U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

إريك فروم.. وتأملات إنسانية في فنون العيش:

الحجم
يُقدِّم إريك فروم في كتابه الفذ “فن الوجود”، مجموعة من التأملات المتعلقة بسبل تحقيق فن الوجود في عصر بات يصرف الإنسان عن ذاته ووعيه الذاتي، ويجعله أكثر حرصًا على ما “يملك” أكثر من ما “يكون”، أي كينونته، وموضوع هذه التأملات هو الوصول إلى الكينونة، أي الجانب الداخلي الأصيل في الإنسان.
وموضوع الكينونة هو الوعي الذاتي والإدراك واليقظة، والتجدد الداخلي للإنسان، وتصالح الإنسان مع ذاته وتجاوز أوهامه عن ذاته، وتحقق الاتساق الداخلي، والبحث عن سبل العيش الإنسانية في نمط حياة يصرف الإنسان عن إنسانيته.
وليست هذه التأملات مجرد تأملات نظرية مثالية، بل هي تأملات مستوحاة من تجربة الكاتب، ومن أسئلة عملية وحياتية متعلقة بكيفية التحرر من أسر الحياة المادية، كما تستند هذه التأملات إلى حكمة المعلمين من الشرق والغرب، ولا ننسى التحليل النفسي الذي برز فيه إريك فروم وطوَّر فيه.
ويبدأ فروم تأملاته بالحديث عن معوقات والعقبات التي تواجه الفرد في طريقه نحو فن الوجود، وسنتحدث هنا بإيجاز عن هذه العقبات:
ـ الكذبة الكبرى
يشير فروم في هذه العقبة إلى فكرة حالة الكذب الموجودة في العالم؛ سواء في السياسة أو الاقتصاد أو الثقافة، والتي تغلفها الشهرة والسلطة والمال فتعمي عن حقيقتها الداخلية، لكنه يخصص حديثه عن الكذب الأكبر والأكثر أهمية؛ ألا وهو الكذب في مجال خلاص الإنسان وكينونته المثلى وتطوره الداخلي وسعادته.
وهي التي تتغلف بعبارات يتم استغلالها تجاريًا، ومن ثمَّ ابتذالها في الخطاب والممارسة مثل: “تطور الإنسان”، و”تحقيق الذات”، و”الـ هنا والـ الآن”، والتي تأسست عليها مشاريع ومؤسسات ودورات حظيت بالشهرة، والتي تنتهي إلى اختزال سعادة الإنسان في مقولات معينة أو تعويضات أو طقوس فارغة.
ويعلق فروم على مكمن الثغرة في هذه الخطابات، هو أنها تغفل وجود الشر والألم واليأس في الحياة، أو تحاول أن تتعامى عن وجوده، في حين أنه لا يمكن أن ينبني الإيمان بالحياة وبالإنسان ذاته وبالآخرين إلا على وجود أساس واقعي، والتغافل عن كل ذلك لن يكون إلا أمرًا مضللاً للإنسان عن ذاته لا دليلاً نحو الوعي بذاته.
ـ الحديث التافه
الحديث التافه هو إحدى عقبات تحقيق فن الوجود، وكلمة “التفاهة” تشير إلى إحالة ورتابة ونقص القدرة، وهي تعبر عن موقف يهتم بظاهر الأمور فحسب، وليس بأسبابها ومضامينها الجوهرية، كما أنها تشير إلى اللا حياة واللا استجابة، وتصرف الإنسان عن مهمته الأساسية في الوجود المتعلقة بتجدده واكتماله الذاتي.
وتتعاظم صعوبة هذه العقبة بحكم حالة الجماهيرية والفرجة التي تعيش بها مجتمعاتنا، والتي تعزز من حالة التفاهة، ومن تجليات هذه التفاهة كثرة الحديث عن الذات والممتلكات والغرور، أو كما يعبر فروم عن حالة إدمان الكلام: “أنا أتكلم إذن أنا موجود، أنا أتكلم إذن أنا لست نكرة، أنا أتكلم إذن لدي ماضٍ وعمل وأسرة، وبحديثه عن كل ما سبق فأنا أؤكد على ذاتي، إلا أنني أحتاج إلى من يستمع إلي، فإذا كنت سأتحدث إلى نفسي فقط فسأفقد عقلي”، ووجود المستمع هنا لا يعدو كونه مونولوجًا لا أكثر.
