساسا فرديا طاغيا يحجب كل شيء سواه. ولم تك نفس بدر اليوم في عام فيضان دجلة على ما هي عليه قبل عام.. فقد عاد إلى وطنه مرة أخرى، وليس من المستبعد أن يكون قد شعر بخطر الفيضان مثلما شعر الآخرون، ولكن هذا الشعور لم يستبد بنفسه كما استبد بها ما يثيره الفيضان من مفارقة، فالمطر رمز الخصب يغري دجلة أن يخرب، وتلح على ذهنه فكرة المطر، ويبدو له في اللفظة من السحر، ما في لفظة " العراق " نفسها يوم كان في الكويت..
ويدرك بدر –ربما لأول مرة- أن مأساته جزء من مأساة العراق، وأن " الخاص " الذي ألح عليه في " غريب على الخليج " ينبغي له أن يتوحد في " العام " الآن...
ولكن ذكرياته الخاصة لا تفسح الطريق بسهولة إلى ما سواها لاسيما أن هذه الذكريات نفسها هي التي تذكره –يوم كان مغتربا- بالعراق، ولقد كان الذي يشده إلى العراق من هذه الذكريات جميعا مقلتان أرقتا مقلتيه طويلا : " ومقلتاك بي تطيفان مع المطر... ". ويكاد يكون هذا الطواف هو ما خالج السياب لحظة التفكير في القصيدة، ولكنه سيتمهل حتى تختمر الفكرة في ذهنه، وحتى يستجلي بشيء من الوضوح مشاعره... وهكذا كان... ولكن عيني حبيبته ترقبائه وهو يرقب العراق ساميا عنها فيجيء الحديث عن هاتين العينين غامضا غموض نفس بدر بين " الخاص والعام "، بل أن بدرا يحاول في هذا المقطع أن يهشم كل صورة واضحة فيه بما يقربها من الغموض، فإذا بدا له أن عينيها –وهما غابتا نحيل- يمكن أن تكونا واضحتين في نفس القارئ –وربما في نفسه هو- حاول أن يهشم هذا الوضوح بتحديد " ساعة السحر " زمانا لرؤية عينيها هذه الغابة، ساعة تستبهم رؤية الأشياء، وإذا بدا له أن رؤية " الشرفتين " في ضوء القمر ستكون رؤية واضحة إلى حد ما، أبعد القمر رويدا رويدا عنهما... ولا بأس أن يستعين بمجداف يرج صورة الأقمار حين تنعكس في النهر لتجعلها رجراجة بعيدة عن الوضوح.
وبمقدار ما يعمق هذا " التهشيم " –إذ صح التعبير- من ظلال الصورة فنيا، فيجعلها أكثر غنى، فإنه يمكن أن يدلنا –بالمقدار نفسه- على أن هذه الذكريات الخاصة لم يعد لها مكان الصدارة في نفس بدر –كما كان لها هذا المكان من قبل-، فقد جدت في نفسه ذكريات أخرى أعم منها وأوسع، وقد قدر لها –أراد الشاعر ذلك أم لم يرده- أن تنازعها مكانتها، أو أن هذه الذكريات العامة –وهي قريبة حية- قد بلغت من القوة في نفسه بحيث جعلت ذكريات حياته الخاصة بعيدة عن الوضوح الذي بدت عليه قبل هذه السنة أن مشاهدة هذه الذكريات الخاصة والعامة لتصدع في نفسه الآن كما لم تصدع من قبل.
إنه وهو يشهد بؤس العراق وفيضان دجلة لحزين ناقم، وإنه حين يسترجع ماضيه يبدو أكثر بهجة، وأعظم أملا، لا لأن ماضيه كان سعيدا، ولكن لأن الماضي يبدو جميلا دائما. ومع ذلك فحالة السياب – مع كل هذا- لم تكن حزنا خالصا، ولا فرحا مضيئا.
