يولي الفارابي للرّئيس أهميّة كبيرة في مجتمع المدينة،فمنزلتهُ من المدينة أشبه ما تكون بمنزلة القلب من البدن، فكما أنّ القلب هو العضو الرّئيس في البدن فإنَّ الرّئيس هو العضو الرّئيس في المدينة : " وكما أنَّ القلب يتكوّن أوّلاً ثمَّ يكون هو السّبب في أن يكوّن سائر أعضاء البدن،وا
لسّبب في أن تحصل لها قواها وأن تترتّب مراتبها.. كذلك رئيس هذه المدينة ينبغي أن يكون هو أوّلاً ، ثمّ يكون هو السّبب في أن تحصل المدينة وأجزاؤها ، وهذا ما حدا بنا أن نبدأ بالقول في الرّئيس قبل القول في المدينة الفاضلة ومن ثمَّ مضادّاتها" ووفقاً لهذه النّظرة ينفي الفارابي مسألة انتخاب الرّئيس من قِبَل أعضـاء المدينة،أو القول بأسبقيّة الاجتماع المدني على وجـود الرّئيس ، كما ينفي إمكان قيام مجتمع مدني عن طريق اتّفاق أعضائه في انتخاب رئيس لهم يدبّر لهم شؤونهم ، وهذا يرتكز بالطّبع على الأساس الفلسفي الّذي ينطلق منه الفارابي في إشادة علمه المدني،وهو أنَّ أوّل الموجودات وأسبقها في الوجود هو السّبب الأوّل الّذي تفيض عنه بقيّة العقول والأجسام الأخرى،فيكون للواحد أسبقيّة في الوجود على بقيّة الموجودات الكثيرة الّتي تخضع لتدابيره بشكلٍ تراتبي ، الأدنى منها يخضع للأعلى . وهكـذا هو الحال في تحديد العلاقة بين الرّئيس والنّاس وسائر أجزاء المدينة عموماً : " وتلك حـال الموجودات ، فإنَّ السّبب الأوّل نسبته إلى سائر الموجودات كنسبة ملك المدينة الفاضلة إلى سائر أجزائهـا " ، وكما أنَّ الأخسّ يقتفي غرض ما هو فوقه،وكما تكون الموجودات كلّها تقتفي غرض السّبب الأوّل ، ينبغي أن تكون المدينة الفاضلة ، بحيث يتعيّن على كلّ أجزائها أن تحتذي بأفعالها نحو مقصـد رئيسها الأوّل على التّرتيب ، وليس يمكن أن يكون رئيس المدينة الفاضلة أي إنسان ، فللرّئاسة شروطٌ ينبغي أن تتوافر في الرّئيس:" الرّئاسة إنّما تكون بشيئين : أحدهما أن يكون بالفطرة وبالطّبع معدّاً لها ، والثّاني بالهيئة والملكة الإراديّة .. والرّياسة لمن فطر بالطّبع معدّاً لها ، فليس كلّ صناعة يمكن أن يرأس بها ، بل أكثر الصّنائع صنائع يخدم بها في المدينة ، وأكثر الفطر هي فطر الخدمة .. كذلك الرّئيس الأوّل للمدينة الفاضلة ينبغي أن تكون صناعته صناعة لا يمكن أن يخدم بها أصلاً ، ولا يمكن فيها أن ترأسها صناعة أخرى أصلاً " .
والرّئيس ليس هو من لا يملك القدرة على إرشاد وإنهاض غيره ، فهذا يكون مرؤوساً وفي كلّ شيء ، فالرّئيس :"من كانت له قوّة على أن يرشد غيره إلى شيء مّا يحمله عليه أو يستعمله فيه،فهو رئيس في ذلك الشّيء على الّذي ليس يمكنه أن يفعل ذلك الشّيء من تلقاء نفسه " ، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على ضرورة توفّر الاستعداد والموهبة للرّياسة بشكل فطري في الرّئيس .
من ناحية أخرى هنالك رئاسات يكون فيها الرّئيس مرؤوساً لرئيس آخر وفـق تسلسل تراتبي ، باستثناء الرّئيس الأوّل الّذي لا يحتاج ولا في شيء أن يرأسه إنسان ، الأمـر الّذي يستدعي أن تكون العلوم والمعارف لديه حاصلةً بالفعل ولا حاجة به أن يرشده غيره في شيء ، وتكـون له قدرة عل جـودة إدراك شيء ممّا ينبغي أن يعمـل من الجزئيّات ، وقوّة على جودة إرشاد لكلّ من سواه إلى كلّ ما يعلّمه ويكون لديه قدرة على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديدها نحو السّعادة وهذا لا يكون على حدّ قوله إلاّ : " في أهل الطّبائع العظيمة الفائقة إذا اتّصلت نفسه بالعقل الفعّال "
ويتمّ بلوغ ذلك بأن يحصل له أوّلاً العقل المنفعل ثمّ أن يحصل له بعد ذلك العقل المستفاد : " فبحصول المستفاد يكون الاتّصال بالعقل الفعّال " بمعنى أنَّ العقل المستفـاد هو الصلـة الّتي تصل بين العقل المنفعل والعقل الفعّـال، والشّخص الّذي يحصل له ذلك _ كما هو الحال عند القدماء _ هو الملك الّذي يوحى إليه كونه بلغ هذه الرّتبة ، فتفيض من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل القوّة الّتي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السّعادة:"ويتمّ ذلك على اعتبار أنَّ العقل المنفعل هو شبه المادّة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد شبه المادّة والموضوع للعقل الفعّال ، وبما أنَّ العقل الفعّال فائضٌ عن وجود السّبب الأوّل ، يمكن القول بأنَّ السّبب الأوّل هو الموحي إلى هذا الإنسان بتوسّط العقل الفعّال"بناءً على ذلك يستنتج الفارابي بأنَّ رئاسة هذا الإنسان الموحى إليه من السّبب الأوّل بتوسّط من العقل الفعّال هي الرّئاسة الأولى في حين أنَّ سائر الرّئاسات متأخّرة عن هذه وكائنة عنها .. وينتج من ذلك أنَّ النّاس الّذين يُدَبَّرون برئاسة هذا الرّئيس هم النّاس الفاضلون والأخيار السّعداء ، فإن كانوا أمّةً فتلك هي "الأمّة الفاضلة"،وإن كانوا أُناساً مجتمعين في مسكنٍ واحـد يجمـع جميع من تحت هذه الرّئاسة فهي "المدينة الفاضلة" أمّا من كانوا في مساكن متفرّقة يُدَيَّر أهلها برئاساتٍ أُخر غير هذه كانوا أناساً أفاضل يعرض تفرّقهم لأسبابٍ متعدّدة، إمّا أنّه لم تتّفق لهم بعد مدينة يجتمعون فيها ، أو أنّهم كانوا في مدينةٍ عرضت لها آفات من عدوٍ أو وباء أو جدبٍ أو غير ذلك فاضطرّوا إلى التّفرّق،بعد ذلك ينتقل الفارابي للحديث عن طبيعة المدينة أو الأمّة الواحدة أو الأمم الكثيرة الّتي يتواجد فيها جماعة من الملوك في وقتٍ واحد، بأنّها تكـون موحّدةً كملك واحد نظراً لاتّفاق هممهم وأغراضهم وسِيَرِهم ، فتصبح القيادة الجماعيّة أمـراً يسيراً فيما بينهـم لعلّة تجانسهم ووحـدة مقاصدهم وأهدافهم ، وعليه يكون بالإمكـان تشكيل مجلس رئاسة منهم ، فتكون نفوسهم كنفسٍ واحدة حتّى إذا توالوا في الأزمان واحداً بعد آخر ، بحيث يكون الثّاني على سيرة الأوّل والغابر على سيرة الماضي ، وهذا التّواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل لا يعني الجمود والتّقليد الكامل، إنّما يخضع لمنطق التّجديد والتّطوّر طبقاً لقول الفارابي : " وكما أنّه يجوز للواحد منهم أن يغيّر بشريعة قد شرّعها هو في وقتٍ إذا رأى الأصلح تغييرها في وقتٍ آخر ، كذلك الغابر الّذي يخلف الماضي له أن يغيّر ما قد شرّعه الماضي ، لأنَّ الماضي نفسه لو كـان مشاهداً للحال لغيّر " (فالحياة ليست جامدةً بل متحرّكةً تتطوّر في كلّ عصر فتكون مقتضيات العصر قاضيةً بالتّعامل معها بالشّرائع الملائمة .
الخصال الواجب توفرها في رئيس المدينة الفاضلة:
ينبغي لرئيس المدينة الفاضلة حيازة اثنتي عشرة خصلة تكون قد اجتمعت فيه بالطّبع ويكون قد فُطِرَ عليها ، بالإضافة إلى توفّر ستة شروطٍ أخرى مكتسبة لكنّها لازمة . الخصلة الأولى : أن يكون سليم البدن ، تام الأعضاء بحيث تكون قواها مؤاتية أعضائها على الأعمال الّتي شأنها أن تكون بها ، ومتى همّ بعضوٍ مّا من أعضائه عملاً يكون به ، فأتى عليه بسهولة . بمعنى أنَّ الجسد منظومةٌ متكاملة إذا اعتلَّ عضوٌ من أعضائه نجـم عنه اضطّرابٌ في القيام بعمل العضـو المعتلّ من ناحية وانعكس اعتلاله على باقي أعضاء الجسد من ناحية أخرى. ناهيك عن أن الرّئيس صورةٌ عن العقل الفعّال وعلى علاقةٍ واتّصال بالسّبب الأوّل، الموجود الكامل ، واجب الوجود ، المنزّه عن كلّ نقص واعتلال ، فلا يجوز أن يعتريه النّقص والاعتلال .
الخصلة الثّانية: أن يكون بالطّبع جيّد الفهم والتّصوّر لكلّ ما يقال له فيلقاه بفهمه على نحـو ما يقصده القائل ، وعلى حسب الأمر في نفسه ووجود هذه الخصلة في الرئيس تمليها الضرورة لئلاَّ يخطئ في فهم الآخرين فيخطئ في التّدابير الّتي يلجـأ إليها ، من هنا يعدّ الفهم الصّحيح والقدرة على تفسير العالم والأشياء الموجودة فيه _ بما فيها العلاقات الاجتماعيّة _ أحد أهم الشروط الّتي تقوم عليهـا نظريّة المعرفة ، حتّى يتسنّى التأثير فيه تأثيراً إيجابيّاً يأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الذّاتيّة والموضوعيّة للعالم والمجتمع والأشياء ، ويحول دون الوقوع في الخطأ والضّلال .
الخصلة الثّالثة : أن يكون جيّد الحفـظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه ، وفي الجملة لا يكاد ينساه وهذا يتطلّب وجود جملة عصبيّة سليمة ومعافاة، والغاية من وجود هذه الخصلة، هي حتى يكون الرّئيس على بيّنة في تدبّر القضايا والأحكام فلا يقع في الزّلل .
الخصلة الرّابعة : أن يكون جيّد الفطنة ذكيّاً،إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة الّتي دلَّ عليها الدّليل. وهذه خصلة أساسيّة في الخصال الواجب أن يتمتّع بها الرّئيس فيكون جيّد التّذكّر والانتباه ، لبيداً ذو حاسّة مرهفة تمكّنه من الوصول إلى الشّيء بأقلّ الأدلّة .
الخصلة الخامسة : أن يكـون حسن العبارة ، يؤتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره إبانة تامّة ، وهذا يعني تطابق اللّفظة مع الفكرة تطابقاً تامّاً حتّى لا يقع التباسٌ في التّعبير والإبانة،لأنَّ من يخونه اللّسان عن حسن نيّة ، يفتح الباب للتّأويل الخاطئ لما يُقال .
الخصلة السّادسة: أن يكون محبّاً للتّعليم والاستفادة، منقاداً له سهل القبول،لا يؤلمه تعب التّعليم،ولا يؤذيه الكدُّ الّذي ينال منه ، لأنَّ العلم زاد المعرفة والمعرفة نور الحقّ الّذي لا ينطفئ ، وبالعلم تتهذّب النّفوس وتصفوا . وبالتّالي يكون الرّئيس على درجة من العلم والمعرفّة تمكّناه من حلّ جميع القضايا والمشكلات الّتي تواجهـه بالمنطق والعقل والحوار ، وتفادي اللّجوء إلى العنف وسفك الدّماء وما شاكل ذلك .
الخصلة السّابعة : أن يكون غير شرهٍ في المأكول والمشروب والمنكوح، متجنّباً بالطّبع للّعب مبغضاً للذّات الكائنة عن هذه . لأنَّ الإسراف في طلب تلك الأمور من شأنه أن يصـرف الرّئيس عن تدبّر أمـور الرّعيّة ويفقده مكانته ومهابته .
الخصلة الثّامنة : أن يكون محبّاً للصّدق وأهله ، مبغضاً للكذب وأهله . الأمر الّذي يُكسِبهُ ثقة الجمهور ومحبّته ، ويزرع المهابة في نفوس مواطنيه جميعاً .
الخصلة التّاسعة : أن يكون كبير النّفس ، محبّاً للكرامة ، تكبر نفسه بالطبع إلى الأرفع منها ، وهي نقطة جوهريّة كون الرّئيس مثلاً أعلى للرّعيّة يتشبّهون به ويقتفون أثره فإن هانت عليه كرامته ستجد أصداء لها في نفوسهم ، وإن عفّت عليه نفسه وكانت الكرامة عنوان شخصيّته ستجد تجليّاتها في كرامتهم طبقاً للمثل الشّائع " أخلاق الرّعيّة من الرّاعي " .
الخصلة العاشرة : أن يكون الدّرهم والدّينار وسائر أعراض الدّنيا هيّنةً عنده ،وهذا تكريسٌ للعادات والأخلاق المتوارثة منذ القدم ، كعادات الكرم والسّخاء ، والإيثار ، وغيرها،حتّى إذا عمَّ هذا المبدأ لم يعد للسّحت مكان ٌ في الأمّة ، ولم يعد أحدٌ محتاج فيها فيتحقّق بذلك التّآزر الاجتماعي والأمن والاستقرار للجميع .
الخصلة الحادية عشرة : أن يكون بالطّبع محبّاً للعدل وأهله ، ومبغضاً للجور وأهلهما ، ثمّ أن يكون عدلاً غير صعب القياد ولا جموحاً ولا لجوجاً إذا دُعي إلى العدل ، بل صعب القياد إذا دُعي إلى الجـور وإلى القبيح . فالعدل خيرٌ والخيرُ مجلبةٌ للسّعادة ، والجورُ ظُلمٌ ، والظّلم مجلبةٌ للشّر والشّر مجلبةٌ للشّقاء .
الخصلة الثّانية عشرة : أن يكون قوي العزيمة_على الشّيء الّذي يرى أنّه ينبغي أن يُفعل _جسوراً عليه، مقداماً غير خائف ولا ضعيف النّفس .
والرّئيس ليس هو من لا يملك القدرة على إرشاد وإنهاض غيره ، فهذا يكون مرؤوساً وفي كلّ شيء ، فالرّئيس :"من كانت له قوّة على أن يرشد غيره إلى شيء مّا يحمله عليه أو يستعمله فيه،فهو رئيس في ذلك الشّيء على الّذي ليس يمكنه أن يفعل ذلك الشّيء من تلقاء نفسه " ، وهذا إن دلّ على شيء إنّما يدلّ على ضرورة توفّر الاستعداد والموهبة للرّياسة بشكل فطري في الرّئيس .
من ناحية أخرى هنالك رئاسات يكون فيها الرّئيس مرؤوساً لرئيس آخر وفـق تسلسل تراتبي ، باستثناء الرّئيس الأوّل الّذي لا يحتاج ولا في شيء أن يرأسه إنسان ، الأمـر الّذي يستدعي أن تكون العلوم والمعارف لديه حاصلةً بالفعل ولا حاجة به أن يرشده غيره في شيء ، وتكـون له قدرة عل جـودة إدراك شيء ممّا ينبغي أن يعمـل من الجزئيّات ، وقوّة على جودة إرشاد لكلّ من سواه إلى كلّ ما يعلّمه ويكون لديه قدرة على تقدير الأعمال وتحديدها وتسديدها نحو السّعادة وهذا لا يكون على حدّ قوله إلاّ : " في أهل الطّبائع العظيمة الفائقة إذا اتّصلت نفسه بالعقل الفعّال "
ويتمّ بلوغ ذلك بأن يحصل له أوّلاً العقل المنفعل ثمّ أن يحصل له بعد ذلك العقل المستفاد : " فبحصول المستفاد يكون الاتّصال بالعقل الفعّال " بمعنى أنَّ العقل المستفـاد هو الصلـة الّتي تصل بين العقل المنفعل والعقل الفعّـال، والشّخص الّذي يحصل له ذلك _ كما هو الحال عند القدماء _ هو الملك الّذي يوحى إليه كونه بلغ هذه الرّتبة ، فتفيض من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل القوّة الّتي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السّعادة:"ويتمّ ذلك على اعتبار أنَّ العقل المنفعل هو شبه المادّة والموضوع للعقل المستفاد، والعقل المستفاد شبه المادّة والموضوع للعقل الفعّال ، وبما أنَّ العقل الفعّال فائضٌ عن وجود السّبب الأوّل ، يمكن القول بأنَّ السّبب الأوّل هو الموحي إلى هذا الإنسان بتوسّط العقل الفعّال"بناءً على ذلك يستنتج الفارابي بأنَّ رئاسة هذا الإنسان الموحى إليه من السّبب الأوّل بتوسّط من العقل الفعّال هي الرّئاسة الأولى في حين أنَّ سائر الرّئاسات متأخّرة عن هذه وكائنة عنها .. وينتج من ذلك أنَّ النّاس الّذين يُدَبَّرون برئاسة هذا الرّئيس هم النّاس الفاضلون والأخيار السّعداء ، فإن كانوا أمّةً فتلك هي "الأمّة الفاضلة"،وإن كانوا أُناساً مجتمعين في مسكنٍ واحـد يجمـع جميع من تحت هذه الرّئاسة فهي "المدينة الفاضلة" أمّا من كانوا في مساكن متفرّقة يُدَيَّر أهلها برئاساتٍ أُخر غير هذه كانوا أناساً أفاضل يعرض تفرّقهم لأسبابٍ متعدّدة، إمّا أنّه لم تتّفق لهم بعد مدينة يجتمعون فيها ، أو أنّهم كانوا في مدينةٍ عرضت لها آفات من عدوٍ أو وباء أو جدبٍ أو غير ذلك فاضطرّوا إلى التّفرّق،بعد ذلك ينتقل الفارابي للحديث عن طبيعة المدينة أو الأمّة الواحدة أو الأمم الكثيرة الّتي يتواجد فيها جماعة من الملوك في وقتٍ واحد، بأنّها تكـون موحّدةً كملك واحد نظراً لاتّفاق هممهم وأغراضهم وسِيَرِهم ، فتصبح القيادة الجماعيّة أمـراً يسيراً فيما بينهـم لعلّة تجانسهم ووحـدة مقاصدهم وأهدافهم ، وعليه يكون بالإمكـان تشكيل مجلس رئاسة منهم ، فتكون نفوسهم كنفسٍ واحدة حتّى إذا توالوا في الأزمان واحداً بعد آخر ، بحيث يكون الثّاني على سيرة الأوّل والغابر على سيرة الماضي ، وهذا التّواصل بين الماضي والحاضر والمستقبل لا يعني الجمود والتّقليد الكامل، إنّما يخضع لمنطق التّجديد والتّطوّر طبقاً لقول الفارابي : " وكما أنّه يجوز للواحد منهم أن يغيّر بشريعة قد شرّعها هو في وقتٍ إذا رأى الأصلح تغييرها في وقتٍ آخر ، كذلك الغابر الّذي يخلف الماضي له أن يغيّر ما قد شرّعه الماضي ، لأنَّ الماضي نفسه لو كـان مشاهداً للحال لغيّر " (فالحياة ليست جامدةً بل متحرّكةً تتطوّر في كلّ عصر فتكون مقتضيات العصر قاضيةً بالتّعامل معها بالشّرائع الملائمة .
الخصال الواجب توفرها في رئيس المدينة الفاضلة:
ينبغي لرئيس المدينة الفاضلة حيازة اثنتي عشرة خصلة تكون قد اجتمعت فيه بالطّبع ويكون قد فُطِرَ عليها ، بالإضافة إلى توفّر ستة شروطٍ أخرى مكتسبة لكنّها لازمة . الخصلة الأولى : أن يكون سليم البدن ، تام الأعضاء بحيث تكون قواها مؤاتية أعضائها على الأعمال الّتي شأنها أن تكون بها ، ومتى همّ بعضوٍ مّا من أعضائه عملاً يكون به ، فأتى عليه بسهولة . بمعنى أنَّ الجسد منظومةٌ متكاملة إذا اعتلَّ عضوٌ من أعضائه نجـم عنه اضطّرابٌ في القيام بعمل العضـو المعتلّ من ناحية وانعكس اعتلاله على باقي أعضاء الجسد من ناحية أخرى. ناهيك عن أن الرّئيس صورةٌ عن العقل الفعّال وعلى علاقةٍ واتّصال بالسّبب الأوّل، الموجود الكامل ، واجب الوجود ، المنزّه عن كلّ نقص واعتلال ، فلا يجوز أن يعتريه النّقص والاعتلال .
الخصلة الثّانية: أن يكون بالطّبع جيّد الفهم والتّصوّر لكلّ ما يقال له فيلقاه بفهمه على نحـو ما يقصده القائل ، وعلى حسب الأمر في نفسه ووجود هذه الخصلة في الرئيس تمليها الضرورة لئلاَّ يخطئ في فهم الآخرين فيخطئ في التّدابير الّتي يلجـأ إليها ، من هنا يعدّ الفهم الصّحيح والقدرة على تفسير العالم والأشياء الموجودة فيه _ بما فيها العلاقات الاجتماعيّة _ أحد أهم الشروط الّتي تقوم عليهـا نظريّة المعرفة ، حتّى يتسنّى التأثير فيه تأثيراً إيجابيّاً يأخذ بنظر الاعتبار الخصائص الذّاتيّة والموضوعيّة للعالم والمجتمع والأشياء ، ويحول دون الوقوع في الخطأ والضّلال .
الخصلة الثّالثة : أن يكون جيّد الحفـظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه ، وفي الجملة لا يكاد ينساه وهذا يتطلّب وجود جملة عصبيّة سليمة ومعافاة، والغاية من وجود هذه الخصلة، هي حتى يكون الرّئيس على بيّنة في تدبّر القضايا والأحكام فلا يقع في الزّلل .
الخصلة الرّابعة : أن يكون جيّد الفطنة ذكيّاً،إذا رأى الشيء بأدنى دليل فطن له على الجهة الّتي دلَّ عليها الدّليل. وهذه خصلة أساسيّة في الخصال الواجب أن يتمتّع بها الرّئيس فيكون جيّد التّذكّر والانتباه ، لبيداً ذو حاسّة مرهفة تمكّنه من الوصول إلى الشّيء بأقلّ الأدلّة .
الخصلة الخامسة : أن يكـون حسن العبارة ، يؤتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره إبانة تامّة ، وهذا يعني تطابق اللّفظة مع الفكرة تطابقاً تامّاً حتّى لا يقع التباسٌ في التّعبير والإبانة،لأنَّ من يخونه اللّسان عن حسن نيّة ، يفتح الباب للتّأويل الخاطئ لما يُقال .
الخصلة السّادسة: أن يكون محبّاً للتّعليم والاستفادة، منقاداً له سهل القبول،لا يؤلمه تعب التّعليم،ولا يؤذيه الكدُّ الّذي ينال منه ، لأنَّ العلم زاد المعرفة والمعرفة نور الحقّ الّذي لا ينطفئ ، وبالعلم تتهذّب النّفوس وتصفوا . وبالتّالي يكون الرّئيس على درجة من العلم والمعرفّة تمكّناه من حلّ جميع القضايا والمشكلات الّتي تواجهـه بالمنطق والعقل والحوار ، وتفادي اللّجوء إلى العنف وسفك الدّماء وما شاكل ذلك .
الخصلة السّابعة : أن يكون غير شرهٍ في المأكول والمشروب والمنكوح، متجنّباً بالطّبع للّعب مبغضاً للذّات الكائنة عن هذه . لأنَّ الإسراف في طلب تلك الأمور من شأنه أن يصـرف الرّئيس عن تدبّر أمـور الرّعيّة ويفقده مكانته ومهابته .
الخصلة الثّامنة : أن يكون محبّاً للصّدق وأهله ، مبغضاً للكذب وأهله . الأمر الّذي يُكسِبهُ ثقة الجمهور ومحبّته ، ويزرع المهابة في نفوس مواطنيه جميعاً .
الخصلة التّاسعة : أن يكون كبير النّفس ، محبّاً للكرامة ، تكبر نفسه بالطبع إلى الأرفع منها ، وهي نقطة جوهريّة كون الرّئيس مثلاً أعلى للرّعيّة يتشبّهون به ويقتفون أثره فإن هانت عليه كرامته ستجد أصداء لها في نفوسهم ، وإن عفّت عليه نفسه وكانت الكرامة عنوان شخصيّته ستجد تجليّاتها في كرامتهم طبقاً للمثل الشّائع " أخلاق الرّعيّة من الرّاعي " .
الخصلة العاشرة : أن يكون الدّرهم والدّينار وسائر أعراض الدّنيا هيّنةً عنده ،وهذا تكريسٌ للعادات والأخلاق المتوارثة منذ القدم ، كعادات الكرم والسّخاء ، والإيثار ، وغيرها،حتّى إذا عمَّ هذا المبدأ لم يعد للسّحت مكان ٌ في الأمّة ، ولم يعد أحدٌ محتاج فيها فيتحقّق بذلك التّآزر الاجتماعي والأمن والاستقرار للجميع .
الخصلة الحادية عشرة : أن يكون بالطّبع محبّاً للعدل وأهله ، ومبغضاً للجور وأهلهما ، ثمّ أن يكون عدلاً غير صعب القياد ولا جموحاً ولا لجوجاً إذا دُعي إلى العدل ، بل صعب القياد إذا دُعي إلى الجـور وإلى القبيح . فالعدل خيرٌ والخيرُ مجلبةٌ للسّعادة ، والجورُ ظُلمٌ ، والظّلم مجلبةٌ للشّر والشّر مجلبةٌ للشّقاء .
الخصلة الثّانية عشرة : أن يكون قوي العزيمة_على الشّيء الّذي يرى أنّه ينبغي أن يُفعل _جسوراً عليه، مقداماً غير خائف ولا ضعيف النّفس .
إرسال تعليق