اعتمد النص الروائي : المعاصر على التداخل الزماني والمكاني، الأمر الذي أدى إلى دينامية النص وتعدد دلالته، وأهم الروايات التي اعتمدت على هذا
التداخل هي :
الأسوار، وإمام آخر الزمان لمحمد جبريل، وكتاب التجليات " الأسفار والثلاثة " لجمال الغيطاني، ولا تسقني وحدي لسعد مكاوي. وليلة القدر لطاهر بن جلون، ورامة والتنين ولإدوار الخراط، فساد الأمكنة لصبري موسى، الحصار لفوزية رشيد، وموت الحلزون لوليد اخلاصي، سكر مر وعين وسمكة لمحمود عوض عبد العال، ضوضاء الذاكرة الخرساء لحمدي البطران، من البحار القديم إليك لدلال خليفة وغيرهم ونقف عند التجليات، ومن البحار القديم إليك على سبيل التمثيل لا الحصر.
فن التجليات " مزح الغيطاني بين الزمنين الداخلي والخارجي معا ويعني بالزمن الداخلي زمن أحداث الرواية والخارجي يعني به زمن كتابة الرواية، فاستحضر المرحلة الزمنية التي عاش فيها محي الدين بن عربي، وجمال عبد الناصر، ووالده وشكل بينهم حوارا ويتحسرون على الواقع الذي آل إليه المجتمع المصري والعربي من حيث توقيع الإتفاقيات والمعاهدات مع العدو الذي سفك دم الأبرياء فوق تراب وطنهم المسلوب، ويمزج بين الزمنين ليحمل الزمن الداخلي دلالة الزمن الخارجي ومن هنا يكتسب النص هذه الحراكية تبعا لحركية الأزمنة والأبنية الداخلية في الرواية، فعندما يستحضر الراوي ميلاده أو ميلاد أبيه يتداعى على الفور عليه ميلاد الحسين، شاكيا رحيله الدائم ورحيل آبائه وأجداده. ولحظات الميلاد عنده عقيمة لأنها محاطة بسياج وأسوار من حديد سواء كان الميلاد الحاضر أو الماضي.
وهذا التوتر بين الماضي والحاضر يكسب النص حركية من خلال تعدو المعاني والإيحاءات اللغوية وانسيابها ما بين الماضي والحاضر. كما أن للشاهد الروائية تتداخل بتداخل الزمان والمكان في لحظة حاضرة يعيشها الراوي هي لحظة الحضور حيث يتداعى مشهد مقتل الحسين في كربلاء ومقتل الشاعر مازن جودت برصاص العدو الصهيوني في مرتفعات طوباس.
وهنا يأتي التشكيل الزمني متوافقا مع ديمومة الزمن المستمرة، فيجد الراوي حركية التتابع الزمني من خلال مزج الماضي بالحاضر وما يتبعه من إسقاط رمزي وإيحائي، حيث يحل الضعف بدلا من عصور القوة ويقتل الأبرياء الذين يطالبون بعودة الحق والعدل والحرية، فما يزال أمية بن هند يدس السم للحسين، وما تزال أمه تمضغ كبد حمزة عم الرسول، فيكسب النص بذلك حركية وحيوية وتفاعلا نتيجة مزج (الماضي بالحاضر).
ويتشكل المكان أيضا وفقا لتشكل الزمان، فيصبح المكان رمزيا يعبر عن السقوط والضياع العربي في كربلاء وفي نكسة 1967، وقد يعبر عن عدمية الذات وضياع الوطن.
وقد يصل استحضار الأمكنة والأزمنة في زمن الحضور إلى حد التوحد فتصبح عذابات الراوي هي عذابات الحسين، ودماء شهداء فلسطين هي دماء شهداء كربلاء ويحمل الماضي مدلولا عصرية، وتصبح روح خالد المقاتل كالنجم النوراني يتلألأ في السماء ويحث على الخلاص.
ويتشكل الزمن أيضا في رواية من البحار القديم إليك ويأخذ أبعادا دلالية رمزية مستحدثة من حيث اتجاه الزمن وترتيبه وتواتره وديمومته.
ومن ثم تناولنا لمستويات الزمن في رواية دلال خليفة يدور حول خمسة محاور هي :
1- الترتيب الزمني. 2- التواتر الزمني.
3- الديمومة الزمنية. 4- الإتجاه الزمني.
5- الزمن والذات.
أولا : الترتيـب الزمنــي
ويعني به مدى التتابع الزمني للأحداث في النص الروائي وموافقته لترتيب الأحداث في الحكاية. أي التناسب العكسي أو الطردي بين الأحداث في سياق الرواية وترتيبها من الواقع الحكائي، ويحدث ذلك عن طريق سرد الراوي للأحداث، ثم يتوقف ليسترجع أحداث ماضية أو يستبق أحداثا لم تقع بعد، أو تسير الأحداث في الرواية متوافقة مع ترتيبها في الواقع، وهنا يكون التناسب طرديا بينما يكون عكسيا في حالتي الإسترجاع أو الإستباق. ومن ثم نقسم الترتيب الزمني إلى مستويين : الأول : اللواحق الزمنية، والثاني السوابق الزمنية.
ويعني به مدى التتابع الزمني للأحداث في النص الروائي وموافقته لترتيب الأحداث في الحكاية. أي التناسب العكسي أو الطردي بين الأحداث في سياق الرواية وترتيبها من الواقع الحكائي، ويحدث ذلك عن طريق سرد الراوي للأحداث، ثم يتوقف ليسترجع أحداث ماضية أو يستبق أحداثا لم تقع بعد، أو تسير الأحداث في الرواية متوافقة مع ترتيبها في الواقع، وهنا يكون التناسب طرديا بينما يكون عكسيا في حالتي الإسترجاع أو الإستباق. ومن ثم نقسم الترتيب الزمني إلى مستويين : الأول : اللواحق الزمنية، والثاني السوابق الزمنية.
1/- اللواحـق الزمنيــة :
ويعني بها الأحداث المستقبلية أو اللاحقة التي لم يحن ورودها بعد في النقطة الزمنية التي بلغها السرد، وهذه الأحداث نجدها ضئيلة قياسا بالسوابق السردية، لأنها ترتبط بالأحلام المستقبلية التي تبغي الراوية (نورة) تحقيقها، ويبدو أن طغيان استحضار الواقع على وعي نورة، كان وراء وأد الأحلام المستقبلية، وتتضح اللواحق الزمنية –على سبيل التمثيل- في اقتراب لحظة وداع نورة لدونالد، وطغيان عالم الواقع على العالم الحالم، لذلك تقول نورة : وجلسنا في أحد الأيام في الحديقة العامة، وتحدثنا عن سفري القريب كان دونالد يحدق في الأفق وهو يتكلم بصوت منخفض، وكنت أجيبه وأنا أنظر إلى الأفق وكأننا نتحدث عبر أسلاك الهاتف قلت له بصورة منخفض لقد اكتشفت أن العالم الذي نعيش فيه عالمان حقا كما يقولون، أحدهما عالم حقيقي واقعي به أشياء كثيرة منها الوقت المجهد الذي أقضيه في المكتبة والمنزل أثناء عملي في رسالة الدكتوراه، والآخر عالم حالم شفاف هش كتلك السحب العالية، ولا توجد فيه إلا الأشياء المحببة إلينا، أنت يا دونالد تنتمي لذلك العالم ". ص 89-90
ومن الواضح من خلال السياق الكلي للنص الروائي، أن الواقع الحقيقي ليس هو الواقع الظاهر الذي تشير إليه نورة، وهو واقع المكتبة والكتب والرسالة العلمية لكنه الواقع الذي يحول بينها وبين تحقيق ما تريد. إن السفر القريب يتداعى عليها قبل حدوثه، لكنها في لحظة التداعي تستحضر كل لحظات الدفء الجميلة التي قضتها مع دونالد، وتشعر أن الواقع الحقيقي الذي تنتمي إليه يحول بينها وبين ما تريد ومن ثم تجسد لحظة اللقاء طغيان الواقع على الحلم، ووأد لحظة المستقبل. ويتحقق هذا الوأد عندما تعود نورة لموطنها الأصلي، وتشعر بعدم جدوى المستقبل الآتي الذي يجمعها بدونالد، وحينئذ تقوم بحرق الرسائل. وبرغم حرقها للرسائل إلا أنها تستحضر كل مواقفها مع دونالد، مما يدل على أن الحرق هو ما يتطلبه الواقع الحقيقي المعيش، لكن التداعي لا يستطيع أحد منعها منه، لأنه الشيء الوحيد الذي تستطيعه دون أن ينازعها فيه أحد. ولذلك تتداعى صورة دونالد على نورة طوال الرواية.
ويعني بها الأحداث المستقبلية أو اللاحقة التي لم يحن ورودها بعد في النقطة الزمنية التي بلغها السرد، وهذه الأحداث نجدها ضئيلة قياسا بالسوابق السردية، لأنها ترتبط بالأحلام المستقبلية التي تبغي الراوية (نورة) تحقيقها، ويبدو أن طغيان استحضار الواقع على وعي نورة، كان وراء وأد الأحلام المستقبلية، وتتضح اللواحق الزمنية –على سبيل التمثيل- في اقتراب لحظة وداع نورة لدونالد، وطغيان عالم الواقع على العالم الحالم، لذلك تقول نورة : وجلسنا في أحد الأيام في الحديقة العامة، وتحدثنا عن سفري القريب كان دونالد يحدق في الأفق وهو يتكلم بصوت منخفض، وكنت أجيبه وأنا أنظر إلى الأفق وكأننا نتحدث عبر أسلاك الهاتف قلت له بصورة منخفض لقد اكتشفت أن العالم الذي نعيش فيه عالمان حقا كما يقولون، أحدهما عالم حقيقي واقعي به أشياء كثيرة منها الوقت المجهد الذي أقضيه في المكتبة والمنزل أثناء عملي في رسالة الدكتوراه، والآخر عالم حالم شفاف هش كتلك السحب العالية، ولا توجد فيه إلا الأشياء المحببة إلينا، أنت يا دونالد تنتمي لذلك العالم ". ص 89-90
ومن الواضح من خلال السياق الكلي للنص الروائي، أن الواقع الحقيقي ليس هو الواقع الظاهر الذي تشير إليه نورة، وهو واقع المكتبة والكتب والرسالة العلمية لكنه الواقع الذي يحول بينها وبين تحقيق ما تريد. إن السفر القريب يتداعى عليها قبل حدوثه، لكنها في لحظة التداعي تستحضر كل لحظات الدفء الجميلة التي قضتها مع دونالد، وتشعر أن الواقع الحقيقي الذي تنتمي إليه يحول بينها وبين ما تريد ومن ثم تجسد لحظة اللقاء طغيان الواقع على الحلم، ووأد لحظة المستقبل. ويتحقق هذا الوأد عندما تعود نورة لموطنها الأصلي، وتشعر بعدم جدوى المستقبل الآتي الذي يجمعها بدونالد، وحينئذ تقوم بحرق الرسائل. وبرغم حرقها للرسائل إلا أنها تستحضر كل مواقفها مع دونالد، مما يدل على أن الحرق هو ما يتطلبه الواقع الحقيقي المعيش، لكن التداعي لا يستطيع أحد منعها منه، لأنه الشيء الوحيد الذي تستطيعه دون أن ينازعها فيه أحد. ولذلك تتداعى صورة دونالد على نورة طوال الرواية.
2/- السوابـق الزمنيــة :
ويعني بها تداعي الأحداث الماضية أو التي سبق حدوثها في الماضي، واستحضارها في الزمن الحاضر أو في زمن السرد أو في نقطة الصفر الفاصلة بين الزمنين، الماضي والمستقبل.
وهذه السوابق الزمنية تشكل ملمحا بارزا في رواية أشجار البراري البعيدة " لأن جميع أحداث الرواية تعتمد على استحضار الماضي في زمن الحضور، فنجد نورة طوال الرواية تجلس أمام الكومبيوتر، وتستحضر كل الأحداث الماضية التي مرت بها منذ صغرها وحتى مرحلة زواجها وإنجابها لإبنتها روضة التي ضربتها المدرسة.
وتتمثل هذه الأحداث الماضية المتداعية عليها أمام جهاز الكومبيوتر في استحضار نورة لمرحلة طفولتها ومعيشتها مع أختها الكبرى في كنف والدتها وخالتها، وخلافها مع أستاذتها التي تحب الإطناب بينما تحب نورة الإيجاز العلمي الدقيق، وخلافها أيضا مع أستاذها الذي يحث على شيء ويفعل غيره، بينما تعجب بأستاذها الأجنبي الذي يدرسها الكمبيوتر، وتتداعى عليها أيضا صورة زميلاتها اللائي تخرجن، وسفرها إلى بريطانيا لإستكمال الدراسة، وانتحار زميلتها (لانا) وإعدادها رسالة الماجستير، وتعرفها بدونالد وإعجابها به وحبها له، وشعورها بالإحباط لوأد هذا الحب، وعودتها لموطنها الأصلي وتداعيات صورة دونالد عليها بعد العودة.
ومن هنا يمكن القول إنه لا يخلو فصل من فصول الرواية من الإعتماد على حالات التداعي النفسي على نورة وهي في حجرة مكتبها أمام شاشة الكمبيوتر تسجل كل ما تستحضره الذاكرة فالمكان في الرواية ثابت لكن وعي نورة هو الذي يتحرك في الزمان، وهو ما يسمى بالمونتاج الزمان على حد تعبير روبرت همفري حيث يرى :
" أن داتشيز أشار إلى طريقتين في تقديم المونتاج القصصي، الأولى تلك التي يمكن للشخص فيها أن يظل ثابتا في المكان على حين يتحرك وعيه في الزمان، ونتيجة ذلك هي المنوتاج الزمني، أي وضع أفكار من زمن معين على صور أو أفكار من زمن آخر. والطريقة الأخرى -بالطبع- أن يبقى الزمن ثابتا ويتغير العنصر المكاني، الأمر الذي ينتج عنه المونتاج المكاني ".
واستحضار الأحداث الماضية عند دلال خليفة على المونتاج الزمني، لأن ثورة طوال الرواية ثابتة في حجرتها أما الكمبيوتر، ويتحرك وعيها في الزمان، وتسجل كل ما يتداعى عليها من مواقف متماثلة أو متناقضة. وليس أدل على ذلك من أن صورة دونالد تتداعى عليها عودتها إلى موطنها الأصلي، وبخاصة عندما يتقدم لها جاسم، أو الرجل الأمى أو خالد بغية الزواج منها، تقول نورة في أحد المشاهد عندما تضيق بحياة خالد " وتذكرت شيئا قاله لي شخص من منعطف من منعطفات الماضي في أحد الأيام في حديقة من الحدائق أذكر ذلك اليوم جيدا… وقف دونالد يلقم البط قطعا من شطيرته، وجلست أنا أراقب المشهد على مقعد حدائق خشبي غير بعيد… التفت إلي دونالد، وكان يتأمل في سكون، وظهرت على وجهه ملامح فيلسوف، إن الحياة أحيانا لا تتيح للإنسان أكثر من فرصة واحدة لمقابلة نصفه الآخر الذي يوافقه تماما. ص 126
وهكذا تشكل السوابق الزمنية محورا بارزا في كل الرواية، على حين أن اللواحق تأتي ضئيلة، لأن الواقع الحياتي المعيش لم يسمح للحلم المستقبلي أن ينمو. كما أن طغيان زمن الإستحضار على الإستباق بتوافق مع حالات التداعي للأحداث الماضية التي ظلت نورة تجترها طوال الرواية، لتكون تعويضا عن حالات الفقد المعاصر، أي فقد الحلم المرجو والمتمثل في تطلها لدونالد.
ويعني بها تداعي الأحداث الماضية أو التي سبق حدوثها في الماضي، واستحضارها في الزمن الحاضر أو في زمن السرد أو في نقطة الصفر الفاصلة بين الزمنين، الماضي والمستقبل.
وهذه السوابق الزمنية تشكل ملمحا بارزا في رواية أشجار البراري البعيدة " لأن جميع أحداث الرواية تعتمد على استحضار الماضي في زمن الحضور، فنجد نورة طوال الرواية تجلس أمام الكومبيوتر، وتستحضر كل الأحداث الماضية التي مرت بها منذ صغرها وحتى مرحلة زواجها وإنجابها لإبنتها روضة التي ضربتها المدرسة.
وتتمثل هذه الأحداث الماضية المتداعية عليها أمام جهاز الكومبيوتر في استحضار نورة لمرحلة طفولتها ومعيشتها مع أختها الكبرى في كنف والدتها وخالتها، وخلافها مع أستاذتها التي تحب الإطناب بينما تحب نورة الإيجاز العلمي الدقيق، وخلافها أيضا مع أستاذها الذي يحث على شيء ويفعل غيره، بينما تعجب بأستاذها الأجنبي الذي يدرسها الكمبيوتر، وتتداعى عليها أيضا صورة زميلاتها اللائي تخرجن، وسفرها إلى بريطانيا لإستكمال الدراسة، وانتحار زميلتها (لانا) وإعدادها رسالة الماجستير، وتعرفها بدونالد وإعجابها به وحبها له، وشعورها بالإحباط لوأد هذا الحب، وعودتها لموطنها الأصلي وتداعيات صورة دونالد عليها بعد العودة.
ومن هنا يمكن القول إنه لا يخلو فصل من فصول الرواية من الإعتماد على حالات التداعي النفسي على نورة وهي في حجرة مكتبها أمام شاشة الكمبيوتر تسجل كل ما تستحضره الذاكرة فالمكان في الرواية ثابت لكن وعي نورة هو الذي يتحرك في الزمان، وهو ما يسمى بالمونتاج الزمان على حد تعبير روبرت همفري حيث يرى :
" أن داتشيز أشار إلى طريقتين في تقديم المونتاج القصصي، الأولى تلك التي يمكن للشخص فيها أن يظل ثابتا في المكان على حين يتحرك وعيه في الزمان، ونتيجة ذلك هي المنوتاج الزمني، أي وضع أفكار من زمن معين على صور أو أفكار من زمن آخر. والطريقة الأخرى -بالطبع- أن يبقى الزمن ثابتا ويتغير العنصر المكاني، الأمر الذي ينتج عنه المونتاج المكاني ".
واستحضار الأحداث الماضية عند دلال خليفة على المونتاج الزمني، لأن ثورة طوال الرواية ثابتة في حجرتها أما الكمبيوتر، ويتحرك وعيها في الزمان، وتسجل كل ما يتداعى عليها من مواقف متماثلة أو متناقضة. وليس أدل على ذلك من أن صورة دونالد تتداعى عليها عودتها إلى موطنها الأصلي، وبخاصة عندما يتقدم لها جاسم، أو الرجل الأمى أو خالد بغية الزواج منها، تقول نورة في أحد المشاهد عندما تضيق بحياة خالد " وتذكرت شيئا قاله لي شخص من منعطف من منعطفات الماضي في أحد الأيام في حديقة من الحدائق أذكر ذلك اليوم جيدا… وقف دونالد يلقم البط قطعا من شطيرته، وجلست أنا أراقب المشهد على مقعد حدائق خشبي غير بعيد… التفت إلي دونالد، وكان يتأمل في سكون، وظهرت على وجهه ملامح فيلسوف، إن الحياة أحيانا لا تتيح للإنسان أكثر من فرصة واحدة لمقابلة نصفه الآخر الذي يوافقه تماما. ص 126
وهكذا تشكل السوابق الزمنية محورا بارزا في كل الرواية، على حين أن اللواحق تأتي ضئيلة، لأن الواقع الحياتي المعيش لم يسمح للحلم المستقبلي أن ينمو. كما أن طغيان زمن الإستحضار على الإستباق بتوافق مع حالات التداعي للأحداث الماضية التي ظلت نورة تجترها طوال الرواية، لتكون تعويضا عن حالات الفقد المعاصر، أي فقد الحلم المرجو والمتمثل في تطلها لدونالد.
ثانيا : التواتـر الزمنــي
ويعني به مجموع العلاقات التكرارية بين زمني النص والحكاية أي العلاقة بين زمن السرد والأحداث المكررة، وتتمثل هذه العلاقة في أربعة مستويات :
الأول : السرد الأحادي للزمن، والثاني : السرد المتعدد للزمن، والثالث : السرد النمطي للزمن.
وقد اتضحت هذه المستويات الأربعة في الرواية، وشكل بعضها ملمحا بارزا فيها، فضلا عن شيوع هذه المستويات في كل مستويات القص الروائي المعاصر.
1/- السرد الأحـادي للزمــن :
وفيه نجد الراوي يسرد مرة واحدة، ما حدث مرة واحدة ونجد هذا المستوى في رواية أشجار البراري ممثلا في بعض الأحداث الزمنية، ومنها نقدها لشخصية المدرس الذي شكلها في صحة الأرقام. ونقدها الآخر كان يحثهم على شككها شيء ويفعل نقيضه، وحدث انتحار زميلتها (لانا)، وحدث تقدم جاسم والرجل الأمي لها بغية الزواج منها، ورفضها لهما، وحدث زواجها بخالد، وإنجابها روضة فكل هذه الأحداث وردت مرة واحدة في العملية السردية وبالتالي لا يرد زمنها إلا مرة واحدة. كما يلاحظ أن أحداث هذا المستوي الزمني لا تشكل ركيزة جوهرية في مسار الأحداث، لكنها تشكل أحداثا ثانوية. أي هناك علاقة بين المستوى الزمني، وتتابع الأحداث، فكلما كان التواتر الزمني متمركزا في نسيج العمل، كلما كان الحدث الدال عليه جوهريا، والعكس صحيح. لكن هذا لا ينفي أهمية المستوى الزمني الأحادي في ترابط أنسجة الرواية، وتضافر أحداثها حتى تشكل النسيج الكلي للعمل. كما أنها تسهم في تشكيل الوظيفة الدلالية للشخصية، ومنها شخصية نورة، فكل هذه الأحداث توضح مدى جدلية المنطق الفعلي المسيطر على شخصية نورة في كل نمط حياتها. حتى في الجانب الأمومي بإستثناء حدث انفعالها لضرب روضة في المدرسة نجدها لا تتأثر كثيرا بمرض طفلها فهد وموته بنفس القدر الذي تأثر به خالد فمن المفترض أن انهيار الأم أكثر من انهيار الأب، لكن الأم هنا تتماسك وتستجمع قواها وتفكر في طريقة تقولها لخالد يمكنه قبولها، وكأنها الهم الأساسي للأم هنا ليس موت الطفل بقدر ما يهمها التفكير في طريقة تخفف وطأة الحزن على الأب تقول : " لذلك فقد أخذت أقاوم أدمعي واستجمع قواي حتى شعرت أنني أصبحت في صلابة الجبل في مواجهته، واقترب مني وفي عينيه تساؤل وقلق شديد وتأملني طويلا ليستشف مني الخبر بما حدث :
- مات ؟ انتهى ؟
ولم أجب ولكنه ردد تلك الكلمات بشفتيه المزرقتين وسط وجه شديد الإصفرار ثم سقط مغشيا عليه " ص 138 وفي لحظة ميلاد طفلتها " روضة " لا ترتسم عليها بهجة الأم بميلاد وليدها، لكنها تشير بالقلق على مستقبلها وهي ما تزال في مهدها تقول : " في مستشفى الولادة قبعت الطفلة في مهدها بجواري وكنت أشعر بعدم الطمأنينة مع ذلك المخلوق الضئيل في مكان غير المنزل، وكنت بين الفينة والفينة أجذب المهد ليكون قريبا من سريري ليس حبا في الطفلة لكن خوفا عليها ولإنعدام شعوري
بالأمان ". ص 133
ومن الواضح هنا أن هذين الحدثين اللذين ورد كل منهما مرة واحدة، ورودا سطحيا على مستوى الحدث والزمن يعبران عن عدم تفاعل الراوية (نورة) بهذه الأحداث نتيجة عدم المعايشة الفنية الحميمة لها. بل إنها منطقت هذه الأحداث وصبغتها صبغة عقلية، برغم أن هذين الحدثين من البديهي أن يطغى فيهما القلب على العقل، أو العاطفة على سلطان العقل وليس أدل على طغيان العقل من أنها تدخل المعلومات الحياتية لمن يتقدم لخطبتها في جهاز الكمبيوتر وترى إجابته، صحيح أنها لم تقتنع بإجابات الكمبيوتر لكن المشروع في الفعل نفسه يدل على سيطرة العقل وحيرة القلب، وحالة الأرق والتخبط الشديد الذي تعيشه نورة، وسنعرض لهذه الجزئية في موضع آخر.
ويعني به مجموع العلاقات التكرارية بين زمني النص والحكاية أي العلاقة بين زمن السرد والأحداث المكررة، وتتمثل هذه العلاقة في أربعة مستويات :
الأول : السرد الأحادي للزمن، والثاني : السرد المتعدد للزمن، والثالث : السرد النمطي للزمن.
وقد اتضحت هذه المستويات الأربعة في الرواية، وشكل بعضها ملمحا بارزا فيها، فضلا عن شيوع هذه المستويات في كل مستويات القص الروائي المعاصر.
1/- السرد الأحـادي للزمــن :
وفيه نجد الراوي يسرد مرة واحدة، ما حدث مرة واحدة ونجد هذا المستوى في رواية أشجار البراري ممثلا في بعض الأحداث الزمنية، ومنها نقدها لشخصية المدرس الذي شكلها في صحة الأرقام. ونقدها الآخر كان يحثهم على شككها شيء ويفعل نقيضه، وحدث انتحار زميلتها (لانا)، وحدث تقدم جاسم والرجل الأمي لها بغية الزواج منها، ورفضها لهما، وحدث زواجها بخالد، وإنجابها روضة فكل هذه الأحداث وردت مرة واحدة في العملية السردية وبالتالي لا يرد زمنها إلا مرة واحدة. كما يلاحظ أن أحداث هذا المستوي الزمني لا تشكل ركيزة جوهرية في مسار الأحداث، لكنها تشكل أحداثا ثانوية. أي هناك علاقة بين المستوى الزمني، وتتابع الأحداث، فكلما كان التواتر الزمني متمركزا في نسيج العمل، كلما كان الحدث الدال عليه جوهريا، والعكس صحيح. لكن هذا لا ينفي أهمية المستوى الزمني الأحادي في ترابط أنسجة الرواية، وتضافر أحداثها حتى تشكل النسيج الكلي للعمل. كما أنها تسهم في تشكيل الوظيفة الدلالية للشخصية، ومنها شخصية نورة، فكل هذه الأحداث توضح مدى جدلية المنطق الفعلي المسيطر على شخصية نورة في كل نمط حياتها. حتى في الجانب الأمومي بإستثناء حدث انفعالها لضرب روضة في المدرسة نجدها لا تتأثر كثيرا بمرض طفلها فهد وموته بنفس القدر الذي تأثر به خالد فمن المفترض أن انهيار الأم أكثر من انهيار الأب، لكن الأم هنا تتماسك وتستجمع قواها وتفكر في طريقة تقولها لخالد يمكنه قبولها، وكأنها الهم الأساسي للأم هنا ليس موت الطفل بقدر ما يهمها التفكير في طريقة تخفف وطأة الحزن على الأب تقول : " لذلك فقد أخذت أقاوم أدمعي واستجمع قواي حتى شعرت أنني أصبحت في صلابة الجبل في مواجهته، واقترب مني وفي عينيه تساؤل وقلق شديد وتأملني طويلا ليستشف مني الخبر بما حدث :
- مات ؟ انتهى ؟
ولم أجب ولكنه ردد تلك الكلمات بشفتيه المزرقتين وسط وجه شديد الإصفرار ثم سقط مغشيا عليه " ص 138 وفي لحظة ميلاد طفلتها " روضة " لا ترتسم عليها بهجة الأم بميلاد وليدها، لكنها تشير بالقلق على مستقبلها وهي ما تزال في مهدها تقول : " في مستشفى الولادة قبعت الطفلة في مهدها بجواري وكنت أشعر بعدم الطمأنينة مع ذلك المخلوق الضئيل في مكان غير المنزل، وكنت بين الفينة والفينة أجذب المهد ليكون قريبا من سريري ليس حبا في الطفلة لكن خوفا عليها ولإنعدام شعوري
بالأمان ". ص 133
ومن الواضح هنا أن هذين الحدثين اللذين ورد كل منهما مرة واحدة، ورودا سطحيا على مستوى الحدث والزمن يعبران عن عدم تفاعل الراوية (نورة) بهذه الأحداث نتيجة عدم المعايشة الفنية الحميمة لها. بل إنها منطقت هذه الأحداث وصبغتها صبغة عقلية، برغم أن هذين الحدثين من البديهي أن يطغى فيهما القلب على العقل، أو العاطفة على سلطان العقل وليس أدل على طغيان العقل من أنها تدخل المعلومات الحياتية لمن يتقدم لخطبتها في جهاز الكمبيوتر وترى إجابته، صحيح أنها لم تقتنع بإجابات الكمبيوتر لكن المشروع في الفعل نفسه يدل على سيطرة العقل وحيرة القلب، وحالة الأرق والتخبط الشديد الذي تعيشه نورة، وسنعرض لهذه الجزئية في موضع آخر.
2/- السرد المتعـدد للزمــن :
ويعني بالسرد أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة ومثال ذلك في رواية " أشجار البراري البعيدة " عقاب المدرسة للتلميذات، فقد ورد العقاب مرة لنورة عندما كانت صغيرة في المدرسة، والثانية لإبنتها روضة وكأن الزمن يعيد نفسه مع الأم والإبنة، فبرغم تغير كل شيء من حولها إن واقعها الزمن لم يتغير، فعقاب المدرسة لنورة نتيجة ميلها للإيجاز وعدم الإسهاب يتكرر مع الإبنة روضة نتيجة نسيانها دفتر المدرسة. ففي الحالة الأولى تقول نورة للمدرسة : " ولكني لا أرى كل ذلك الكلام هاما، إنه ثرثرة طويلة لا فائدة لها يكفي أن تقول المهم " ص 16 وفي الحالة الثانية تقول : " أمس عندما عادت روضة من المدرسة فوجئت بها تخبرني ووالدها، وقد ارتسمت على وجهها ملامح حزينة أن المدرسة ضربتها لأنها نسيت
دفترها ". ص 167
فالزمن هنا يتعدد ولكنه يحمل في كل مرة بعدا جديدا، وكأن الواقع نفس الواقع لم تتغير ملامحه، فما كان يمارس من قهر وهي صغيرة يمارس مع ابنتها. فالوظيفة الدلالية للزمن هنا حول المفاهيم الجديدة التي يحملها البعد الزمني لكل من الأحداث المتعددة، وإذا كان التعدد لا يحمل بعدا دلاليا حينئذ يكون حشوا ولا يشكل لازمة أساسية في بناء الرواية ويؤدي إلى خلل البناء الروائي.
والأحداث التي تعددت في هذه الرواية وتعدد وفقا لها المستوى الزمني قد حملت أبعادا جديدة في كل مرة للتعبير عن قيمة إيحائية وكيفية معينة.
3/- السرد التكراري للزمــن :
ويعني به سرد أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة أو بمعنى آخر رواية حدث واحد بأكثر من أسلوب وأكثر من جهة. وبذلك يتكرر الحدث الواحد بأكثر من طريقة، وقد كان لهذا المستوى نصيب كبير في نسيج الراوية وبنائها، وبخاصة اعتماد الرواية على تكنيك تيار الواعي Stream of Comsciousness ومثال ذلك في رواية " أشجار البراري البعيدة " حدث اختلاف نورة وخالد حول أسلوب المدرسة مع ابنتها وإغلاقها الباب على نفسها وعدم استجابتها لطرقات خالد، هذا الحدث بدأت به الرواية وانتهت به أيضا ونقف عند هذا الحدث في موضع الإتجاه الزمني- وحدث لقاء ودونالد فقد التقت به عديد المرات في أماكن مختلفة سواء في المكتبة أو الكافيتريا أو الحديقة أو في منزل جدته، وحدث إعجابها بأستاذ الكمبيوتر تكرر مرتين دون تغيير، وحدث وقوفها أمام شاشة الكمبيوتر، وتسجيلها المعلومات والتداعيات تكرر في كل فصول الروايــة.
وهذا التكرار له ضرورة فنية في نسيج الراوية لأنه يكون بمثابة الوميض الذي يشع على وعي نورة في سردها للأحداث، وأهم هذه الأحداث المكررة حدث لقاء نورة بدودنالد، فهو يشكل لازمة في معظم بناء الرواية لما لهذه الشخصية من حضور في وعي نورة. وبالتالي يصبح التكرار الزمني لهذه الأحداث متوافقا مع أهمية الشخصية ومع الحالات الشعورية للساردة. فعلى المستوى الكمي والكيفي للزمن التكراري في الرواية يحتل زمن لقاء نورة ودونالد المرتبة الأولى. ومن هنا يمكن القول : أنه كلما زاد التكرار الزمني المتجدد –أي الذي يضيف بعدا جديدا عند كل تكرار- كلما أدى ذلك إلى أهمية الحدث وتعمق دلالته في بناء الرواية. ولا سبيل لتأكيد حدث لقاء دونالد بنورة لأن معظم مشاهد الرواية وأحداثها تؤكد هذا الحدث، بل إن المشكلات والأزمات الحياتية التي تعاني منها نورة مبعثها عدم تحقيق ما تريد وبخاصة اقترانها بمن تحب، لذلك تقول نورة بعد مناقشتها الرسالة واحتفالها مع دونالد بهذه المناسبة : " وكان في ذلك المطعم يعزف على قيثارة وهو يغني ألحانه الرومانسية وكان ينتقل من منضدة إلى منضدة، وعندما جاء إلى منضدتنا وقف منحنيا بيننا ثم اقترب مني وأخذ يترنم بكلمات أغنية وأشاح دونالد بوجهه وهو يضحك إذ أخطأ الرجل الهدف وأخذ يغني لامرأة لا تحب الأغاني والكلمات، ولكنه كان مخطئا في الحكم عليّ في ذلك اليوم بالذات. إذ كنت آنذاك تغيرت تغيرا حادا وأصبحت أشعر بالموسيقى والكلمات وكنت في قمة تذوقي لها. كما كنت أجد في نفسي حزنا يتماشى مع تلك الأنغام التي تميل إلى الحزن وتلك الكلمات التي تعب عن حب رقيق محبط ". ص 89
وتكرر مثل هذه اللقاءات بين نورة ودونالد، ويدور بينهما حوار حول نفس المعنى حتى شكلت هذه اللقاءات محورا بارزا في نسيج الرواية.
4/- السرد النمطـي للزمــن :
وهو النمط السردي الذي تتكرر فيه الأحداث تلقائيا كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر، أو كل صباح… إلخ شريطة أن يروى هذا الحدث مرة واحدة في عبارة أو جملة موجزة وذلك باستخدام الراوي لبعض التعبيرات الدالة على هذا السرد النمطي، وبعبارة موجزة هو ما يسرد مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة.
وهذا المستوي شائع في رواية دلال خليفة ومثال ذلك قول والد نورة لها : " قلت مرارا لا تلتصقي بشاشة التلفزيون، لابد أنك ستلبسين نظارة في القريب العاجل، ولم أتجشم مشقة الالتفات إلى مصدر الصوت لأن ذلك كان صوت أبي إذ يقول جملته اليومية التي فقدت مفعولها تماما بعد أن زاد تكرارها ".
فالعبارة الدالة على الزمن السردي النمطي هي " قلت لك مرارا "، " جملته اليومية " وهي عبارة تدل على التكرار الزمني المألوف لنصيحة الأب التي يرددها دائما لنورة لكن الحدث لم يتكرر هنا على مستوى السرد كما في الزمن التكراري لكنه ورد في جملة واحدة أي أنه سرد عديد الأزمنة في لحظة سردية واحدة.
وتقول الساردة : " أيضا عندما وصلت إلى المدرسة كانت طقوس الصباح قد بدأت " ص 14. وهنا إشارة زمنية للممارسات الطقسية المألوفة والمكررة التي تقوم بها الطالبات كل صباح قبل دخولهن قاعات الدرس، وقولها : " كان مطار هيثرو اللندني مزدحما كالعادة " ص 31 وهنا إشارة زمنية للإزدحام النمطي المألوف للمطار كل يوم أو كل وقت، حتى أن نورة تختزل اللقاءات ولا تسرف في سردها فتستخدم عبارات تدل على السردية الزمنية النمطية لتحل محل الحشو الزائد المكرر الذي يمكن أن يقال في مثل هذه المناسبات، فتقول مثلا عن لقاءاتها بدونالد : " وأصبحت أرى دونالد كثيرا وألغي كثيرا من الرسميات بيننا وازداد تعلقي به ". ص 68
ومن الواضح من خلال الأمثلة العديدة أن نورة تضيق ذرعا بمقومات التكرار حتى على مستوى الحكي، وبرغم أنها تلجأ إلى تكنيك تيار الوعي -الذي يميل إلى كثرة التكرار- إلا أنها تختزل الأحداث الزمنية المكررة في عبارات وألفاظ تدل على هذا السرد النمطي.
ثالثا : الديمومـة الزمنيــة.
يعنى بالديمومة الزمنية ذلك المعنى الذي أراده هانز ميرهوف Hans Megerhoff من حيث أنها تعني ببساطة، اختيار الزمن كإنسياب أو سيلان مستمر، فلا يتميز اختبار الزمن باللحظات المتتابعة، والتغيرات المتعددة فحسب، بل بشيء يدور عبر التتابع والتغير… والسيلان المستمر أو الصيرورة والديمومة غالبا ما تعتبر من وجهة نظر سيكولوجية أنها من مقومات خبرة الحاضر الخداع Specious Present أو المموه، والقصد من ادخال هذه اللفظة هو وصف ناحية الإتساع والإمتداد أو الديمومة في اختبار الزمن اللحظي، لكن الحاضر الخداع يستعمل كذلك للإشارة بأن سيلان الزمن ضمن الحاضر يحوي مسبقا بعض العناصر الأولية للترتيب والإتجاه التي تشير نحو الماضي والمستقبل والحاضر ". وتتضح هذه الديمومة في العديد من المستويات الزمنية ومنها : السرد الزمني المتوقف، والسرد الزمني المضمر " القفز الزمني " والسرد الزمني التوافقي.
ولعلنا لا نبالغ لو قلنا إن هذه المستويات التي تشكل الديمومة الزمنية في النص الروائي تشكل ملمحا بارزا في هذه الرواية، وتتضح المستويات الزمنية فيها على النحو التالي :
1/- السرد الزمني المتوقف :
وهذا المستوي له معنيان؛ الأول توقف زمن الشخصية، نتيجة إصابتها بحدث مفاجئ، فيفقدها الديمومة الزمنية ويجعل الزمن متوقفا عند هذا الحد، والثاني : لجوء الراوي إلى السرد الساكن للشخصية لأن الراوي يريد أن يقدم معلومات معينة عن الشخصية، وهذا بدوره يجعله يرجى التسلسل الزمني للأحداث، وتجدر الإشارة إلى أن كل وصف ليس بالضرورة ساكنا، أو متوقفا على المستوى الزمني إذ يوجد وصف متحرك لا يتوقف في التسلسل الزمني للحدث، بل يظل مستمرا وذلك حين يكون الوصف مسايرا لدينامية الحدث.
والمعنى الثاني للسرد الزمني المتوقف هو السائد في رواية " أشجار البراري البعيدة " إذ على الرغم من أن زمن الرواية يسير في الإتجاه التصاعدي من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل حيث تسرد نورة ما مرت به منذ طفولتها وحتى زواجها وإنجابها ابنتها روضة، إلا أن الراوية (نورة) تتوقف في متن السرد لتصف شخصية أو حديقة أو شارعا، وفي هذه اللحظة يتوقف الزمن السردي ثم تواصله بعد الإنتهاء من الوصف. وهذا الملح يشكل بعدا أساسيا في الرواية لأنها تستند إليه في تشكيل نسيجها. وغالبا ما يكون هذا السرد الزمني المتوقف في بداية الفصول، ويرجع ذلك للمهيئات النفسية التي تعتمد عليها نورة في روايتها للأحداث، حيث تأتي الإفتتاحية بمثابة المهيئ النفسي للبدء في سرد الأحداث وتحريكها. تقول الرواية مثلا في افتتاحية الفصل التاسع : " في غرفتي كان المحاربان الإفريقيان متأهبين للهجوم، كانا متخشبين إذ وقفا متقابلين بينما كل منهما حربة طويلة قد أمسك بها في وضع يبدو مسترخيا مؤقتا ولكنه مهيأ للهجوم المفاجئ، وخلفهما أربعة فيلة عاجية مقطورة بسلسلة فضية وأمامها ثلاثة غزلان، كان هذا المشهد من المشاهد التي أراها كل يوم على رف مكتبي الأوسط فلا أراها مجموعة من التماثيل الأفريقية خلفها صحن من الأبنوس
المزخرف ". ص 87
وبرغم دينامية هذا الوصف على المستوى الداخلي لكنه على المستوى الخارجي للسرد هو لحظة توقف فيها الزمن السردي التصاعدي لتصف نورة هذه التماثيل الرابضة في غرفتها، ثم ينطلق الزمن السردي التصاعدي بعد ذلك لتسرد نورة لحظات مناقشتها للرسالة واحتفالها مع دونالد واستعدادها للعودة، ويستمر السرد في زمن تصاعدي حتى ينتهي الفصل بوداعها لدونالد. فالفصل بدأ بالسرد الزمني المتوقف ثم بدأ التحرك والتصاعد التدريجي للأحداث.
2/- السرد الزمني المضمـر " القفز الزمني " :
وفيه يقفز الزمن من نقطة معينة إلى نقطة أخرى سواء عن طريق إشارة الرواي لهذا القفز بعبارة أو جملة كأن يقول مثلا : مرت الأيام والسنون " أو يحدد المدة الزمنية التي تم تجاوزها في العملية السردية، ويمكن أن يحدث القفز الزمني دون إشارة زمنية مباشرة لكنه يفهم من خلال السياق.
وقد اعتمدت رواية دلال خليفة على القفز الزمني إلى حد كبير عن طريق الإشارة أو عدمها فقد استخدمت الكاتبة الإشارة الزمنية وبخاصة في الجزء الذي لم يتعمد على تكنيك تيار الوعي كثيرا كالفصول الأولى من الرواية، ولم تستخدم الإشارة في الفصول النهائية من الرواية لإعتمادها على تكنيك تيار الوعي –إلى حد كبير- مثلا في التداعيات النفسية، والمونولوج المباشر وغير المباشر، والمناجاة النفسية، والتقطع وعدم الإستمرار، والمونتاج الزماني والمكاني… إلخ.
ويحدث القفز الزمني في الرواية في العديد من المواقف منها إشارة الساردة إلى تناقض مدرسها وحينئذ تتداعى عليها صورة الأستاذ الإنجليزي " روبرتسون " أستاذ الكمبيوتر (أنظر الرواية ص 22). ويتضح هذا القفز أيضا عندما تريد نورة أن تتجاوز حدثا معينا فتقول مثلا : وانتهت أيام الرحلات والنزهة والتعرف ببريطانيا وبدأت أيام العمل ". ص 25
وتقول : " في أحد أيام السبت فتحت عيني صباحا " ص 64، " وجلسنا في أحد الأيام في الحديقة العامة " ص 89، " دخلت الكافيتريا في أحد الأيام الحارة " ص 73، " مضت أشهر أخرى وافتتحت المؤسسة التي أولينا أنا ولطيفة كل اهتمامنا " ص 105، وهكذا مضت الأيام بعضها مسل وأكثرها رتيب " ص 132، " ومضت الأيام وأصبحت روضة قرة عين والدها " ص 135، ويتضح هذا القفز الزمني أيضا في الصفحات : 143-163-164-165.
ثم يزداد القفز الزمني دون إشارة عندما انتقلت نورة إلى موطنها الأصلي وبدأت في كل مشهد تستحضر صورة دنالد، وهنا يقفز الحدث من الزمن الحاضر إلى المستقبل دون إشارة زمنية ويتضح هذا في الصفحات أرقام : 98-100-102-115-145-147-173-176.
ولعل اعتماد التكنيك الروائي عند دلال خليفة عل القفز الزمني يرجع إلى ثلاثة عوامل؛ الأول : اعتماد البناء الروائي إلى حد كبير على تكنيك تيار الوعي، من حيث التداعي النفسي الحر للمعاني، والمونتاج الزماني وهي وسائل فنية تؤدي إلى شيوع القفز الزمني. والثاني : ميل الساردة (نورة) في سردها للأحداث إلى الإختزال الزمني والتكثيف الشديد لأنها سردت فترة زمنية طويلة وتريد أن تضمنها كل المتغيرات الحياتية التي عاشتها في هذه الفترة الزمنية سواء في موطنها الأصلي (الدومة) أو مكان درساتها (لندن) وهذا بدوره يحتاج إلى قفزات زمنية عديدة حتى تستطيع أن تسرد كل هذه المتغيرات. والثالث : إن القفزات الزمنية تتجاوز فترات زمنية معينة ترى الكاتبة أنها لا تشكل لازمة أساسية في السياق ولذلك تجاوزها الزمن السردي.
3/- السرد الزمني التوافقـي :
وفيه يتوافق زمن السرد مع زمن الحدث فيطول الزمن السردي عندما يطول الحدث، والعكس صحيح. ويتمثل هذا في توافق الحالات الشعورية مع السرد فيسرع الإيقاع السردي ويبطئ تبعا للحالات الشعورية، أو تبعا للزمن النفسي وهذا المستوى يتضح في كل نسيج الرواية حيث نجد أن السرد المقترن بحالات الأسى والحزن والألم النفسي تطول فيه الجملة حتى تتوافق مع بطء الحالات الشعورية للساردة (نورة) وبالتالي يأتي الإيقاع السردي بطيئا، تقول الراوية على سبيل التمثيل : " ومرت أشهر عصيبة على هيا أخذت خلالها إجازة لعام بلا راتب، وكانت تتشاجر كثيرا مع فيصل وشروق وتنتقد أسلوب حياتهما لشعورها أن سفر أحمد كان هروبا منهما بالذات لعجزه عن تغييرهما أو قبولهما كما هما " ص 163. وفي الجانب الآخر عندما تعبر عن سرعة الزمن تقول : ومرت الأيام، أحيانا تمر صفحات الأيام بسلاسة وسرعة، وها هي روضة تنام وبجانب سريرها حذاء جديدة، وفي خزانتها مريول جديد للصف
الثاني ". ص 164
ويتضح التباطئ الزمني أيضا في تصويرها لحظة وداعها دونالد قبل مغادرتها لندن تقول : " دونالد يحدق في الأفق وهو يتكلم بصوت منخفض أجيبه وأنا أنظر إلى الأفق وكأننا نتحدث عبر أسلاك هاتف " ص 89، لعل هذه الجملة توضح مدى الإيقاع السردي البطيء الذي يعبر عن حالات الأسى والفراق، وعلى النقيض نجد سرعة الإيقاع السردي عندما تصور لحظات البهجة والسعادة والفرح التي تغمرها أثناء لقائها بدونالد.
ويعني بالسرد أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة ومثال ذلك في رواية " أشجار البراري البعيدة " عقاب المدرسة للتلميذات، فقد ورد العقاب مرة لنورة عندما كانت صغيرة في المدرسة، والثانية لإبنتها روضة وكأن الزمن يعيد نفسه مع الأم والإبنة، فبرغم تغير كل شيء من حولها إن واقعها الزمن لم يتغير، فعقاب المدرسة لنورة نتيجة ميلها للإيجاز وعدم الإسهاب يتكرر مع الإبنة روضة نتيجة نسيانها دفتر المدرسة. ففي الحالة الأولى تقول نورة للمدرسة : " ولكني لا أرى كل ذلك الكلام هاما، إنه ثرثرة طويلة لا فائدة لها يكفي أن تقول المهم " ص 16 وفي الحالة الثانية تقول : " أمس عندما عادت روضة من المدرسة فوجئت بها تخبرني ووالدها، وقد ارتسمت على وجهها ملامح حزينة أن المدرسة ضربتها لأنها نسيت
دفترها ". ص 167
فالزمن هنا يتعدد ولكنه يحمل في كل مرة بعدا جديدا، وكأن الواقع نفس الواقع لم تتغير ملامحه، فما كان يمارس من قهر وهي صغيرة يمارس مع ابنتها. فالوظيفة الدلالية للزمن هنا حول المفاهيم الجديدة التي يحملها البعد الزمني لكل من الأحداث المتعددة، وإذا كان التعدد لا يحمل بعدا دلاليا حينئذ يكون حشوا ولا يشكل لازمة أساسية في بناء الرواية ويؤدي إلى خلل البناء الروائي.
والأحداث التي تعددت في هذه الرواية وتعدد وفقا لها المستوى الزمني قد حملت أبعادا جديدة في كل مرة للتعبير عن قيمة إيحائية وكيفية معينة.
3/- السرد التكراري للزمــن :
ويعني به سرد أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة أو بمعنى آخر رواية حدث واحد بأكثر من أسلوب وأكثر من جهة. وبذلك يتكرر الحدث الواحد بأكثر من طريقة، وقد كان لهذا المستوى نصيب كبير في نسيج الراوية وبنائها، وبخاصة اعتماد الرواية على تكنيك تيار الواعي Stream of Comsciousness ومثال ذلك في رواية " أشجار البراري البعيدة " حدث اختلاف نورة وخالد حول أسلوب المدرسة مع ابنتها وإغلاقها الباب على نفسها وعدم استجابتها لطرقات خالد، هذا الحدث بدأت به الرواية وانتهت به أيضا ونقف عند هذا الحدث في موضع الإتجاه الزمني- وحدث لقاء ودونالد فقد التقت به عديد المرات في أماكن مختلفة سواء في المكتبة أو الكافيتريا أو الحديقة أو في منزل جدته، وحدث إعجابها بأستاذ الكمبيوتر تكرر مرتين دون تغيير، وحدث وقوفها أمام شاشة الكمبيوتر، وتسجيلها المعلومات والتداعيات تكرر في كل فصول الروايــة.
وهذا التكرار له ضرورة فنية في نسيج الراوية لأنه يكون بمثابة الوميض الذي يشع على وعي نورة في سردها للأحداث، وأهم هذه الأحداث المكررة حدث لقاء نورة بدودنالد، فهو يشكل لازمة في معظم بناء الرواية لما لهذه الشخصية من حضور في وعي نورة. وبالتالي يصبح التكرار الزمني لهذه الأحداث متوافقا مع أهمية الشخصية ومع الحالات الشعورية للساردة. فعلى المستوى الكمي والكيفي للزمن التكراري في الرواية يحتل زمن لقاء نورة ودونالد المرتبة الأولى. ومن هنا يمكن القول : أنه كلما زاد التكرار الزمني المتجدد –أي الذي يضيف بعدا جديدا عند كل تكرار- كلما أدى ذلك إلى أهمية الحدث وتعمق دلالته في بناء الرواية. ولا سبيل لتأكيد حدث لقاء دونالد بنورة لأن معظم مشاهد الرواية وأحداثها تؤكد هذا الحدث، بل إن المشكلات والأزمات الحياتية التي تعاني منها نورة مبعثها عدم تحقيق ما تريد وبخاصة اقترانها بمن تحب، لذلك تقول نورة بعد مناقشتها الرسالة واحتفالها مع دونالد بهذه المناسبة : " وكان في ذلك المطعم يعزف على قيثارة وهو يغني ألحانه الرومانسية وكان ينتقل من منضدة إلى منضدة، وعندما جاء إلى منضدتنا وقف منحنيا بيننا ثم اقترب مني وأخذ يترنم بكلمات أغنية وأشاح دونالد بوجهه وهو يضحك إذ أخطأ الرجل الهدف وأخذ يغني لامرأة لا تحب الأغاني والكلمات، ولكنه كان مخطئا في الحكم عليّ في ذلك اليوم بالذات. إذ كنت آنذاك تغيرت تغيرا حادا وأصبحت أشعر بالموسيقى والكلمات وكنت في قمة تذوقي لها. كما كنت أجد في نفسي حزنا يتماشى مع تلك الأنغام التي تميل إلى الحزن وتلك الكلمات التي تعب عن حب رقيق محبط ". ص 89
وتكرر مثل هذه اللقاءات بين نورة ودونالد، ويدور بينهما حوار حول نفس المعنى حتى شكلت هذه اللقاءات محورا بارزا في نسيج الرواية.
4/- السرد النمطـي للزمــن :
وهو النمط السردي الذي تتكرر فيه الأحداث تلقائيا كل يوم أو كل أسبوع أو كل شهر، أو كل صباح… إلخ شريطة أن يروى هذا الحدث مرة واحدة في عبارة أو جملة موجزة وذلك باستخدام الراوي لبعض التعبيرات الدالة على هذا السرد النمطي، وبعبارة موجزة هو ما يسرد مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة.
وهذا المستوي شائع في رواية دلال خليفة ومثال ذلك قول والد نورة لها : " قلت مرارا لا تلتصقي بشاشة التلفزيون، لابد أنك ستلبسين نظارة في القريب العاجل، ولم أتجشم مشقة الالتفات إلى مصدر الصوت لأن ذلك كان صوت أبي إذ يقول جملته اليومية التي فقدت مفعولها تماما بعد أن زاد تكرارها ".
فالعبارة الدالة على الزمن السردي النمطي هي " قلت لك مرارا "، " جملته اليومية " وهي عبارة تدل على التكرار الزمني المألوف لنصيحة الأب التي يرددها دائما لنورة لكن الحدث لم يتكرر هنا على مستوى السرد كما في الزمن التكراري لكنه ورد في جملة واحدة أي أنه سرد عديد الأزمنة في لحظة سردية واحدة.
وتقول الساردة : " أيضا عندما وصلت إلى المدرسة كانت طقوس الصباح قد بدأت " ص 14. وهنا إشارة زمنية للممارسات الطقسية المألوفة والمكررة التي تقوم بها الطالبات كل صباح قبل دخولهن قاعات الدرس، وقولها : " كان مطار هيثرو اللندني مزدحما كالعادة " ص 31 وهنا إشارة زمنية للإزدحام النمطي المألوف للمطار كل يوم أو كل وقت، حتى أن نورة تختزل اللقاءات ولا تسرف في سردها فتستخدم عبارات تدل على السردية الزمنية النمطية لتحل محل الحشو الزائد المكرر الذي يمكن أن يقال في مثل هذه المناسبات، فتقول مثلا عن لقاءاتها بدونالد : " وأصبحت أرى دونالد كثيرا وألغي كثيرا من الرسميات بيننا وازداد تعلقي به ". ص 68
ومن الواضح من خلال الأمثلة العديدة أن نورة تضيق ذرعا بمقومات التكرار حتى على مستوى الحكي، وبرغم أنها تلجأ إلى تكنيك تيار الوعي -الذي يميل إلى كثرة التكرار- إلا أنها تختزل الأحداث الزمنية المكررة في عبارات وألفاظ تدل على هذا السرد النمطي.
ثالثا : الديمومـة الزمنيــة.
يعنى بالديمومة الزمنية ذلك المعنى الذي أراده هانز ميرهوف Hans Megerhoff من حيث أنها تعني ببساطة، اختيار الزمن كإنسياب أو سيلان مستمر، فلا يتميز اختبار الزمن باللحظات المتتابعة، والتغيرات المتعددة فحسب، بل بشيء يدور عبر التتابع والتغير… والسيلان المستمر أو الصيرورة والديمومة غالبا ما تعتبر من وجهة نظر سيكولوجية أنها من مقومات خبرة الحاضر الخداع Specious Present أو المموه، والقصد من ادخال هذه اللفظة هو وصف ناحية الإتساع والإمتداد أو الديمومة في اختبار الزمن اللحظي، لكن الحاضر الخداع يستعمل كذلك للإشارة بأن سيلان الزمن ضمن الحاضر يحوي مسبقا بعض العناصر الأولية للترتيب والإتجاه التي تشير نحو الماضي والمستقبل والحاضر ". وتتضح هذه الديمومة في العديد من المستويات الزمنية ومنها : السرد الزمني المتوقف، والسرد الزمني المضمر " القفز الزمني " والسرد الزمني التوافقي.
ولعلنا لا نبالغ لو قلنا إن هذه المستويات التي تشكل الديمومة الزمنية في النص الروائي تشكل ملمحا بارزا في هذه الرواية، وتتضح المستويات الزمنية فيها على النحو التالي :
1/- السرد الزمني المتوقف :
وهذا المستوي له معنيان؛ الأول توقف زمن الشخصية، نتيجة إصابتها بحدث مفاجئ، فيفقدها الديمومة الزمنية ويجعل الزمن متوقفا عند هذا الحد، والثاني : لجوء الراوي إلى السرد الساكن للشخصية لأن الراوي يريد أن يقدم معلومات معينة عن الشخصية، وهذا بدوره يجعله يرجى التسلسل الزمني للأحداث، وتجدر الإشارة إلى أن كل وصف ليس بالضرورة ساكنا، أو متوقفا على المستوى الزمني إذ يوجد وصف متحرك لا يتوقف في التسلسل الزمني للحدث، بل يظل مستمرا وذلك حين يكون الوصف مسايرا لدينامية الحدث.
والمعنى الثاني للسرد الزمني المتوقف هو السائد في رواية " أشجار البراري البعيدة " إذ على الرغم من أن زمن الرواية يسير في الإتجاه التصاعدي من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل حيث تسرد نورة ما مرت به منذ طفولتها وحتى زواجها وإنجابها ابنتها روضة، إلا أن الراوية (نورة) تتوقف في متن السرد لتصف شخصية أو حديقة أو شارعا، وفي هذه اللحظة يتوقف الزمن السردي ثم تواصله بعد الإنتهاء من الوصف. وهذا الملح يشكل بعدا أساسيا في الرواية لأنها تستند إليه في تشكيل نسيجها. وغالبا ما يكون هذا السرد الزمني المتوقف في بداية الفصول، ويرجع ذلك للمهيئات النفسية التي تعتمد عليها نورة في روايتها للأحداث، حيث تأتي الإفتتاحية بمثابة المهيئ النفسي للبدء في سرد الأحداث وتحريكها. تقول الرواية مثلا في افتتاحية الفصل التاسع : " في غرفتي كان المحاربان الإفريقيان متأهبين للهجوم، كانا متخشبين إذ وقفا متقابلين بينما كل منهما حربة طويلة قد أمسك بها في وضع يبدو مسترخيا مؤقتا ولكنه مهيأ للهجوم المفاجئ، وخلفهما أربعة فيلة عاجية مقطورة بسلسلة فضية وأمامها ثلاثة غزلان، كان هذا المشهد من المشاهد التي أراها كل يوم على رف مكتبي الأوسط فلا أراها مجموعة من التماثيل الأفريقية خلفها صحن من الأبنوس
المزخرف ". ص 87
وبرغم دينامية هذا الوصف على المستوى الداخلي لكنه على المستوى الخارجي للسرد هو لحظة توقف فيها الزمن السردي التصاعدي لتصف نورة هذه التماثيل الرابضة في غرفتها، ثم ينطلق الزمن السردي التصاعدي بعد ذلك لتسرد نورة لحظات مناقشتها للرسالة واحتفالها مع دونالد واستعدادها للعودة، ويستمر السرد في زمن تصاعدي حتى ينتهي الفصل بوداعها لدونالد. فالفصل بدأ بالسرد الزمني المتوقف ثم بدأ التحرك والتصاعد التدريجي للأحداث.
2/- السرد الزمني المضمـر " القفز الزمني " :
وفيه يقفز الزمن من نقطة معينة إلى نقطة أخرى سواء عن طريق إشارة الرواي لهذا القفز بعبارة أو جملة كأن يقول مثلا : مرت الأيام والسنون " أو يحدد المدة الزمنية التي تم تجاوزها في العملية السردية، ويمكن أن يحدث القفز الزمني دون إشارة زمنية مباشرة لكنه يفهم من خلال السياق.
وقد اعتمدت رواية دلال خليفة على القفز الزمني إلى حد كبير عن طريق الإشارة أو عدمها فقد استخدمت الكاتبة الإشارة الزمنية وبخاصة في الجزء الذي لم يتعمد على تكنيك تيار الوعي كثيرا كالفصول الأولى من الرواية، ولم تستخدم الإشارة في الفصول النهائية من الرواية لإعتمادها على تكنيك تيار الوعي –إلى حد كبير- مثلا في التداعيات النفسية، والمونولوج المباشر وغير المباشر، والمناجاة النفسية، والتقطع وعدم الإستمرار، والمونتاج الزماني والمكاني… إلخ.
ويحدث القفز الزمني في الرواية في العديد من المواقف منها إشارة الساردة إلى تناقض مدرسها وحينئذ تتداعى عليها صورة الأستاذ الإنجليزي " روبرتسون " أستاذ الكمبيوتر (أنظر الرواية ص 22). ويتضح هذا القفز أيضا عندما تريد نورة أن تتجاوز حدثا معينا فتقول مثلا : وانتهت أيام الرحلات والنزهة والتعرف ببريطانيا وبدأت أيام العمل ". ص 25
وتقول : " في أحد أيام السبت فتحت عيني صباحا " ص 64، " وجلسنا في أحد الأيام في الحديقة العامة " ص 89، " دخلت الكافيتريا في أحد الأيام الحارة " ص 73، " مضت أشهر أخرى وافتتحت المؤسسة التي أولينا أنا ولطيفة كل اهتمامنا " ص 105، وهكذا مضت الأيام بعضها مسل وأكثرها رتيب " ص 132، " ومضت الأيام وأصبحت روضة قرة عين والدها " ص 135، ويتضح هذا القفز الزمني أيضا في الصفحات : 143-163-164-165.
ثم يزداد القفز الزمني دون إشارة عندما انتقلت نورة إلى موطنها الأصلي وبدأت في كل مشهد تستحضر صورة دنالد، وهنا يقفز الحدث من الزمن الحاضر إلى المستقبل دون إشارة زمنية ويتضح هذا في الصفحات أرقام : 98-100-102-115-145-147-173-176.
ولعل اعتماد التكنيك الروائي عند دلال خليفة عل القفز الزمني يرجع إلى ثلاثة عوامل؛ الأول : اعتماد البناء الروائي إلى حد كبير على تكنيك تيار الوعي، من حيث التداعي النفسي الحر للمعاني، والمونتاج الزماني وهي وسائل فنية تؤدي إلى شيوع القفز الزمني. والثاني : ميل الساردة (نورة) في سردها للأحداث إلى الإختزال الزمني والتكثيف الشديد لأنها سردت فترة زمنية طويلة وتريد أن تضمنها كل المتغيرات الحياتية التي عاشتها في هذه الفترة الزمنية سواء في موطنها الأصلي (الدومة) أو مكان درساتها (لندن) وهذا بدوره يحتاج إلى قفزات زمنية عديدة حتى تستطيع أن تسرد كل هذه المتغيرات. والثالث : إن القفزات الزمنية تتجاوز فترات زمنية معينة ترى الكاتبة أنها لا تشكل لازمة أساسية في السياق ولذلك تجاوزها الزمن السردي.
3/- السرد الزمني التوافقـي :
وفيه يتوافق زمن السرد مع زمن الحدث فيطول الزمن السردي عندما يطول الحدث، والعكس صحيح. ويتمثل هذا في توافق الحالات الشعورية مع السرد فيسرع الإيقاع السردي ويبطئ تبعا للحالات الشعورية، أو تبعا للزمن النفسي وهذا المستوى يتضح في كل نسيج الرواية حيث نجد أن السرد المقترن بحالات الأسى والحزن والألم النفسي تطول فيه الجملة حتى تتوافق مع بطء الحالات الشعورية للساردة (نورة) وبالتالي يأتي الإيقاع السردي بطيئا، تقول الراوية على سبيل التمثيل : " ومرت أشهر عصيبة على هيا أخذت خلالها إجازة لعام بلا راتب، وكانت تتشاجر كثيرا مع فيصل وشروق وتنتقد أسلوب حياتهما لشعورها أن سفر أحمد كان هروبا منهما بالذات لعجزه عن تغييرهما أو قبولهما كما هما " ص 163. وفي الجانب الآخر عندما تعبر عن سرعة الزمن تقول : ومرت الأيام، أحيانا تمر صفحات الأيام بسلاسة وسرعة، وها هي روضة تنام وبجانب سريرها حذاء جديدة، وفي خزانتها مريول جديد للصف
الثاني ". ص 164
ويتضح التباطئ الزمني أيضا في تصويرها لحظة وداعها دونالد قبل مغادرتها لندن تقول : " دونالد يحدق في الأفق وهو يتكلم بصوت منخفض أجيبه وأنا أنظر إلى الأفق وكأننا نتحدث عبر أسلاك هاتف " ص 89، لعل هذه الجملة توضح مدى الإيقاع السردي البطيء الذي يعبر عن حالات الأسى والفراق، وعلى النقيض نجد سرعة الإيقاع السردي عندما تصور لحظات البهجة والسعادة والفرح التي تغمرها أثناء لقائها بدونالد.
رابعا : الإتجـاه الزمنــي.
يتمثل الإتجاه الزمني في رواية أشجار البراري البعيدة في مستويين؛ الأول : الزمن الخارجي، والثاني : الزمن الداخلي.
أما الزمن الخارجي فيعنى بزمن كتابة الرواية وزمن هيكلها الخارجي من البداية إلى النهاية أما زمن كتابتها فإننا لا نعلم تاريخا ننسب إليه زمن الكتابة إلى تاريخ النشر سنة 1993 وزمن المسار الخارجي لها زمن دائري حيث يبدأ الحدث الروائي في نقطة معينة وهي خلاف نورة وخالد وإغلاقها باب حجرتها على نفسها وعدم استجابتها لخالد برغم طرق الباب، وننتهي عند نفس الحدث. أما سير الأحداث من نقطة لأخرى في الرواية فإنها تسير في الإتجاه اللامعكوس من البداية إلى النهاية، حيث تبدأ بطفولة نورة وتنتهي بزواجها وإنجابها ابنة في المرحلة الإبتدائية. فالزمن يسير من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
أما الزمن الداخلي للأحداث فقد كان زمنا يتداخل من حيث تداخل الماضي والحاضر والمستقبل، وبخاصة في اللحظات التي تعتمد فيها الرواية على التداعي النفسي.
خامسا : الزمـن والــذات.
من أشق الإشكاليات التي تواجه الأنا الذاتية في الإبداع المعاصر وبخاصة في الرواية والشعر، هي صراع الذات والزمن. ورواية تيار الوعي من أكثر الروايات تعبيرا عن هذا الصراع. إذ كلما كانت الرواية مستغرقة في اللاشعور كلما كانت صيرورة الذات شديدة التعقيد في صراعها مع الزمن. ورواية دلال خليفة ليست من هذا النوع المستغرق في اللاشعور، لكنها من النوع الذي بمنطق الحكي الروائي وفق جدلية زمنية محكمة. وهذا الإحكام يتأتى من ارتكاز السياق على ركيزتين؛ الأولى : جهاز الكمبيوتر الذي يلازم نورة من أول الرواية إلى نهايتها تسجل فيه كل ما يتداعى عليها من أحداث ماضية أو مستقبلية، وبالتالي يسير الزمن في اتجاه تصاعدي محكم. لأن التداعيات جاءت على نورة منظمة إلى حد كبير. والثانية : اعتماد نورة على حالات التذكر المنتظمة، حيث تتداعى عليها صور الماضي كلما ترى الصورة في الحاضر يذكرها بالماضي. فتتذكر الأستاذ الإنجليزي عندما تستحضر صورة الأستاذ العربي وتستحضر صورة دونالد عندما يتقدم لها جاسم، والرجل الأمي، وخالد بغية الزواج ومن ثم لا ننتظر في هذا التكنيك أن يكون الصراع عنيفا بين الذات والزمن، لكنه صراع نسبي تعبر عنه بعض الصور التي تشعر فيها الذات بالحصار، كصورة الديمومة الزمنية المتمثلة في السيارة أو الطائرة أو الحجرة ونلحظ هذه الصيرورة الزمنية عندما تسرد لنا نورة رحلتها وطقوسها اليومية التي اعتادتها في حياتها حتى صارت كالديمومة الأبدية التي لا تنتهي تقول نورة على سبيل التمثيل : " تسير بنا السيارة عبر شوارع مشمسة تثير في النعاس من جديد، وتجفف بقايا الأدمع على أهداب أختي الصغيرة، كان ذلك المشهد يحدث يوميا تقريبا… ولكن كانت السيارة تسير عبر كل تلك الشوارع حتى ظننت أن ذلك سيستمر إلى الأبد. وظلت تسير بنا السيارة وحدي عبر تلك الشوارع المشمسة.
وتبدلت السيارة مرارا منذ ذلك (الآن) وتبدل السائق الذي أتى بعد أبي وتبدلت الطرق وتبدل بيتنا نفسه بعد أن سكنا فيلا حديثة، كما فعل معظم الناس، وظللت كما أنا تسير بي السيارة إلى أن أنهيت الجامعية وأنهيت عاما من العمل بها وإلى ما بعد
ذلك ". ص 14
إن من يتأمل هذا النص يشعر كأن الذات ظلت تعاني من حصارها داخل الأركان الأربعة بداية بالسيارة ونهاية بالمكتب. فالسيارة تظل محاصرة فيها طيلة رحلتها العلمية وما بعدها، وتظل محاصرة بين جدران مكتبها لا تجد من تبثه شكواها وآلامها وآمالها غير جهاز الكمبيوتر فتقول : " لا أعلم تماما ما يتزاحم من المشاعر في عقلي وأن أختبئ في المكتب أو أرى فيه دموعي وانهياري وأتأمل صورة تلك المرأة على شاشة الكمبيوتر الداكنة ". ص 9
وبعض التعبيرات الواردة في الرواية أيضا توضح صراع الذات والديمومة الزمنية بعد أن أصبحت الذات غريبة عن ذاتها، يتضح ذلك في قولها " حتى ظننت أن ذلك سيستمر إلى الأبد "، " أتأمل صورة تلك المرأة "، " وأنا أختبئ في المكتب ".
إن الذات عندما تفقد التواصل مع ذاتها فضلا عن فقدانها التواصل مع الآخر حينئذ تشعر بالعزلة والإنطواء، ولا تجد ما تبثه شكواها غير الجهاز الرابض في حجرتها فهو الوحيد القادر على حفظ أسرارها والحافظ لكينونتها الذاتية في صراعها مع الصيرورة الأبدية.
وللخروج من حصار الديمومة تتوهم الذات أن انطلاقها يكون في أوربا حيث تتحرر الذات من حصارها، من خلال توقها للإرتباط بدونالد. لكنها تدرك أن ذلك بمثابة الحلم الجميل الذي لا يتحقق، لذلك تذكر نورة لدونالد في عديد من المواقف أنه فتى حالم بينما تعيش هي الواقع. وشتان بين الحلم الأوربي الذي تتوق إليه نورة والواقع العربي الذي يحاصرها.
ولذلك تظل طوال الرواية حائرة بين الحلم والواقع، وحينئذ تشعر الذات بالعدمية والضياع وبخاصة عندما ترتد من عالم الأحلام الأوربي إلى عالم الإنكسار والإزدواج والتناقض العربي. وتصطدم بالشخصيات التي أرادت الزواج منها فهي شخصيات إما ضائعة أو جاهلة أو سلبية لا رأي لها. وعندما ترفض الإقتران بهم يقف الواقع ضدها. ولا تملك غير نزع شهاداتها العلمية التي حصلت عليها من على الجدار لتلقى بها في خزائنها. وفي هذه اللحظة تتطلع لدونالد رمز الحلم الأوربي، الذي يمنحها الدفء والحب والأمان. برغم إدراكها أن هذا الحلم لن يتحقق لأن بينهما تلالا وجبالا وحواجز عالية. لكنه يظل النموذج الحلمي الذي تتطلع إليه تقول في حالة مناجاة أمام جهاز الكمبيوتر : " أعلم أن دونالد إذ عرض علي نفسه لم يقدم إلي شيئا قليل الشأن، وإنما قدم لي شيئا لا يقدر بثمن قدم لي نفسا نقية شفافة في عالم من النفوس التي تشوبها الأنانية وتلوثها أشياء أخرى كثيرة. ومسحت دمعة ثم أكملت وقد تحول الخطاب إلى دونالد شخصيا : وأعلم أنني لن أجد من يحبني كما أحببتني. قد لا يجعلني أحد تلك الملكة التي رأيتها في يوما. لا أظن أن أحدا سينظر إليّ مرة واحدة، فينفذ إلى روحي ويغرم بها كما فعلت أنت، ذلك حدث مرة واحدة، ولا أحسبه يحدث ثانية، ليتني أستطيع إخبارك أنني أقدرك كثيرا ولا أخالني سأحب غيرك كما أحببتك، وإنه لم يبعدني عنك إلا كوني أعجز عن تخطي الحواجز كما أخبرتك يوما " ص 103
ومن الواضح أن هذا التطلع للنموذج الأوربي ممثلا في دونالد حلم تتطلع إليه نورة ولكنها عندما ترتد للواقع ترى أن هذا الحلم لا يتوافق مع واقعها. ولذلك تظل في تمزق نفس شديد، فقلبها يتطلع للحلم الأوربي، وعقلها يرتبط بواقعها الأصيل وتظل الذات ممزقة بين فكي الجدلية الصراعية بين القلب والعقل، تقول نورة عندما ترتد للواقع العقلي : " إنني في قرارة نفسي أعتبر زواج اثنين من سلالتين بشريتين مختلفتين زواجا غير طبيعي وغير جاد، ولو تجاوزت هذه النقطة ما كنت لأستطيع أن أربي أطفالا في تلك الديار التي نبذت كل ما نقدسه، والتي تختلف عنا في كل شيء، وما كان دونالد سيطيق الحياة إلى الأبد هنا معي وإن غير دينه ". ص 102
ومن ثم يصبح التناقض الكامن في وعي نورة مصدرا لتفتيت الذات وتمزقها وعدميتها وشعورها بالتلاشي والذوبان في الصيرورة الأبدية. إذ تظل الذات مشتتة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، أو بين الحلم والواقع، أو بين الإنتماء واللانتماء وبرغم أن نورة فكرت ورجحت عقلها على قلبها وواقعها على حملها والإنتماء على عدم الإنتماء حيث تقول : " إن المنازل والطبيعة جميلة هنا، بل خلابة، لكنها لا تشعرني بأنني في وطني، إنني لا أنتمي إليها، ولا أستطيع أن أضمن عالمي الحاكم أشياء لا أشعر بالإنتماء إليها، ولو رسمت لي بيئة أحلام لكانت بيئتي التي نشأت فيها ". ص 90
نقول إنه على الرغم من هذا الإنتماء والتصريح به إلا أن نورة ظلت طوال الرواية وحتى بعد عودتها من لندن تحلم بدونالد وحبه، ومن هنا يجوز لنا أن نقول إن انتماء نورة لموطنها الأصلي انتماء عقلي فرضته حتمية الواقع، وليس قلبيا نابعا من الذات. ولعل هذا هو مصدر الأرق الذي تعيشه الذات طوال الرواية، لأنها حلت القضية على ورق الرواية فقط وهو حل افتعالي اقتضته الضرورة العقلية.
ومن هنا تشعر الذات بالضياع في الديمومة الأبدية التي لا نهاية لها. وإذا كانت معظم الروايات العربية التي تناولت قضية الشرق والغرب قد عنيت بالرجل الشرقي الذي يتطلع للفتاة الغربية أو تتطلع هي إليه، فهذه هي أول رواية عربية –فيما أعلم- عنيت بالمرأة الشرقية التي تتطلع للرجل الغربي ويتوق الغربي إليها. وكان من الممكن أن تأخذ هذه القضية بعدا حضاريا عميقا، لو أن الكاتبة وقفت عند حد رصد الواقع الحياتي المعيش للذات دون أن تتجاوزه.
يتمثل الإتجاه الزمني في رواية أشجار البراري البعيدة في مستويين؛ الأول : الزمن الخارجي، والثاني : الزمن الداخلي.
أما الزمن الخارجي فيعنى بزمن كتابة الرواية وزمن هيكلها الخارجي من البداية إلى النهاية أما زمن كتابتها فإننا لا نعلم تاريخا ننسب إليه زمن الكتابة إلى تاريخ النشر سنة 1993 وزمن المسار الخارجي لها زمن دائري حيث يبدأ الحدث الروائي في نقطة معينة وهي خلاف نورة وخالد وإغلاقها باب حجرتها على نفسها وعدم استجابتها لخالد برغم طرق الباب، وننتهي عند نفس الحدث. أما سير الأحداث من نقطة لأخرى في الرواية فإنها تسير في الإتجاه اللامعكوس من البداية إلى النهاية، حيث تبدأ بطفولة نورة وتنتهي بزواجها وإنجابها ابنة في المرحلة الإبتدائية. فالزمن يسير من الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل.
أما الزمن الداخلي للأحداث فقد كان زمنا يتداخل من حيث تداخل الماضي والحاضر والمستقبل، وبخاصة في اللحظات التي تعتمد فيها الرواية على التداعي النفسي.
خامسا : الزمـن والــذات.
من أشق الإشكاليات التي تواجه الأنا الذاتية في الإبداع المعاصر وبخاصة في الرواية والشعر، هي صراع الذات والزمن. ورواية تيار الوعي من أكثر الروايات تعبيرا عن هذا الصراع. إذ كلما كانت الرواية مستغرقة في اللاشعور كلما كانت صيرورة الذات شديدة التعقيد في صراعها مع الزمن. ورواية دلال خليفة ليست من هذا النوع المستغرق في اللاشعور، لكنها من النوع الذي بمنطق الحكي الروائي وفق جدلية زمنية محكمة. وهذا الإحكام يتأتى من ارتكاز السياق على ركيزتين؛ الأولى : جهاز الكمبيوتر الذي يلازم نورة من أول الرواية إلى نهايتها تسجل فيه كل ما يتداعى عليها من أحداث ماضية أو مستقبلية، وبالتالي يسير الزمن في اتجاه تصاعدي محكم. لأن التداعيات جاءت على نورة منظمة إلى حد كبير. والثانية : اعتماد نورة على حالات التذكر المنتظمة، حيث تتداعى عليها صور الماضي كلما ترى الصورة في الحاضر يذكرها بالماضي. فتتذكر الأستاذ الإنجليزي عندما تستحضر صورة الأستاذ العربي وتستحضر صورة دونالد عندما يتقدم لها جاسم، والرجل الأمي، وخالد بغية الزواج ومن ثم لا ننتظر في هذا التكنيك أن يكون الصراع عنيفا بين الذات والزمن، لكنه صراع نسبي تعبر عنه بعض الصور التي تشعر فيها الذات بالحصار، كصورة الديمومة الزمنية المتمثلة في السيارة أو الطائرة أو الحجرة ونلحظ هذه الصيرورة الزمنية عندما تسرد لنا نورة رحلتها وطقوسها اليومية التي اعتادتها في حياتها حتى صارت كالديمومة الأبدية التي لا تنتهي تقول نورة على سبيل التمثيل : " تسير بنا السيارة عبر شوارع مشمسة تثير في النعاس من جديد، وتجفف بقايا الأدمع على أهداب أختي الصغيرة، كان ذلك المشهد يحدث يوميا تقريبا… ولكن كانت السيارة تسير عبر كل تلك الشوارع حتى ظننت أن ذلك سيستمر إلى الأبد. وظلت تسير بنا السيارة وحدي عبر تلك الشوارع المشمسة.
وتبدلت السيارة مرارا منذ ذلك (الآن) وتبدل السائق الذي أتى بعد أبي وتبدلت الطرق وتبدل بيتنا نفسه بعد أن سكنا فيلا حديثة، كما فعل معظم الناس، وظللت كما أنا تسير بي السيارة إلى أن أنهيت الجامعية وأنهيت عاما من العمل بها وإلى ما بعد
ذلك ". ص 14
إن من يتأمل هذا النص يشعر كأن الذات ظلت تعاني من حصارها داخل الأركان الأربعة بداية بالسيارة ونهاية بالمكتب. فالسيارة تظل محاصرة فيها طيلة رحلتها العلمية وما بعدها، وتظل محاصرة بين جدران مكتبها لا تجد من تبثه شكواها وآلامها وآمالها غير جهاز الكمبيوتر فتقول : " لا أعلم تماما ما يتزاحم من المشاعر في عقلي وأن أختبئ في المكتب أو أرى فيه دموعي وانهياري وأتأمل صورة تلك المرأة على شاشة الكمبيوتر الداكنة ". ص 9
وبعض التعبيرات الواردة في الرواية أيضا توضح صراع الذات والديمومة الزمنية بعد أن أصبحت الذات غريبة عن ذاتها، يتضح ذلك في قولها " حتى ظننت أن ذلك سيستمر إلى الأبد "، " أتأمل صورة تلك المرأة "، " وأنا أختبئ في المكتب ".
إن الذات عندما تفقد التواصل مع ذاتها فضلا عن فقدانها التواصل مع الآخر حينئذ تشعر بالعزلة والإنطواء، ولا تجد ما تبثه شكواها غير الجهاز الرابض في حجرتها فهو الوحيد القادر على حفظ أسرارها والحافظ لكينونتها الذاتية في صراعها مع الصيرورة الأبدية.
وللخروج من حصار الديمومة تتوهم الذات أن انطلاقها يكون في أوربا حيث تتحرر الذات من حصارها، من خلال توقها للإرتباط بدونالد. لكنها تدرك أن ذلك بمثابة الحلم الجميل الذي لا يتحقق، لذلك تذكر نورة لدونالد في عديد من المواقف أنه فتى حالم بينما تعيش هي الواقع. وشتان بين الحلم الأوربي الذي تتوق إليه نورة والواقع العربي الذي يحاصرها.
ولذلك تظل طوال الرواية حائرة بين الحلم والواقع، وحينئذ تشعر الذات بالعدمية والضياع وبخاصة عندما ترتد من عالم الأحلام الأوربي إلى عالم الإنكسار والإزدواج والتناقض العربي. وتصطدم بالشخصيات التي أرادت الزواج منها فهي شخصيات إما ضائعة أو جاهلة أو سلبية لا رأي لها. وعندما ترفض الإقتران بهم يقف الواقع ضدها. ولا تملك غير نزع شهاداتها العلمية التي حصلت عليها من على الجدار لتلقى بها في خزائنها. وفي هذه اللحظة تتطلع لدونالد رمز الحلم الأوربي، الذي يمنحها الدفء والحب والأمان. برغم إدراكها أن هذا الحلم لن يتحقق لأن بينهما تلالا وجبالا وحواجز عالية. لكنه يظل النموذج الحلمي الذي تتطلع إليه تقول في حالة مناجاة أمام جهاز الكمبيوتر : " أعلم أن دونالد إذ عرض علي نفسه لم يقدم إلي شيئا قليل الشأن، وإنما قدم لي شيئا لا يقدر بثمن قدم لي نفسا نقية شفافة في عالم من النفوس التي تشوبها الأنانية وتلوثها أشياء أخرى كثيرة. ومسحت دمعة ثم أكملت وقد تحول الخطاب إلى دونالد شخصيا : وأعلم أنني لن أجد من يحبني كما أحببتني. قد لا يجعلني أحد تلك الملكة التي رأيتها في يوما. لا أظن أن أحدا سينظر إليّ مرة واحدة، فينفذ إلى روحي ويغرم بها كما فعلت أنت، ذلك حدث مرة واحدة، ولا أحسبه يحدث ثانية، ليتني أستطيع إخبارك أنني أقدرك كثيرا ولا أخالني سأحب غيرك كما أحببتك، وإنه لم يبعدني عنك إلا كوني أعجز عن تخطي الحواجز كما أخبرتك يوما " ص 103
ومن الواضح أن هذا التطلع للنموذج الأوربي ممثلا في دونالد حلم تتطلع إليه نورة ولكنها عندما ترتد للواقع ترى أن هذا الحلم لا يتوافق مع واقعها. ولذلك تظل في تمزق نفس شديد، فقلبها يتطلع للحلم الأوربي، وعقلها يرتبط بواقعها الأصيل وتظل الذات ممزقة بين فكي الجدلية الصراعية بين القلب والعقل، تقول نورة عندما ترتد للواقع العقلي : " إنني في قرارة نفسي أعتبر زواج اثنين من سلالتين بشريتين مختلفتين زواجا غير طبيعي وغير جاد، ولو تجاوزت هذه النقطة ما كنت لأستطيع أن أربي أطفالا في تلك الديار التي نبذت كل ما نقدسه، والتي تختلف عنا في كل شيء، وما كان دونالد سيطيق الحياة إلى الأبد هنا معي وإن غير دينه ". ص 102
ومن ثم يصبح التناقض الكامن في وعي نورة مصدرا لتفتيت الذات وتمزقها وعدميتها وشعورها بالتلاشي والذوبان في الصيرورة الأبدية. إذ تظل الذات مشتتة بين ما هو كائن وما يجب أن يكون، أو بين الحلم والواقع، أو بين الإنتماء واللانتماء وبرغم أن نورة فكرت ورجحت عقلها على قلبها وواقعها على حملها والإنتماء على عدم الإنتماء حيث تقول : " إن المنازل والطبيعة جميلة هنا، بل خلابة، لكنها لا تشعرني بأنني في وطني، إنني لا أنتمي إليها، ولا أستطيع أن أضمن عالمي الحاكم أشياء لا أشعر بالإنتماء إليها، ولو رسمت لي بيئة أحلام لكانت بيئتي التي نشأت فيها ". ص 90
نقول إنه على الرغم من هذا الإنتماء والتصريح به إلا أن نورة ظلت طوال الرواية وحتى بعد عودتها من لندن تحلم بدونالد وحبه، ومن هنا يجوز لنا أن نقول إن انتماء نورة لموطنها الأصلي انتماء عقلي فرضته حتمية الواقع، وليس قلبيا نابعا من الذات. ولعل هذا هو مصدر الأرق الذي تعيشه الذات طوال الرواية، لأنها حلت القضية على ورق الرواية فقط وهو حل افتعالي اقتضته الضرورة العقلية.
ومن هنا تشعر الذات بالضياع في الديمومة الأبدية التي لا نهاية لها. وإذا كانت معظم الروايات العربية التي تناولت قضية الشرق والغرب قد عنيت بالرجل الشرقي الذي يتطلع للفتاة الغربية أو تتطلع هي إليه، فهذه هي أول رواية عربية –فيما أعلم- عنيت بالمرأة الشرقية التي تتطلع للرجل الغربي ويتوق الغربي إليها. وكان من الممكن أن تأخذ هذه القضية بعدا حضاريا عميقا، لو أن الكاتبة وقفت عند حد رصد الواقع الحياتي المعيش للذات دون أن تتجاوزه.
إرسال تعليق