ـ لا جهد – لا ألم
لدى معظم الناس قناعة بأن إنجاز كل شيء – بما في ذلك المهام والأمور الصعبة – يجب أن يتم دون بذل جهد، أو بأقل قدر ممكن من الجهد.
وتتعزز هذه القناعة مع التقدم التقني الذي سهَّل كل العمليات الجسدية منها والعقلية، وجعل معظم الأشياء التي كانت تحتاج إلى بذل جهد أمرًا في متناول اليد.
وتأثير هذا الأمر على تعلم فن الوجود هو أن تجنب الجهد وما يقتضيه من ألم ومعاناة جسدية أو عقلية، يعيق أي عملية تطور إنساني داخلي حقيقي، لأن كل تطور يقتضي قدرًا من الألم والجهد والتعب، سواء أكان تطورًا ماديًا أو نفسيًا أو روحيًا.
ـ مناهضة السلطوية
العقبة الرابعة أمام تعلم فن الوجود هو الرهاب من كل ما هو سلطوي، أي من كل ما هو قسري على الفرد ويحثه على الانضباط.
وتتعزز الحاجة للوعي بهذه المسألة بعد أن زادت دعوات التحرر من قيد المجتمع والمؤسسات والضبط الاجتماعي والسياسي القائم، والتي وصلت إلى حد الإعلان عن الحرية الجنسية.
هذه الثورة الجنسية كانت لها مآلات وأعراض جانبية سيئة تكمن في أنها عملت على تأسيس لحرية الندوة بدلاً من حرية الإرادة، والندوة هي أية رغبة تخرج عفويًا من دون أية صلة بنيوية مع الشخصية الكاملة وأهدافها، ومعيار النزوة هو أنها تجيب على سؤال “لم لا أفعل ذلك؟” وليس عن سؤال “لماذا أفعل ذلك؟”.
بمعنى أنه بمجرد زوال الموانع، فإن الفعل يكون مباحًا بالنسبة للنزوة، من دون مساءلة هذا الفعل وتحكيمه.
وبعد ذكر العقبات أمام تعلم فن الوجود، يشرع فروم بالحديث عن طرق ومداخل لتعلم هذا الفن، وهي ليست عبارة عن قوانين وكتالوج للسعادة والخلاص، وإنما مجرد إرشادات وتأملات تساهم في طريق الإنسان نحو الوعي الذاتي والوصول للكينونة.
وسنذكر هنا بإيجاز أهم ما أورده في هذا الموضوع، مع التنبيه على الضرورة الرجوع للكتاب لما فيه من تفصيل مهم:
ـ الرغبة بالشيء
ينبه فروم إلى ضرورة الرغبة بشيء واضح ومحدد واتخاذ قرار بشأنه وإلزام الذات بتحقيق هدف معين، مما يجعل طاقة الإنسان تتجه نحو هدفه المختار، في حين لو توزعت طاقات الإنسان في اتجاهات مختلفة فستتضاءل وتنقسم كمية الطاقة التي يستخدمها للوصول إلى هدفه.
وهذا قد يتحول إلى حالة عجز عن اتخاذ أي قرار، مما يجعله في النهاية عاجزًا عن التصرف.
ـ الإدراك
يقصد فروم بالإدراك هنا الوعي بحقيقة الذات، والمقدرة على كشف التناقض الداخلي، وتعرية أوهام الذات وتقوية التساؤل وملكة النقد.
فقوة موقع الإنسان في الحياة يعتمد على “درجة كفاءة إدراكه للواقع، وكلما نقصت كفاءته يزداد تشوشه، وبالتالي يتنامى شعوره بعدم الأمان، فيصبح بحاجة إلى أوهام يتكئ عليها ليجد الأمان الذي ينشده، وكلما تزداد إمكانياته في الوقوف على قدميه وإيجاد جوهره داخل ذاته”.
