- الأمير عبد القادر –
- مولده:
ولد أديبنا يوم الجمعة الموافق للثالث والعشرين من شهر رجب سنة اثنين وعشرين ومائتين والف للهجرة(1222هـ)، الموافق لشهر مايو(أيار) سنة سبعة وثمانمائة والف للميلاد(1807م)(13) بقرية اختطها جده لأمه غربي مدينة معسكر، من إيالة وهران، وتسمى القيطنة بالقطر الجزائري
وفاته:
كان الأمير يتمتع بصحة جيدة في شبابه وشيخوخته على الرغم مما تحمله من نوائب الدهر ومصائب الزمن من جهاد وكفاح وأسر في سبيل الله والوطن، حيث تحمل ذلك بجلد وصبر ونفس قوية إلى أن أصيب في آخر أيامه " بورم في خصيته يمنعه من الإسراع في المشي إلى جانب إصابته بمرض الكلى والمثانة، ومع ذلك لم " يظهر ضجرا ولا تأوها قط ولا ترك الصلاة في وقت من الأوقات"(173) وفي الساعة السابعة من ليلة يوم السبت 19 رجب 1300 هـ / 24 مايو 1883 م " لبى نداء ربه بنفس راضية مرضية وذلك في قصره في قرية دمر بضاحية دمشق عن عمر يناهز 76 حولا، واهتزت دمشق وما جاورها لهذا المصاب الجلل، وسرعان ما ذاع الخبر في جميع الأنحاء فعم الحزن والأسى كل من يعرف عبدالقادر.
وفي صباح اليوم الموالي نقل إلى بيته في دمشق، وبعد تجهيزه والصلاة عليه في جامع بني أمية، حملت جنازته إلى الصالحية في موكب شعبي ورسمي رهيب حيث خرجت دمشق عن بكرة أبيها لتودع هذا الرجل العظيم إلى مثواه الأخير، ولتلقي عليه نظرة الوداع قبل أن يوارى جسده الطاهر" بجوار الشيخ الأكبر سيدي محيي الدين بن عربي داخل القبة(174) "، وبدأ سيل برقيات التعازي ينهال على أسرة الأمير من ملوك العالم والوزراء والأعيان والعلماء ينعون فيها الفقيد العظيم مشيدين بخصاله الحميدة.(175) ومن بين مئات القصائد التي نظمت في رثائه اختار أهله أبياتا للشيخ عبدالمجيد الخالي فنقشت على قبره:
لله أُفْقٌ صار مشرق دارتـــي
قمرين، هــلاّ من ديار المـــــغربِ
الشيخ محيى الدين، ختْم الأوليـا
قمر الــفتوحات، الفريد الشَّــــرِب
والفرد عبدالقادر الحسني الأمير
قمر المواقف .ذا الولي ابن النبـي
من نال، معْ أعلى رفيق .أرّخوا:
أذكى مقامات الشهــــــود الأقرب
مؤلفاته:
1 – ذكرى العاقل و تنبيه الغافل.
2 – المقراض الحاد ( لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل و الإلحاد).
3 – مذكرات الأمير عبد القادر.
4 – المواقف في التصوف و الوعظ و الإرشاد.
5 – رسائله و مراسلات (الاخوانية . مراسلات أخرى).
1 – ذكرى العاقل و تنبيه الغافل.
2 – المقراض الحاد ( لقطع لسان منتقص دين الإسلام بالباطل و الإلحاد).
3 – مذكرات الأمير عبد القادر.
4 – المواقف في التصوف و الوعظ و الإرشاد.
5 – رسائله و مراسلات (الاخوانية . مراسلات أخرى).
قصيدة: في التصوف
1. أمسعود جاء السعد والخير واليسر
وولَّت جيوش النحس ليس لها ذِكْرُ
2. إلى أن دعتني همة الشيخ من مدى
بعيد: ألا فادن فعندي لك الذخـرُ
3. فشمَّرت عن ذيلي الإطار، وطار بي
جناح اشتياق ليس يخشى له كسر
4. وما بعدت عن ذا المحب تهاـة
ولم يثنه سهل هناك ولا وعـــر
5. إلى أن أنخنا بالبطاح ركابنــا
وحطت بها رحلي، وتم لها البشــر
6. بطاح بها البيت المعظم، قبلـة
فلا فخر إلا فوقه، ذلك الفخــــر
7. بطاح بها الصيد الحلال محـرم
ومن حلها حاشاه يبقى لـــه وزر
8. أتاني مربي العارفين بنفسـه
ولا عجبٌ فالشأن أضحى له أمــر
9. وقال فإني منذ اعداد حجــة
لمنتظر لقياك ياأيها البــــــدر
10. فأنت بني مذ" ألست بربكـم
وذا الوقت حقا ضمه اللوح والسـطر
11. وجدّك قد أعطاك من قدمٍ لنا
ذخيرتكم فينا وياحـبذا الذخــــر
12. فقبّلت من أقدامه وبساطـه
وقال: لك البشرى بذا قضي الأمر
13. وألقى على صفري بإكسير سره
فقيل له: هذا هو الذهب التبــر
14. محمدٌ الفاسي، له من محمدٍ
صفيّ الأله الحال والشيم الغـر
15. حريص على هدْي الخلائق جاهد
رحيم بهم بر خبير له القـــدر
16. كساه رسول الله ثوب خلافة
له الحكم والتصريف والنهي والأمر