وأريد أن ألاحظ أن الأبيات الستة الأولى من القصيدة في مجمل ألفاظها وتراكيبها : " عيناك غابتا نخيل، شرفتان، عيناك حين تبسمان تورق الكروم، وترقص الأضواء، تنبض في غوريهما النجوم " أقول : إن ألفاظ الأبيات مفردة ومركبة أقرب إلى –رنة البهجة والفرح منها إلى حالة الشاعر النفسية وهو يشهد فيضان دجلة وما يمكن أن يحمله من دمار. وبمقدار ما تعزز هذه الملاحظة ما ذهبنا إليه من صراع بين ما هو خاص وما هو عام في نفسه بحيث أن ما هو خاص به يحاول أن يشيع ألوانه المضيئة على مجمل الصورة في حين يحاول هو – أعني السياب- أن يضفي ظلا من العتمة عليها، أقول : بمقدار ما تعزز هذه الملاحظة من رأينا، فإنها يمكن أن تعزى فنيا إلى بقايا من بناء ثنائي كان ظهر بصورة أوضح في قصائد مثال " فجر السلام " و" الأسلحة والأطفال " وسواهما، ولكن هذه الثنائية – وهي لم تقم على التقابل كما كانت من قبل- لا تلبث أن تتلاشى بعد هذه الأبيات الستة مباشرة، إذ " يرشح " السياب من صراع الضوء والظل في الصورة الشعرية مشهدا هو أقرب إلى حالته النفسية التي هي مزيج من الحزن والأمل. وأقول : " أقرب "، لأن الصراع لم يتلاشى تماما، وإنما بقي –إلى حد ما- قائما ولكن بصورة ظاهرة جلية مثل صراع : " دفء الشتاء وإرتعاشة الخريف " و" الموت والميلاد " وفي وضوح الصراع ما يخفف وطأته في النفس أحيانا. ومن هنا قلت قبلا : أنه تلاشى بعد ستة الأبيات الأولى وفي ذهني أنه لم يعد صراعا غامضا.
ولكن حالة الصراع الواضحة هذه لن تلبث طويلا في القصيدة، إذ يتوصل السياب إلى فرز ما هو خاص عما هو عام بطريقة هادئة ذكية حين يستعير ذكريات طفولته الواعية وغير الواعية في حديثه عن المطر ابتداء من قوله :
" ... كنشوة الطفل إذا خاف من القمر
كأن أقواس السحاب تشرب الغيوم
وقطرة فقطرة تذوب في المطر.
وكركر الأطفال في عرائش الكروم
ودغدغت صمت العصافير على الشجر
أنشودة المطر
مطر..
مطر..
مطر.. "
إنّ صورة المطر هذه بكركرات الأطفال، وبضجة العصافير هي من صميم حياته طفلا في جيكور. وبدءا من المفطع الذي يلي قوله هذا، سيتحدث السياب عن مآسي طفولته، وعن موت أمه بوجه خاص، وكأنه أنهى حالة الصراع بين الخاص والعام التي كانت قائمة في نفسه، حين عرف كيف يوجد بينهما عن طريق أداتي التشبيه : " الكاف، وكأنّ ".
ويبدأ المقطع ناضجا بالحزن والضجر، فالمساء يتثاءب، والغيوم تبكي بدموع ثقال، وكأن السياب لم يتخل بعد عما اعتاده في قصائده السابقة من حشر مقدمات لقصائده وظيفتها تهيئة الجو النفسي للقارئ مثلما يفعل القصاصون في التمهيد لقصصهم. إنه يريد من خلال هذه التهيئة أن يدخلنا إلى ذكرياته الخاصة، يريد أن يحدثنا عن طفولته يوم أفاق يسأل عن أمه –وقد توفيت- فقيل له : إنها غائبة، وإنها ستعود، وإذ صدق الطفل ذلك، و بنى آمالا عليه تهامس أترابه من الأطفال بأنها ميتة، وأنها دفنت إلى جانب التل " تسف من ترابها وتشرب المطر ". ولا يترك السياب هذه الحالة الخاصة على خصوصيتها وإنما يدمجها بحالة أخرى أوسع منها وأعم، لأنه بدأ يدرك أن خيبة أمله في عودة أمه باعتبارها حلما من أحلامه ليست خاصة به، وإنما هي خيبة أمل عامة يختار لها نموذجا حزينا يرتبط بحالته من طريق أداة التشبيه " كأن "، هذا النموذج هو الصياد الذي أنفق شطرا من ليله ينتظر أن يعلق بشباكه المنشورة في الشط شيء، ولكنه في النهاية يجمع شباكه خائبا :
" كأنّ صيادا حزينا يجمع الشباك
ويلعن المياه والقدر
وينثر الغناء حيث يأفل القمر
مطر..
مطر..
مطر.. "
وتحس أن لفظة المطر هنا قد اكتسبت شيئا من معنى " الرزق " في نفس الصياد، وشيئا آخر من معنى " الرزق " و" الأمل " في نفسي الصياد و السياب معا، وتشعر من خلال تكرارها ثلاث مرات في نهاية المقطع، ومن خلال موقعها من المقطع أن فيها لمحا من سخرية مرة بفكرة " الأمل "، ولم يكن السياب مغاليا في هذه السخرية، وإلا أفلم يخب أمله خيبة أمل الصياد الذي عاد وهو " يعلن المياه والقدر " ؟!
ويستمر السياب في ذكرياته الخاصة في المقطع الثالث من القصيدة، ولكن هذه الذكريات مرتبطة " بأيام الضياع في الكويت " –كما يقول السياب- في بداية القصيدة، أن هذا المقطع يتحدث عن إحساس السياب الخاص بالمطر وهو في الكويت :
" أتعلمين أيّ حزن يبعث المطر
وكيف تنشج المزاريب إذا انهمر
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضياع ؟
بلاد انتهاء كالدم المراق، كالجياع، كالحبّ، كالأطفال، كالموتى- هو المطر "
وإحساسه –كما هو واضح- إحساس فيه الحزن والضياع حتى ليخيل إليه أن المزاريب تنشج معه، وتأسى له، ولكن ضياعه الآن على خلاف ضياعه في " غريب على الخليج " حين خيل إليه أنه " يبسط بالسؤال يدا ندية صفراء من ذل وحمى ذل شحاذ غريب... ". إن ضياعه الآن مرتبط بالصراع بين الخير والشر " كالدم المراق، كالجياع " فالدم من جراء هذا الصراع –وسمه طبقيا إن شئت- يراق والجياع –بسبب هذا الصراع أيضا- يجوعون، وضياع السياب مرتبط به. أنه صراع الحياة نفسها في وحدة متناقضاتها : " الحب، الأطفال، الموتى ".
ولم يفتتح السياب هذا المقطع بمخاطبة المرأة –فيما يخيّل إليّ- عبثا، فمن الناحية الواقعية كانت هذه المرأة –كما قلت- هي التي تشدّه إلى العراق، ولا يهمني كثيرا أن أعرف من هي ؟ ومن الناحية الفنية، مكّن هذا الإفتتاح شاعرنا أن يربط بداية قصيدته بما يليها من مقاطع، ولكن ما هو أهم من هذا –من الناحية الفنية أيضا- هو أنه استطاع أن يربط من خلال مقلتيها ما هو خاص بما هو عام فيتوصل إلى رمز من أجمل رموزه في قوله :
" ومقلتاك بي تطيفان مع المطر
وعبر أمواج الخليج تمسح البروق
سواحل العراق بالنجوم والمحار
كأنها تهم بالشروق
فيسحب الليل عليها من دم دثار
أصيح بالخليج : (يا خليج
يا واهب اللؤلؤ والمحار والردى)
فيرجع الصدّى
كأنه النشيج :
يا خليج
يا واهب المحار والردى.. "
وفكرة المشهد مستوحاة من قوله في " غريب على الخليج " :
" وعلى الرمال، على الخليج
جلس الغريب، يسرح البصر المحير في الخليج
ويهد أعمدة الضياء بما يصعد من نشيج
أعلى من العباب يهدر رغوة ومن الضجيج
صوت تفجر في قرارة نفسي الثكلى " عراق "
... الريح تصرخ بي " عراق "
والموج يعول بي " عراق "، " عراق " ليس سوى " عراق ". "
وأقول : مستوحاة، لأن السياب – فيما أظن- يستبعد الجلسة نفسها ولكن بشكل أعمق، إذ لم تعد لفظة " العراق " سحرية حتى لكأنها لا ترتبط بشيء سوى رنين حروف " العراق ".
إن جلسته تتحول في " أنشودة المطر " إلى جلسة تأمل فيما آل إليه مصير العراق، وما يمكن أن يؤول إليه مستقبله، فالبروق التي تمسح سواحل العراق بالنجوم والمحار ليست بروقا حقيقية رغم ما يمكن أن توهمنا به من حقيقة كونها لازمة من لوازم المطر. إن هذه البروق هي : ثورة عام 1920، وحركة مارس 1941، ووثبة كانون المجيدة عام 1948، وانتفاضة تشرين 1952 التي تشرد من جرائها السياب نفسه. وأذهب في تفسير " البروق " هذا المذهب، لأنه لا يمكن –بدون هذا التفسير- أن يستقيم لنا معنى قوله :
" كأنها تهم بالشروق
فيسحب الليل عليها من دم دثار "
وإذا كان لأحد أن يناقش في كون البروق الحقيقية تضيء السماء فعلا حتى لتهم أن تشرق، فإنه لا يستطيع أن يجد تفسيرا حقيقيا للفظة " الليل " الذي يغطي هذا الشروق بدثار من دم. أن " الليل " هنا هو الذي يفسر أن استعمال " البروق " لم يكن بمعناه الحقيقي، فالليل رمز للاستعمار البغيض، و البروق هي الثورات التي قاومت هذا الاستعمار، ولكنها انتهت بدماء الشهداء.
ويلتفت السياب – وهو جالس " يسرح البصر المحير في الخليج " إلى الخليج فيتخذ منه رمزا من أجمل رموزه كما أسلفت، إذ يستحيل هذا الخليج رمزا للثورة بمقدار ما هو رمز للشعب العراقي الذي لم ينجح في انجاز هذه الثورة حتى 14 تموز 1958 الخالد. ولكنه إذا يخاطبه يستوحي في هذه المخاطبة حياة الغوص التي اعتمدتها الكويت –قبل ظهور النفظ فيها- اعتمدا أساسيا في اقتصادها، وكأنه يريد أن يوهمنا بهذه المخاطبة أنها محمولة على الحقيقة لا على الرمز، ولكن ما آلت إليه انتفاضات الشعب العراقي ضد الاستعمار البريطاني من إخفاق هي التي تهدينا إلى هذا الرمز، فقد خاطب الشاعر الخليج بأنه واهب اللؤلؤ (الذي هو غاية رجاء الغواص) والمحار (الذي هو الأمل) والردى (الذي هو العدم، واليأس المطبق)، وبمعنى آخر فإن " اللؤلؤ " هو انجاز الثورة الحاسمة الناجحة، والمحار هو الأمل بقيامها، ولكن المحار لا يحقق أمل الغواص دائما وإنما يخيبه في أحيان كثيرة، والردى الذي هو الشهادة في سبيل الثورة، وتعمد أن يخاطبه بالصياح إذ قال : " أصيح بالخليج " لأنه نافذ الصبر الآن، ولأنه يريد أن يستفيد فنيا من رجع الصيحة، فليس صدى الصيحة كصدى القيلة. على أن السياب استفاد بمهارة فائقة من ترديد هذا الصدى حين حذف لفظة " اللؤلؤ " وأبقى على " المحار والردى " في رجع الصدى، فمن شأن رجع الصدى –في الواقع- أن لا يردد جملة ما بتمامها دون أن يتلاشى منها شيء ومن شأنه أيضا أن يلح على أواخر الجملة فيرددها بقوة، وهكذا فعل السياب في محاكاة الصدى حين حذف لفظة " اللؤلؤ " الذي هو –كما قلت- إنجاز الثورة، وأبقى على " المحار " و" الردى " أملا في تطوير الانتفاضات الشعبية إلى ثورة حاسمة، وتذكرا لشهداء الانتفاضات، وإذن فقد نجح السياب – من خلال صنعة- خفية أن يحاكي الصدى، وأن يعبر عن حالته النفسية، وينتهي المقطع دون أن يكرر لفظة " مطر " كما في المقطعين السابقين، وكأنه لم يجد لإيحائها محلا إذ أن حالته النفسية هي مزيج من أمل بخصب، وموت متحقق، وبعيد أن تتحمل لفظة " مطر " هذين المعنيين المتناقضين معا. ولكنه –فيما أظن- لم يفاجأ في نهاية المقطع أنه لم يحتمل تكرار هذه اللفظة التي هي شبه لازمة من بناء القصيدة، وإنما كان قد أدرك ذلك حين كان يكتبه، وآية ذلك أنه كان في المقطعين السابقين يمهد لذكرها صوتيا من خلال التوكيد على روي " الراء " قبلها كما صنع في المقطع الأول حيث قال : " ... صمت العصافير على الشجر، ... مطر " وفي المقطع الثاني حين مهد لها بقوله : " حيث يأفل القمر، مطر ... " على حين كان توكيده في هذا المقطع على روي الدال : " الردى، الصدى، الردى ".
ويتوسع إيحاء المحار في نفسه بما يخبئه في داخله من لآلىء، فيستحيل العراق إلى محارة كبيرة تذخر في داخلها " الرعود والبروق " ولكن هذه المحارة –العراق تنتظر الرجال الذين يفضون ختمها، وتضمن لهم – أن فعلوا- ألا يبقى من ثمود- وهو يعني بهم الحاكمين في العراق- أثر. ذلك هو ما يوحيه المحار، وللموت إيحاء آخر ليس هو نقيضا للأمل، وإنما هو على العكس –محرض على تحقيقه : ذلك الإيحاء هو صورة رديف الموت وسببه أعني الجوع :
" أكاد أسمع النخيل يشرب المطر
وأسمع القرى تئن، والمهاجرين
يصارعون بالمجاذيف وبالقلوع
عواصف الخليج والرعود منشدين :
مطر
مطر
مطر "
أما الموت فهو يوحي إليه بصورة الجوع الذي تئن منه القرى، ويهجر الفلاحون بسببه قراهم إلى حيث الرزق أو الأمل به، ولكن هذا الجوع لم يكن قدرا، ولا هو وليد جفاف، لأن النخيل ما زال يشرب المطر، ولكن النظام الإقطاعي هو المسؤول عن جوع هؤلاء، فبحكم سيطرة هؤلاء الإقطاعيين –الذين يسميهم بالغربان والجراد- واستغلالهم ترى هؤلاء الفلاحين يطحنون الحجر لعلهم يصنعون منه خبزا. فأية سخرية هذه التي يحملها لفظ المطر في نهاية هذا المسهد ؟
وإذا كان السياب –في ذلك المقطع- يتحدث عن الفلاحين وقراهم بضمير الغائب، فإنه سرعان ما يتوحد بهم هنا ليتحدث بضمير المتكلمين :
" وكم ذرفنا ليلة الرحيل من دموع.
ثم اعتللنا خوف أن نلام بالمطر
مطر
مطر "
إن السياب الآن أصبح واحدا من المهاجرين الذين يتعللون بالأمل، وليس من الذين خافوا من بطش السلطة فهربوا. وإذا كان لهذا الالتفات –أعني من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلمين- من دلالة، فهي ما ألمحنا إليه من توحد الخاص بالعام.
وإذ يؤكد الشاعر بؤس العراق –وليس بؤس الفلاحين وحدهم- بسبب النظام الإقطاعي من خلال الجملة الاعتراضية : " حين يعشب الثرى " يلتفت إلى ما يخبئه الغيب بنبرة هي أقرب إلى الوعيد منها إلى الأمل الخالص بمستقبل زاهر ليس فيه جوع. وعلى أن هذا الأمل هو أقرب إلى ما يتبناه دعاة الواقعية الاشتراكية إلا أنك لا تحس أنه مفتعل، ولا أنه مما لابد أن يأخذ مكانه في القصيدة ليشير إلى مذهب صاحبه السياسي، بل لعل القصيدة كانت ستفقد كثيرا من حيويتها ونموها بدون هذا الأمل الذي تحققه دموع الجياع، ودماء العبيد " في عالم الغد الفتي واهب الحياة ".
وحين ينتهي هذا المقطع يحس القارئ أن القصيدة قد بلغت نهايتها بقول الشاعر في نهايته : " سيعشب العراق بالمطر " ولكن السياب يستمر في تطويل القصيدة رغبة في تطويلها حسب، فيكرر صياحه بالخليج مفر فا هذه الصيحة من معناها الذي وقفنا عنده، ومكررا أمله بالغد الفتيّ، ولم يكد يضيف شيئا سوى التكرار إلا ما كان من أمر المهاجرين الغرقى الذين يرمي البحر بعظامهم على الرمال.
ويخيل إليّ أن القصيدة كانت ستكون أكثر تماسكا في بنائها لو وقف الشاعر عند قوله : " سيعشي العراق بالمطر " لا لشيء إلا لأنه قال كلّ ما عنده، ولم يضف إلا تفصيلات صغيرة لا تضيف إلى القصيدة شيئا ذا بال.
ومع هذا وذاك، و رغمهما تبقى " أنشودة المطر " من أفضل ما كتب في كل مراحله.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة