عُرف النمل بالحشرة الاجتماعية لأنه يعيش في جماعات منظّمة تُعرف بالمستعمرات، وقد يصل عدد أفراد المستعمرة إلى الآلاف. والنمل من رتبة الحشرات الغشائية الأجنحة، ولكلّ فرد من أفراد المستعمرة عمل؛ فالملكة وظيفتها وضع البيض، وبقية الإناث شغالات، أما الذكور فوظيفتهم الوحيدة تلقيح الملكات. وللنمل لغة خاصة يتفاهم بها في سهولة ويسر؛ إذ تفرز النملة من قرني استشعارها مادةً يشمّها النمل فتعبّر عما يريده.
النمل حشرة ناجحة في المناطق الحضارية؛ لأن لها قدرةً على استخدام أيّ نوع من الغذاء؛ فهي تأكل كثيراً من المواد النباتية والحيوانية، وأغلبها يفضّل الغذاء الغني بالسكريات والكربوهيدرات والزيوت والبروتينات، وكثير من النمل يزور الأشجار لجمع الرحيق.
عالم النمل مملوء بالأسرار التي تفيض بوحدانية الخالق عز وجل؛ فقد وهبه الله ذكاءً حاداً، وفي هذا الصدد يقرّر علماء الحشرات أن النمل يتميز بذكاء خارق يدلّ عليه قيامه بعملية فلق الحب قبل تخزينه في مخازن لكيلا ينبت، والحبوب التي لا يستطيع النمل فلقها يعمد إلى نشرها في الشمس بصفة دورية ومنظّمة؛ حتى لا يصيبها البلل أو الرطوبة فتنبت. وللنمل طرائق فريدة في جمع المواد الغذائية وتخزينها والمحافظة عليها؛ فإذا لم تستطع النملة حمل ما جمعته في فمها كعادتها لكبر حجمه حرّكته بأرجلها الخلفية، ورفعته بذراعيها. ومن عادة النمل أن يقضم البذور قبل تخزينها؛ حتى لا تعود إلى الإنبات مرة أخرى، ويجزّئ البذور الكبيرة كي يسهل عليه إدخالها في مستودعاته، وإذا ابتلّت البذور بفعل المطر أخرجها إلى الهواء والشمس لتجفّ. ولا يملك الإنسان أمام هذا السلوك الذكيّ للنمل إلا أن يسجد لله الخالق العليم، الذي جعل النمل يدرك أن تكسير جنين الحبة، وعزل البذرة عن الماء والرطوبة، يجعلانها لا تنبت (يعطّل إنباتها).
وعلى الرغم من ضراوة النمل في الهجوم، واستماتته في الدفاع عن نفسه، نجد هناك علاقات مشتركة بين النمل وحشرات المنّ وغيرها؛ فقد زوّد الله عز وجل النملة بالقدرة على إفراز مواد كيميائية مطهّرة تستطيع بها تعقيم العشّ، وتطهير اليرقات والبيض لئلا تهلكها البكتريا والفطور؛ فهي تقوم بتغليف الشرانق بغلاف من هذه المادة يحميها من شر البكتريا، وتستخدمها أيضاً لتطهير غذائها المخزّن مدةً طويلةً، ولولا هذه المادة لهلك النمل على الأرض، فسبحان الله. وتستطيع النملة أن تفرز حمض النمليك الذي يُعدّ مادةً مخدرةً للخصم تستخدمه للدفاع عن نفسها. وقد كرّم الله النمل في القرآن الكريم؛ فجعل إحدى سوره تحمل اسمه، وهي سورة النمل، كما جاء ذكره أيضاً في قصة نبيّنا سليمان عليه السلام.
هناك خمسة عشر ألف نوع من النمل متعددة الألوان والأشكال تعيش في كل بقاع الأرض، منها:
- النمل الكيميائي: وهو متخصّص في مضغ الخشب، وتحويله إلى نوع من الكرتون، ثم يبني من هذا الكرتون طرازاً هندسياً عجيباً.
- نمل الحصان: ويستطيع أن يرفع أثقالاً تعادل 52 ضعف وزنه، وهو ما يوازي قدرة الإنسان على رفع أربعة أطنان بأسنانه.
- النمل الفلاح: وهو يمارس الزراعة؛ إذ يزرع نبات عشّ الغراب، ويجلب له السماد من الأوراق المتعفّنة، ثم يحصده عند نضجه، ويخزّنه في مخازنه.
- النمل الأبيض: وتضرب جنوده برؤوسها الكبيرة جدران الأنفاق إذا شعرت بهجوم على عشّها أو أيّ خطر يتهدّدها، فتفهم ذلك بقية أفراد النوع، وتقوم بعمل اللازم نحو حماية نفسها من الخطر المحدق بها. ويرى بعض العلماء أن النمل الأبيض هو دابّة الأرض التي أكلت عصا سليمان المشار إليها في قوله تعالى: }فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ{ (سبأ: 14).
- أتا: وهو نوع إذا حفرتَ في مستعمرته على عمق أكثر من متر وجدت في حجرة خاصة كتلاً متبلورة بنية اللون من مادة شبيهة بالإسفنج، هي في الواقع أوراق متحللة لنوع معين من النبات يسمى (الكيريزويت)، إذا دقّقت فيها النظر وجدت خيوطاً بيضاء رائعة من فطر (عش الغراب)، وهو الطعام الوحيد لهذا النوع من النمل، الذي يعيش أغلبيته في المناطق المدارية.
ذكر أحد علماء الحشرات أنه رأى مدينةً هائلةً للنمل في بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية بلغت مساحتها خمسين فداناً، وكانت مكوّنة من ألف وستمئة عشّ، ارتفاع معظمها قرابة ثلاثة أقدام، ومحيطها اثنا عشر قدماً عند القاعدة. والأغلبية العظمى من أعشاش النمل توجد تحت الأرض، ويحتوي العشّ عادةً على عدة طوابق، ربما يصل عددها إلى عشرين طابقاً في جزئه الأعلى، وعلى عدد مماثل من الطوابق تحت سطح الأرض، ولكل طابق غرضه الخاصّ الذي تحدده أساساً درجة الحرارة؛ فالجزء الأكثر دفئاً في العش يحتفظ بيه خصيصى لتربية الصغار. ومن مظاهر مجتمع النمل قيامه بمشروعات جماعية؛ مثل إقامة الطرق الطويلة في مثابرة وأناة، وتحرص مجموعاته المختلفة على الالتقاء في صعيد واحد من آنٍ إلى آخر، ولا تكتفي هذه المجموعات بالعمل نهاراً، بل تواصل العمل ليلاً في الليالي القمرية، لكنها تلزم مستعمراتها في الليالي المظلمة.
يضيف العلم الحديث حقائق جديدة عن أبقار النمل وزراعتها؛ فقد ذكر أحد علماء التاريخ الطبيعي، وهو رويال ديكنسون، في كتابه (شخصية الحشرات) أنه ظلّ يدرس مدينة النمل نحو عشرين عاماً في بقاع مختلفة من العالم، فوجد نظاماً لا يمكن أن نراه في مدن البشر، وراقبه وهو يرعى أبقاره، وما هذه الأبقار إلا خنافس صغيرة ربّاها النمل في جوف الأرض زماناً طويلاً حتى فقدت في الظلام بصرها. وإذا كان الإنسان قد سخّر عدداً محدوداً من الحيوانات لمنافعه فإن النمل قد سخّر مئات الأجناس من حيوانات أدنى منه جنساً، نذكر منها على سبيل المثال (بق النبات)، تلك الحشرة الصغيرة التي تعيش على النبات، ويصعب استئصالها؛ لأن أجناساً كثيرة من النمل ترعاها. ولأن داخل المستعمرة لا يمكن أن تعيش النباتات فإن النمل يرسل الرسل لتجمع له بيض هذا البق، ويُعنى به ويرعاه حتى يفقس وتخرج صغاره؛ فإذا كبرت درّت سائلاً يحلو لبعض العلماء أن يسمّيه (العسل)، وتقوم على حلبه جماعة من النمل لا عمل لها إلا حلب هذه الحشرات بمسّها بقرونها، وتنتج هذه الحشرة 48 قطرةً من العسل كلّ يوم، وهو ما يزيد مئة ضعف عما تنتجه البقرة إذا قارنّا حجم الحشرة بحجم البقرة. ويقول العالم رويال ديكنسون: إنه وجد أن النمل زرع مساحةً بلغت خمسة عشر متراً مربعاً من الأرض؛ إذ قامت جماعة من النمل بحرثها على أحسن ما يقضي به علم الزراعة، وقامت جماعة ثانية بزرع الأرز، وأزالت ثالثة الأعشاب، وقامت أخرى بحراسة الزراعة من الديدان. ولما بلغت عيدان الأرز نموّها كان يرى صفاً من شغالات النمل لا ينقطع يتّجه إلى العيدان فيتسلّقها إلى خبّ الأرز، فتنزع كلّ شغالة من النمل حبةً، وتنزل بها سريعاً إلى مخازن تحت الأرض.
يهتم النـمـل بفصل الـشـتاء الذي يبيت فيه؛ لذلك يجمع طعام الشتاء طوال فصل الصيف، ويخرج من مبيته في أول يوم دافئ. والعبرة من تصرّفات النمل هذه هي: لا تستسلم أبداً، وفكّر دائماً فـي الـمـسـتـقـبـل، وكُنْ إيـجـابـيـاً، وافـعـل كلّ ما تـسـتـطـيـع فعله عندما تكون قادراً.
أماني البحيري
الرياض - السعودية
الرياض - السعودية
المراجع:
- كتاب )شخصية الحشرات) ، رويال ديكنسون.
إرسال تعليق