17. فمكة ذي خير البلاد فديتا
فما طاولتها الشمس يوما ولا النسر
18. بها كعبتان: كعبة طاف حولها
حجيج الملا، بل ذاك عندهم الظفـر
19. وكعبة حجاج الجناب الذي سما
وجل فلا ركن لديه ولا حجــــر
20. وشتان مابين الحجيجين عندنا
فهذا له ملك وهذا له أجـــــر
21. عجبت لباغي السير للجانب الـذي
نقدس مما لا يجدُّ له السيــــر
22. ويلقي إليه نفسه بفنائه
بصدق تساوى عنده السر والجهر
23. فيلقى مناخ الجود والفضل واسعاً
ويلقى فراتاً طاب نهلاً فما القطـر
24. ويلقى رياضاً أزهرت بمعارف
فياحبذا المرأى وياحبذا الزهـر
25. ويشرب كأسا صرفة من مدامة
فيا حبذا الكأس ويا حبذا خمر
26. فلا غول فيها،لا،ولاعنها نزفة
وليس لها برد وليس لها حــر
27. معتقة من قبل كسرى مصونــة
وما ضمها دن ولا نالها عصر
28. فلو نظر الأملاك ختم إنائهـا
تخلوا عن الأملاك طوعا ولا قهــر
29. ولو شمت الأعلام في الدرس ريحها
لما طاش عن صوب الصواب لها فكر
30. فيا بعدهم عنها، ويابئس مارضوا
فقد صدهم قصد وسيَّرهــم وزر
31. هي العلم، كل العلم والمركز الذي
به كل علـم حيـن لـــه دور
32. فلا عالم إلا خبير بشُربهـا
33. ولا جاهل إلا جهول بها، غـــر
34. ولا غبن في الدنيا ولا من رزيئة
سوى رجل عن نيلها حظه نــزر
35. ولا خسر في الدنياولا هو خاسـر
سوى والهٍ، والكف، من كأسها صفر
36. إذا زمزم الحادي بذكر صفاتهـا
وصرح ما كنَّى ونادى، نأى الصبر
37. وقال: اسقني خمراً وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سراً، إذا أمكن الجهــر
38. وصرِّحْ بمن تهوى ودعْني من الكِنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر
39. ترى سائقيها كيف هامت عقولهـم
ونازلهم بَسْطٌ وخامرهم سكــــر
40. وتاهوا فلم يدروا من التيه من هــم
وشمس الضحى من تحت أقدامهم عفـر
41. وقالوا: فمن يُرجَى من الكون غيرنا
فنحن ملوك الأرض لا البيض ولا الحمر
42. تميد بهم كأسٌ بها قد تولهـــوا
فليس لهم عُرْفٌ وليس لهم نكــر
43. حيارى فلا يدرون أين توجهــوا
فليس لهم ذكر، وليس لهم فكــر
1. أمسعود جاء السعد والخير واليسر
وولَّت جيوش النحس ليس لها ذِكْرُ
2. إلى أن دعتني همة الشيخ من مدى
بعيد: ألا فادن فعندي لك الذخـرُ
3. فشمَّرت عن ذيلي الإطار، وطار بي
جناح اشتياق ليس يخشى له كسر
4. وما بعدت عن ذا المحب تهاـة
ولم يثنه سهل هناك ولا وعـــر
5. إلى أن أنخنا بالبطاح ركابنــا
وحطت بها رحلي، وتم لها البشــر
6. بطاح بها البيت المعظم، قبلـة
فلا فخر إلا فوقه، ذلك الفخــــر
7. بطاح بها الصيد الحلال محـرم
ومن حلها حاشاه يبقى لـــه وزر
8. أتاني مربي العارفين بنفسـه
ولا عجبٌ فالشأن أضحى له أمــر
9. وقال فإني منذ اعداد حجــة
لمنتظر لقياك ياأيها البــــــدر
10. فأنت بني مذ" ألست بربكـم
وذا الوقت حقا ضمه اللوح والسـطر
11. وجدّك قد أعطاك من قدمٍ لنا
ذخيرتكم فينا وياحـبذا الذخــــر
12. فقبّلت من أقدامه وبساطـه
وقال: لك البشرى بذا قضي الأمر
13. وألقى على صفري بإكسير سره
فقيل له: هذا هو الذهب التبــر
14. محمدٌ الفاسي، له من محمدٍ
صفيّ الأله الحال والشيم الغـر
15. حريص على هدْي الخلائق جاهد
رحيم بهم بر خبير له القـــدر
16. كساه رسول الله ثوب خلافة
له الحكم والتصريف والنهي والأمر
17. فمكة ذي خير البلاد فديتا
فما طاولتها الشمس يوما ولا النسر
18. بها كعبتان: كعبة طاف حولها
حجيج الملا، بل ذاك عندهم الظفـر
19. وكعبة حجاج الجناب الذي سما
وجل فلا ركن لديه ولا حجــــر
20. وشتان مابين الحجيجين عندنا
فهذا له ملك وهذا له أجـــــر
21. عجبت لباغي السير للجانب الـذي
نقدس مما لا يجدُّ له السيــــر
22. ويلقي إليه نفسه بفنائه
بصدق تساوى عنده السر والجهر
23. فيلقى مناخ الجود والفضل واسعاً
ويلقى فراتاً طاب نهلاً فما القطـر
24. ويلقى رياضاً أزهرت بمعارف
فياحبذا المرأى وياحبذا الزهـر
25. ويشرب كأسا صرفة من مدامة
فيا حبذا الكأس ويا حبذا خمر
26. فلا غول فيها،لا،ولاعنها نزفة
وليس لها برد وليس لها حــر
27. معتقة من قبل كسرى مصونــة
وما ضمها دن ولا نالها عصر
28. فلو نظر الأملاك ختم إنائهـا
تخلوا عن الأملاك طوعا ولا قهــر
29. ولو شمت الأعلام في الدرس ريحها
لما طاش عن صوب الصواب لها فكر
30. فيا بعدهم عنها، ويابئس مارضوا
فقد صدهم قصد وسيَّرهــم وزر
31. هي العلم، كل العلم والمركز الذي
به كل علـم حيـن لـــه دور
32. فلا عالم إلا خبير بشُربهـا
33. ولا جاهل إلا جهول بها، غـــر
34. ولا غبن في الدنيا ولا من رزيئة
سوى رجل عن نيلها حظه نــزر
35. ولا خسر في الدنياولا هو خاسـر
سوى والهٍ، والكف، من كأسها صفر
36. إذا زمزم الحادي بذكر صفاتهـا
وصرح ما كنَّى ونادى، نأى الصبر
37. وقال: اسقني خمراً وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سراً، إذا أمكن الجهــر
38. وصرِّحْ بمن تهوى ودعْني من الكِنى
فلا خير في اللذات من دونها ستر
39. ترى سائقيها كيف هامت عقولهـم
ونازلهم بَسْطٌ وخامرهم سكــــر
40. وتاهوا فلم يدروا من التيه من هــم
وشمس الضحى من تحت أقدامهم عفـر
41. وقالوا: فمن يُرجَى من الكون غيرنا
فنحن ملوك الأرض لا البيض ولا الحمر
42. تميد بهم كأسٌ بها قد تولهـــوا
فليس لهم عُرْفٌ وليس لهم نكــر
43. حيارى فلا يدرون أين توجهــوا
فليس لهم ذكر، وليس لهم فكــر
44. فيطربهم برق تألق بالحمـــى
ويرقصهم رعد بسلع لــه أزر
45. ويسكرهم طيب النسيم إذا سـرى
تظن بهم سحرا ولي بهمُ سحــر
46. وتبكيهم وِرْق الحمائم في الدجـى
إذا ما بكت من ليس يدري لها وكر
47. بحزن وتلحين تجاوبتا بمـــا
تذوب له الأكباد والجلمد الصخـر
48. وتسبيهم غزلان رامة، إن بــدت
وأحداقها بيض وقاماتها سمــر
49. وفي شمّها - حقا - بذلنـا نفوسنـا
فهان علينا كل شيء له قــدْر
50. وملْنا عن الأوطان والأهـل جملـة
فلا قاصرات الطرف تثني ولا القصْر
ويرقصهم رعد بسلع لــه أزر
45. ويسكرهم طيب النسيم إذا سـرى
تظن بهم سحرا ولي بهمُ سحــر
46. وتبكيهم وِرْق الحمائم في الدجـى
إذا ما بكت من ليس يدري لها وكر
47. بحزن وتلحين تجاوبتا بمـــا
تذوب له الأكباد والجلمد الصخـر
48. وتسبيهم غزلان رامة، إن بــدت
وأحداقها بيض وقاماتها سمــر
49. وفي شمّها - حقا - بذلنـا نفوسنـا
فهان علينا كل شيء له قــدْر
50. وملْنا عن الأوطان والأهـل جملـة
فلا قاصرات الطرف تثني ولا القصْر
تحليل القصيدة:
ورد في تحليل هذه القصيدة لعبد الرزاق بن السبع أن الامير عبد القادر، في قصيدته "أستاذي الصوفي التي أنشدها في مدح شيخه الناسك الصوفي محمد الفاسي والتي" تعتبر من عيون قصائده الموثقة رواية ونسبة" حتى أن د. محمد السيد الوزير يراها أجمل وأطول مدائحه وربما قصائده كلها.
و يعنينا في هذا المقام الأبيات التي يتحدث فيها الشاعر عن الجانب الصوفي وتشوقه إلى المتصوفة بعاطفة قوية جياشة تظهر ميله لأهل الطريقة التي يمثلها هذا الشيخ
ومن عادة رجال الصوفية أن يرمزوا بالحبيب إلى الذات الإلهية في غالب الأحيان، أو إلى الرسول(ص) تارة أخرى، إلا أن الأمير في قصيدته هذه يرمز بالحبيب إلى الشيخ محمد الفاسي، اعتقاداً بل يقيناً من الأمير بأن هذا الشيخ لا يعدو أن يكون ولياً صالحاً وعالماً صوفياً من أولئك الذين سلكوا سبيل البشير المصطفى، والذين وصفهم ربهم بقوله:" ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - سورة يونس.آية 62"
فبعد مقدمة القصيدة التي صور فيها حالته البائسة الكنود، بلياليه الطوال، وأيامه الداجنة الحبلى بالهجران والفراق والعذاب، لحرمانه من رؤية هذا الشيخ المبارك، لا يلبث أن يقدم الحل فتنفرج أزمته التي خال أن حلقاتها قد استحكمت فيأتيه الفرج من حيث لا يحتسب، فلم يمكث إلا قليلا حتى أتاه البشير يحمل إ'ليه الخبر السعيد، متمثلا في دعوة شيخه له بالحضور إلى مكة المكرمة، فأية بشرى هذه، وأية فرحة تملكت الأمير وهو يتلقى هذا النبأ السعيد، فحالما وصلته، طار به جناح الشوق الذي لا يخشى له كسر، يقطع الفيافي والبراري والسهول فكل شيء يهون، ولا بد أن تتم الرحلة مهما اشتدت الصعاب وتراكمت العقبات، إنه الأمل الذي عاش الأمير يعد له الأيام والليالي فليحققه وليكن ما يكن، صحيح إن الدرب شاق والسفر طويل ومضني لكن الغاية والهدف أسمى وأجل أن تقف أمامها النوائب والمعوقات، فكل شيء يرخص في سبيل اللقاء والوصال، إلى أن وصل الشاعر إلى بطاح مكة المكرمة التي شرفها المولى وأعزها ورفع مقامها وقدرها ببيته العتيق، وكعبتها المشرفة، فتسامت بذلك مجداً وعلواً فلا يدانيها فخر ولا مجد، وأمام هذا المشهد الرهيب المهيب، يقف عبدالقادر متدبراً في آيات الله وحكمته، في أنه جعل بيته المعظم حرماً آمناً يحرم فيه الصيد مع أنه مباح ومشروع في بقية أنحاء البسيطة، مستشعراً عظمة المولى تبارك وتعإلى مبدياً فرحه وحبوره، وهو يكرر لفظ «بطاح» وكأننا به يريد أن يصور أو ينقل لنا ذاك الجو الروحي الذي يمتلك النفس وهي تؤم هذه البقاع المشرفة فتزهد في حطام الدنيا وزخرفها لتلج بالروح والجسد في هذا العالم الروحاني المتشبع بالنفحات الإلهية، فلا قلق ولا خوف ولا اضطراب رحمة من رب الأنام" ولمَ لا والإنسان حين يؤم هذه البقاع المشرفة، تدقق ما بينه وبين خالقه الحجب فيغفر له ذنوبه، مصداقاً لقول رسول اله صلى الله عليه وسلم( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وهذا ما عبر الشاعر عنه بقوله: من حلها حاشا أن يبقى له وزر.
ومن عادة الصوفي أن يذيب شخصيته في شخصية المرشد حتى أنه ليؤثر عن ذي النون المصري أنه قال:" طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه ،إلا أن اعتزاز الأمير بنفسه دفعاه إلى أن يساوي نفسه بنفس شيخه ولم لا؟ أليس الأمير سليل الشرف النبوي، والعالم المجاهد التقي الورع فحق له أن يفخر بذلك فهو لم ينس فروسيته ونسبه وخلاله الحميدة.
وقد ورد أن المريد الذي لم يجد الشيخ الذي يتأدب به، ويأخذ عنه الطريقة عليه أن يهاجر إليه ويقيم عنده لا يبرحه حتى يؤذن له، ولكن الأمر هنا اختلف تماما لدى شاعرنا، فالشيخ هو الذي قدم لزيارة عبد القادر نفسه، واعتبر ذلك شرفا له، كما اعتبر الأمير ابناً له بالتبني الصوفي- إن جاز لنا التعبير- بذلك منذ أن خلق الله هذا الكون، فما السر يا ترى وراء هذا ؟ يجيبنا الأمير سريعا بأن هذه المنزلة وهذا الاحترام مرده إلى نسبه الكريم الطاهر الذي منَّ به الله عليه فنعم النسب و يا حبذا الذخر.
ومن عادة الصوفي أن يذيب شخصيته في شخصية المرشد حتى أنه ليؤثر عن ذي النون المصري أنه قال:" طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه ، إلا أن اعتزاز الأمير بنفسه دفعاه إلى أن يساوي نفسه بنفس شيخه ولم لا؟ أليس الأمير سليل الشرف النبوي، والعالم المجاهد التقي الورع فحق له أن يفخر بذلك فهو لم ينس فروسيته ونسبه وخلاله الحميدة.
وقد ورد أن المريد الذي لم يجد الشيخ الذي يتأدب به، ويأخذ عنه الطريقة عليه أن يهاجر إليه ويقيم عنده لا يبرحه حتى يؤذن له، ولكن الأمر هنا اختلف تماما لدى شاعرنا، فالشيخ هو الذي قدم لزيارة عبد القادر نفسه، واعتبر ذلك شرفا له، كما اعتبر الأمير ابناً له بالتبني الصوفي- إن جاز لنا التعبير- بذلك منذ أن خلق الله هذا الكون، فما السر يا ترى وراء هذا ؟ يجيبنا الأمير سريعا بأن هذه المنزلة وهذا الاحترام مرده إلى نسبه الكريم الطاهر الذي منَّ به الله عليه فنعم النسب و يا حبذا الذخر.
ورد في تحليل هذه القصيدة لعبد الرزاق بن السبع أن الامير عبد القادر، في قصيدته "أستاذي الصوفي التي أنشدها في مدح شيخه الناسك الصوفي محمد الفاسي والتي" تعتبر من عيون قصائده الموثقة رواية ونسبة" حتى أن د. محمد السيد الوزير يراها أجمل وأطول مدائحه وربما قصائده كلها.
و يعنينا في هذا المقام الأبيات التي يتحدث فيها الشاعر عن الجانب الصوفي وتشوقه إلى المتصوفة بعاطفة قوية جياشة تظهر ميله لأهل الطريقة التي يمثلها هذا الشيخ
ومن عادة رجال الصوفية أن يرمزوا بالحبيب إلى الذات الإلهية في غالب الأحيان، أو إلى الرسول(ص) تارة أخرى، إلا أن الأمير في قصيدته هذه يرمز بالحبيب إلى الشيخ محمد الفاسي، اعتقاداً بل يقيناً من الأمير بأن هذا الشيخ لا يعدو أن يكون ولياً صالحاً وعالماً صوفياً من أولئك الذين سلكوا سبيل البشير المصطفى، والذين وصفهم ربهم بقوله:" ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون - سورة يونس.آية 62"
فبعد مقدمة القصيدة التي صور فيها حالته البائسة الكنود، بلياليه الطوال، وأيامه الداجنة الحبلى بالهجران والفراق والعذاب، لحرمانه من رؤية هذا الشيخ المبارك، لا يلبث أن يقدم الحل فتنفرج أزمته التي خال أن حلقاتها قد استحكمت فيأتيه الفرج من حيث لا يحتسب، فلم يمكث إلا قليلا حتى أتاه البشير يحمل إ'ليه الخبر السعيد، متمثلا في دعوة شيخه له بالحضور إلى مكة المكرمة، فأية بشرى هذه، وأية فرحة تملكت الأمير وهو يتلقى هذا النبأ السعيد، فحالما وصلته، طار به جناح الشوق الذي لا يخشى له كسر، يقطع الفيافي والبراري والسهول فكل شيء يهون، ولا بد أن تتم الرحلة مهما اشتدت الصعاب وتراكمت العقبات، إنه الأمل الذي عاش الأمير يعد له الأيام والليالي فليحققه وليكن ما يكن، صحيح إن الدرب شاق والسفر طويل ومضني لكن الغاية والهدف أسمى وأجل أن تقف أمامها النوائب والمعوقات، فكل شيء يرخص في سبيل اللقاء والوصال، إلى أن وصل الشاعر إلى بطاح مكة المكرمة التي شرفها المولى وأعزها ورفع مقامها وقدرها ببيته العتيق، وكعبتها المشرفة، فتسامت بذلك مجداً وعلواً فلا يدانيها فخر ولا مجد، وأمام هذا المشهد الرهيب المهيب، يقف عبدالقادر متدبراً في آيات الله وحكمته، في أنه جعل بيته المعظم حرماً آمناً يحرم فيه الصيد مع أنه مباح ومشروع في بقية أنحاء البسيطة، مستشعراً عظمة المولى تبارك وتعإلى مبدياً فرحه وحبوره، وهو يكرر لفظ «بطاح» وكأننا به يريد أن يصور أو ينقل لنا ذاك الجو الروحي الذي يمتلك النفس وهي تؤم هذه البقاع المشرفة فتزهد في حطام الدنيا وزخرفها لتلج بالروح والجسد في هذا العالم الروحاني المتشبع بالنفحات الإلهية، فلا قلق ولا خوف ولا اضطراب رحمة من رب الأنام" ولمَ لا والإنسان حين يؤم هذه البقاع المشرفة، تدقق ما بينه وبين خالقه الحجب فيغفر له ذنوبه، مصداقاً لقول رسول اله صلى الله عليه وسلم( من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)، وهذا ما عبر الشاعر عنه بقوله: من حلها حاشا أن يبقى له وزر.
ومن عادة الصوفي أن يذيب شخصيته في شخصية المرشد حتى أنه ليؤثر عن ذي النون المصري أنه قال:" طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه ،إلا أن اعتزاز الأمير بنفسه دفعاه إلى أن يساوي نفسه بنفس شيخه ولم لا؟ أليس الأمير سليل الشرف النبوي، والعالم المجاهد التقي الورع فحق له أن يفخر بذلك فهو لم ينس فروسيته ونسبه وخلاله الحميدة.
وقد ورد أن المريد الذي لم يجد الشيخ الذي يتأدب به، ويأخذ عنه الطريقة عليه أن يهاجر إليه ويقيم عنده لا يبرحه حتى يؤذن له، ولكن الأمر هنا اختلف تماما لدى شاعرنا، فالشيخ هو الذي قدم لزيارة عبد القادر نفسه، واعتبر ذلك شرفا له، كما اعتبر الأمير ابناً له بالتبني الصوفي- إن جاز لنا التعبير- بذلك منذ أن خلق الله هذا الكون، فما السر يا ترى وراء هذا ؟ يجيبنا الأمير سريعا بأن هذه المنزلة وهذا الاحترام مرده إلى نسبه الكريم الطاهر الذي منَّ به الله عليه فنعم النسب و يا حبذا الذخر.
ومن عادة الصوفي أن يذيب شخصيته في شخصية المرشد حتى أنه ليؤثر عن ذي النون المصري أنه قال:" طاعة المريد لشيخه فوق طاعته لربه ، إلا أن اعتزاز الأمير بنفسه دفعاه إلى أن يساوي نفسه بنفس شيخه ولم لا؟ أليس الأمير سليل الشرف النبوي، والعالم المجاهد التقي الورع فحق له أن يفخر بذلك فهو لم ينس فروسيته ونسبه وخلاله الحميدة.
وقد ورد أن المريد الذي لم يجد الشيخ الذي يتأدب به، ويأخذ عنه الطريقة عليه أن يهاجر إليه ويقيم عنده لا يبرحه حتى يؤذن له، ولكن الأمر هنا اختلف تماما لدى شاعرنا، فالشيخ هو الذي قدم لزيارة عبد القادر نفسه، واعتبر ذلك شرفا له، كما اعتبر الأمير ابناً له بالتبني الصوفي- إن جاز لنا التعبير- بذلك منذ أن خلق الله هذا الكون، فما السر يا ترى وراء هذا ؟ يجيبنا الأمير سريعا بأن هذه المنزلة وهذا الاحترام مرده إلى نسبه الكريم الطاهر الذي منَّ به الله عليه فنعم النسب و يا حبذا الذخر.
على أن عبد القادر سرعان ما يتدارك الأمر ويعود ذلك المريد الذليل التابع لشيخه، يطيعه الطاعة العمياء، فالأمير ليس مبالغا إن صرح بأنه قبل أقدام بساط هذا العارف بالله عند مثوله بين يديه بعد طول انتظار له من شيخه،على أن هذا الخضوع والانحناء والتذلل قد أتى أكله، فها هو شيخه يرمى له بالبشارة فأفضى إليه بالسر، وبذلك قضي أمراً كان مقدراً للأمير، فنال به البركة، وأصبح أهلاً لأن يعد من المتصوفة، فكأن حاله كان كنحاس لا قيمة له ثم جاء هذا الشيخ فحوله إلى ذهب خالص يتهافت الناس لامتلاكه.
وما هذا التقدير والإجلال لهذا الشيخ إلا لكونه ذا شمائل وأخلاق سامية فهو حريص على هذي الخلائق رحيم بهم بر عطوف، لأنه خبير بأحوالهم ومعاناتهم فقد أعطى مطلق الحرية في الحكم والتصريف اعتقادا من الأمير بأن هذه القوى الهائلة التي منحت لشيخه، مستمدة من الرسول صلى اللــه عـليـه وسـلـم الـذي وصـفـه رب الـعـزة بقوله:"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم- سورة التوبة.
وينتهي شريط العذاب والقلق حين يطأ الأمير ربوع الحجاز، فتكتحل مقلتاه بمرأى قداستها وطهارتها، إنها البلد التي نشأ بها شيخه، وترعرع بين جنباتها، يحن اليها الناس وتهفو لها أرواح الصوفي العشاق، لأنها "رمز للحبيب الأول والأخير وهو الله، فهذه مكة أشرف وأقدس الحواضر، لا يطاولها في مجدها شمس ولا قمر، ولا يبلغ ذروة جلالها طير ولا نسر، فيها البيت العتيق مهبط الوحي الأول، وعلى أديمها نشأ الحبيب المصطفى، وبين وديانها وشعبها، انتشرت دعوة " لا إله إلا الله محمد رسول الله"،ولذلك فلا عجب أن تهوي اليها أفئدة المؤمنين ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله في أيام معلومات، يطوفون حول البيت العتيق،و ذلك لعمري منتهى الأمل عند كل مسلم على أن للأمير والقوم كعبة أخرى لا طواف إفاضة لها ولا قدوم ولا ركن فيهاولا حجر، تهوي لها قلوب الصوفية، ينهلون من منابيع الحب الإلهي، والعشق الرباني فشتان إذن ما بين الحجيجين، فالأول قد أدى مناسك ربه، فله أجر ما أحرم وطاف وسعى ووقف، أماالثاني فقد نال الملك والسلطان والعز في رحاب القدس الأعلى والنور الأسنى.
ويتعجب عبدالقادر أشد العجب من أولئك الذين كان مقصدهم البيت ومبتغاهم الكعبة ويميلون عن الجانب، وهي الحضرة المباركة تنبع وتشع أسمى الخلال والفضائل الربانية، ففيها تلقى الجود والكرم والخير العميم بدون حساب، ولا تسل عما أعد فيها
من رياض زاهرات بمعارف وعلوم ربانية، لمن كان له الحظ في الارتشاف من ينابيعها، والتزود منها، فياحبذا الفضل، فطوبى لمن كان نصيبه هذا الخير الذي لا عين رأته ولا أذن سمعت به ولا خطر على بال بشر.
ثم يعرض الأمير للحديث عن الخمر التي كثيرا ما تغنى بها الصوفيون وسكروا بها، فهي ليست خمر دنيا وما فيها من إثم وفواحش كما وصفها رب العزة، بل إن الخمر المقصودة هنا"الخمر الإلهي الذي لم تعتصره يد البشر وليس بسكر حقيقة، لا يقصدون الخمر الذي يذهب العقل ويطير الفؤاد ويذهل الإنسان، إنما سكر هؤلاء العشاق من وقدة الحب، وحرقة الجوى، ولذة الوصال والقرب من الله العلي القهار ولذلك نرى شاعرنا الصوفي يفيض في وصف أثرها الحسى والروحي .
ويشفق الأمير تارة، ويتحسر أخرى على أولئك الذين حرموا شربها،حتى الملوك والعلماء لو هبت عليهم ريحها ورأوا ختم إنائها لزهدوافيما هم فيه لأنها عين الصواب والحق، فهي العلم كل العلم.
ويشرف في خاطر الأمير ذلك التوارث العرفاني دون انقطاع عن طلب العلم، فهذه الخمر عنده هي العلم ومركزه، وكل ما حولها يدور في فلكها، لذلك فلا يقربها إلا من خبرها وعرف قيمتها وهو-الصوفي- أما غيره فلا يفقهون من أمرها شيئا، قد فاتهم الربح،وحقت عليهم الخسارة في الدنيا حين صرفوا عنها ولم يشربوها.
ويبلغ الشاعر درجة كبيرة من التقليد حين يأتى بأبيات أبى نواس في وصفه للخمر العادية، ويضمنها قصيدته . على أن الأمير هنا يلح فيها على فكرة التصريح بالحب
الإلهي، فالاختلاف بينهما هنا في التأويل فقط، وليس عبدالقادر بمبتدع في هذا، فقد سبقه إلى ذلك كثير من الشعراء المتصوفة" فالخمريات منبع فوار من منابع الأدب الصوفي، يكفي أن نورد لأمير الخمر أبي نواس قصيدة لا تختلف عن خمريات الصوفية المتأخرين إلا بالتأويل فقط، فقد سار شعراء الصوفية في الخمريات على آثاره وغرفوا من عبقريته وعبقرية أقرانه، يقول الأمير.
ثم يخلص للحديث عن تأثير هذه الخمر فى شاربيها من المتصوفة فيصور لنا حالاتهم في لوحات معبرة، فقد هامت عقولهم، ودب في نفوسهم الانشراح والانبساط فتراهم سكارى وماهم بسكارى بنشوة هذه الخمر لا يدرون بشيء مما جرى حولهم غمرتهم سعادة طاغية، فأفقدتهم الإحساس بالواقع المادي، أعرضوا عن زينة الدنيا فتسامت أنفسهم، وحلقت أرواحهم في الآفاق، يسبحون في ملكوت القدس الأعلى، هم ملوك الأرض وسادة الأنام، بهم الرجاء وعليهم الأمل، فقدوا الشعور بعالمهم الأرضي فهم حيارى، لا يعرفون لهم سبيلا، ليس لهم ذكر ولا فكر، فكل ما هناك أرواح شفافة هائمة في عالم غريب لا يدركه إلا من عب واغترف من هذا النبع.
ولهؤلاء الندمان السكارى موسيقاهم الخاصة فهم لا يطربون لغيرها يرون جمال اللحن وحلاوته في أصوات آيات الله فى كونه، فيطربون إذا ومض البرق، ويرقصون إذا قصف الرعد، يهب عليهم طيب النسيم فيز يدفي سكرهم ونشوتهم، حتى لكأنهم مسحورون، وما بهم إلا سحر الطبيعة وجمالها، ولرهافة إحساسهم وشعورهم، فهم يتأثرون لنشيج وحزن أضعف مخلوقات الله فيبكيهم هديل الحمام في الدجى، يسكبون دموع الرحمة والخوف والخشية، فيختلط هذا البكاء بذاك الطرب في النفس الصوفية، فتذوب له أكبادهم، وتقشعر منه جلودهم مهما بلغت القوة ورباطة الجأش. وعلى الرغم من قوة الصوفي وشدة احتماله، إلا أنه يضعف أمام ظباء وغزلان"رامة" حين تتبدى له بقاماتها الهيفاء، وعيونها الجميلة الأخاذة، فتسلب الأفئدة وتأسر الألباب، فلا ترى إلا عشاقاً يهيمون حباً ويذوبون شوقاً للقاء.
ويعرج بنا عبدالقادر للحديث عن معاناته وماقاساه في سبيل الحصول على هذه الخمر، التي أطنب في وصفها وذكر محاسنها، فقد ضحى بكل غال ونفيس من أجل غايته، فهانت الدنيا في عينيه، هجر الأهل والأحباب والغيد الحسان، وصارع العوادي والعدا، فلم تثنه الطبيعة بجبالها، وبحارها، وصحاريها عن مواصلة المشوار وبلوغ ماتاقت إليه، فلا أحد كائنا من كان ومهما بلغت محبته ودرجته عند عبدالقادر، يقدر على أن يرده عن قصده أليس هذا النوع من الحب والتضحية منتهى الفروسية الحقة.
وما هذا التقدير والإجلال لهذا الشيخ إلا لكونه ذا شمائل وأخلاق سامية فهو حريص على هذي الخلائق رحيم بهم بر عطوف، لأنه خبير بأحوالهم ومعاناتهم فقد أعطى مطلق الحرية في الحكم والتصريف اعتقادا من الأمير بأن هذه القوى الهائلة التي منحت لشيخه، مستمدة من الرسول صلى اللــه عـليـه وسـلـم الـذي وصـفـه رب الـعـزة بقوله:"لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم- سورة التوبة.
وينتهي شريط العذاب والقلق حين يطأ الأمير ربوع الحجاز، فتكتحل مقلتاه بمرأى قداستها وطهارتها، إنها البلد التي نشأ بها شيخه، وترعرع بين جنباتها، يحن اليها الناس وتهفو لها أرواح الصوفي العشاق، لأنها "رمز للحبيب الأول والأخير وهو الله، فهذه مكة أشرف وأقدس الحواضر، لا يطاولها في مجدها شمس ولا قمر، ولا يبلغ ذروة جلالها طير ولا نسر، فيها البيت العتيق مهبط الوحي الأول، وعلى أديمها نشأ الحبيب المصطفى، وبين وديانها وشعبها، انتشرت دعوة " لا إله إلا الله محمد رسول الله"،ولذلك فلا عجب أن تهوي اليها أفئدة المؤمنين ليشهدوا منافع لهم ويذكروا الله في أيام معلومات، يطوفون حول البيت العتيق،و ذلك لعمري منتهى الأمل عند كل مسلم على أن للأمير والقوم كعبة أخرى لا طواف إفاضة لها ولا قدوم ولا ركن فيهاولا حجر، تهوي لها قلوب الصوفية، ينهلون من منابيع الحب الإلهي، والعشق الرباني فشتان إذن ما بين الحجيجين، فالأول قد أدى مناسك ربه، فله أجر ما أحرم وطاف وسعى ووقف، أماالثاني فقد نال الملك والسلطان والعز في رحاب القدس الأعلى والنور الأسنى.
ويتعجب عبدالقادر أشد العجب من أولئك الذين كان مقصدهم البيت ومبتغاهم الكعبة ويميلون عن الجانب، وهي الحضرة المباركة تنبع وتشع أسمى الخلال والفضائل الربانية، ففيها تلقى الجود والكرم والخير العميم بدون حساب، ولا تسل عما أعد فيها
من رياض زاهرات بمعارف وعلوم ربانية، لمن كان له الحظ في الارتشاف من ينابيعها، والتزود منها، فياحبذا الفضل، فطوبى لمن كان نصيبه هذا الخير الذي لا عين رأته ولا أذن سمعت به ولا خطر على بال بشر.
ثم يعرض الأمير للحديث عن الخمر التي كثيرا ما تغنى بها الصوفيون وسكروا بها، فهي ليست خمر دنيا وما فيها من إثم وفواحش كما وصفها رب العزة، بل إن الخمر المقصودة هنا"الخمر الإلهي الذي لم تعتصره يد البشر وليس بسكر حقيقة، لا يقصدون الخمر الذي يذهب العقل ويطير الفؤاد ويذهل الإنسان، إنما سكر هؤلاء العشاق من وقدة الحب، وحرقة الجوى، ولذة الوصال والقرب من الله العلي القهار ولذلك نرى شاعرنا الصوفي يفيض في وصف أثرها الحسى والروحي .
ويشفق الأمير تارة، ويتحسر أخرى على أولئك الذين حرموا شربها،حتى الملوك والعلماء لو هبت عليهم ريحها ورأوا ختم إنائها لزهدوافيما هم فيه لأنها عين الصواب والحق، فهي العلم كل العلم.
ويشرف في خاطر الأمير ذلك التوارث العرفاني دون انقطاع عن طلب العلم، فهذه الخمر عنده هي العلم ومركزه، وكل ما حولها يدور في فلكها، لذلك فلا يقربها إلا من خبرها وعرف قيمتها وهو-الصوفي- أما غيره فلا يفقهون من أمرها شيئا، قد فاتهم الربح،وحقت عليهم الخسارة في الدنيا حين صرفوا عنها ولم يشربوها.
ويبلغ الشاعر درجة كبيرة من التقليد حين يأتى بأبيات أبى نواس في وصفه للخمر العادية، ويضمنها قصيدته . على أن الأمير هنا يلح فيها على فكرة التصريح بالحب
الإلهي، فالاختلاف بينهما هنا في التأويل فقط، وليس عبدالقادر بمبتدع في هذا، فقد سبقه إلى ذلك كثير من الشعراء المتصوفة" فالخمريات منبع فوار من منابع الأدب الصوفي، يكفي أن نورد لأمير الخمر أبي نواس قصيدة لا تختلف عن خمريات الصوفية المتأخرين إلا بالتأويل فقط، فقد سار شعراء الصوفية في الخمريات على آثاره وغرفوا من عبقريته وعبقرية أقرانه، يقول الأمير.
ثم يخلص للحديث عن تأثير هذه الخمر فى شاربيها من المتصوفة فيصور لنا حالاتهم في لوحات معبرة، فقد هامت عقولهم، ودب في نفوسهم الانشراح والانبساط فتراهم سكارى وماهم بسكارى بنشوة هذه الخمر لا يدرون بشيء مما جرى حولهم غمرتهم سعادة طاغية، فأفقدتهم الإحساس بالواقع المادي، أعرضوا عن زينة الدنيا فتسامت أنفسهم، وحلقت أرواحهم في الآفاق، يسبحون في ملكوت القدس الأعلى، هم ملوك الأرض وسادة الأنام، بهم الرجاء وعليهم الأمل، فقدوا الشعور بعالمهم الأرضي فهم حيارى، لا يعرفون لهم سبيلا، ليس لهم ذكر ولا فكر، فكل ما هناك أرواح شفافة هائمة في عالم غريب لا يدركه إلا من عب واغترف من هذا النبع.
ولهؤلاء الندمان السكارى موسيقاهم الخاصة فهم لا يطربون لغيرها يرون جمال اللحن وحلاوته في أصوات آيات الله فى كونه، فيطربون إذا ومض البرق، ويرقصون إذا قصف الرعد، يهب عليهم طيب النسيم فيز يدفي سكرهم ونشوتهم، حتى لكأنهم مسحورون، وما بهم إلا سحر الطبيعة وجمالها، ولرهافة إحساسهم وشعورهم، فهم يتأثرون لنشيج وحزن أضعف مخلوقات الله فيبكيهم هديل الحمام في الدجى، يسكبون دموع الرحمة والخوف والخشية، فيختلط هذا البكاء بذاك الطرب في النفس الصوفية، فتذوب له أكبادهم، وتقشعر منه جلودهم مهما بلغت القوة ورباطة الجأش. وعلى الرغم من قوة الصوفي وشدة احتماله، إلا أنه يضعف أمام ظباء وغزلان"رامة" حين تتبدى له بقاماتها الهيفاء، وعيونها الجميلة الأخاذة، فتسلب الأفئدة وتأسر الألباب، فلا ترى إلا عشاقاً يهيمون حباً ويذوبون شوقاً للقاء.
ويعرج بنا عبدالقادر للحديث عن معاناته وماقاساه في سبيل الحصول على هذه الخمر، التي أطنب في وصفها وذكر محاسنها، فقد ضحى بكل غال ونفيس من أجل غايته، فهانت الدنيا في عينيه، هجر الأهل والأحباب والغيد الحسان، وصارع العوادي والعدا، فلم تثنه الطبيعة بجبالها، وبحارها، وصحاريها عن مواصلة المشوار وبلوغ ماتاقت إليه، فلا أحد كائنا من كان ومهما بلغت محبته ودرجته عند عبدالقادر، يقدر على أن يرده عن قصده أليس هذا النوع من الحب والتضحية منتهى الفروسية الحقة.
إرسال تعليق