ولذلك يوجد لإدراك الحقيقة أثرٌ تحريري، فالإدراك يطلق طاقة الإنسان وحرر عقله من الغشاوة التي تعتريه، مما يجعله أكثر استقلالية، وبالتالي أكثر امتلاءً بالحياة.
ـ التركيز
يلمح فروم إلى التركيز في عالم اليوم قد أصبح من الأشياء الصعبة، فيذكر التلفاز كمثال لتعليم “اللا تركيز”، بالمقاطعات الإعلانية وصخب البرامج والتنقل المستمر، مما يجعله مشروطًا بحالة اللا تركيز، ومن الجدير بالذكر أنه توفي قبل تضخم شبكة الإنترنت وشمولها، والسرعة والصخب واللا تركيز الذي تثيره وترافق مستخدميها.
إن الناس يخشون التركيز؛ لأنهم يخشون أن يفقدوا ذواتهم إذا ما استغرقوا في شيء أو شخص أو فكرة ما، “وكلما ضعفت ذات المرء تتعاظم خشيته من فقدانها أثناء التركيز، والنسبة لشخص لديه نزعة تملكية مهيمنة، لأن خوفه من ضياع ذاته هو أحد العوامل الأساسية الذي يجعله يتوجه إلى عكس التركيز”.
ولكن فروم يشير إلى خطأ تصور الناس عن التركيز باعتباره نشاطًا مرهقًا يتعبون منه بسرعة، بل على العكس من ذلك، “فالنقص في التركيز يجعل المرء متعبًا، بينما يجعله التركيز يقظًا”، وبالتالي أكثر قربًا من ذاته ووعيًا بها، وأكثر قدرة على إدارة الصخب المحيط والداخلي أيضًا.
ولا يكتفي فروم بتوصيف الأمر، بل يقدم نصائح عملية لذلك، وكخطوة أولى، يقدِّم فروم تدريبات يقوم على تحقيق السكون التام، عن طريق الجلوس بسكون تام، لعشر دقائق مثلاً، بحيث لا تأتي بأي حركة، ومحاولة صرف أي فكرة قد تخطر على البال قدر الإمكان، ولكن في نفس الوقت يجب أن تدرك ما يجري داخلك.
قد يظن المرء أن هذا أمرًا سهلًا، ولكنه صعب ويحتاج لمجاهدة، ولكن إذا تمكنت منه فإن أثره عظيم جدًا (وقد جربته شخصيًا وأنصح بذلك).
ولا يكتفي الموضوع هنا بمجرد تمارين، بل على الإنسان أن يعلم نفسه التركيز في حياته وفي كل ما يمارسه، وأن يصفي ذهنه لشيء واحد عندما يمارسه، أو كما قال أحد أساتذة الزّن: “عندما أنام فأنا أنام، وعندما آكل فإني آكل…”.
ـ التأمل
أحد أهم أشكال التركيز والتي تساهم في تعلم فن الوجود هو التأمل، ولكن حتى يستطيع الإنسان أن يتحقق بالتأمل الذي يعزز وعيه وإدراكه الذاتي عليه أن يتعلم التأمل في كل لحظاته اليومية، بمعنى أن لا يفعل شيئًا بتركيز مشتت، وإنما بتركيز كامل على ما تفعله، سواء أكان في المشي أو الأمل أو التفكر أو الرؤية، “وهكذا تصبح الحياة بالنسبة لك شفافة بوعي كامل”.
“إن الشخص الذي وصل إلى حالة من الوعي الذاتي الكامل هو إنسان يقظ، واعٍ للحقيقة بعمقها وتجردها وتناغمها، وهو أكثر تركيزًا وليس مشوشًا”.
*** *** ***
هذه تأملات إريك فروم لتعلم فن الوجود، وتجاوز الشخصية التملكية والنرجسية التي تحرف الفرد عن تطوره الذاتي الأصيل، وقد دعَّمها فرويد بفصول عن التحليل النفسي الذاتي، وينصح بقراءة الكتاب للاستزادة في هذا الموضوع الشيق.نتيجة بحث الصور عن إريك فروم.. تأملات إنسانية في فنون العيش
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة