أجرى الحوار : جاكلين بياتييه
ترجمة : الحسن علاج
ماذا يقصد نيتشه ب” إرادة القوة ” ؟ بعض المقاطع التي اقترحتها أخته تشير إلى أنه كان يدافع عن هيمنة الأقوياء على الضعفاء ، الأسياد على العبيد ـ وحتى [هيمنة] ” عرق سام ” . لقد ساعدت قراءة متأنية على تجديد مشروع نيتشه . وهكذا أبرز جيدا أنه لدى نيتشه ، فإن ” الإرادة هي التي تريد ” ، أن إرادة القوة لا تشير إلى إرادة مصادرة بل إلى حاجة داخلية إلى الابتكار ، رغبة كونية للتحقق . كما يتذكر هنا ميشال فوكو Michel Foucault) (ومازينو مونتناري (Mazzino Montinari) ، اللذان عملا على نشر أعمال الفيلسوف غير المنشرة ، تخلى نيتشه عن[كتاب] إرادة القوة في منتصف الطريق . فقد كان يرغب في كتابة [كتاب] قلب كل القيم ، الذي سيشكل [كتاب] ضد المسيح الكتاب الأول لذلك ـ نص يثبت ال” نعم للحياة ” .
سيختفي هذا النص الأساسي ، لكن الشكوك تحوم حوله
منذ متى تم إدراك أن عمل نيتشه كان يستوجب نشرا جديدا ؟
ميشال فوكو : في الواقع ، لا يوجد حاليا إلا كتاب واحد مشكوك فيه ، ألا وهو الكتاب الأخير ، إرادة القوة ، الذي ظهر في حياة نيتشه ، لكن بعد أن حرمه المرض من قدراته العقلية . وقد تكلفت أخته ، السيدة فورستر ، بنشر ملاحظات كان قد راكمها في سبيل عمل علق عليه أهمية قصوى . وهكذا قامت ب”تأليف ” الكتاب المعروف في الوقت الراهن بهذا العنوان ، والذي تزعم عثورها على على خطته . لم تقم على وجه الاحتمال على ابتكار أي شيء مما عملت على نشره . ولكن :
1(مما لاريب فيه أنها قامت بتقطيع نصوص موجودة مما يجعل معناها يتغير إلى حد ما ؛
2 ( بالاختيار من بين تلك الشذرات غير المنشورة ، عملت على إهمال ما له أهمية كبرى ؛
3 ( لقد قدمت تلك المقاطع ضمن ترتيب هي الوحيدة التي تتحمل مسؤوليته ، زاعمة أنها أعطت صورة للكتاب الذي كان نيتشه يرغب في كتابته . وخلاصة القول نجد أنفسنا أمام نفس القضية مثل طبعة [كتاب] خواطر باسكال . بالتأكيد إن نيتشه في عام 1889 ، والحالة هذه ، لم يكن قد قرر بعد ماذا سوف تكون بنية كتابه . اختارت أخته ترسيمة حيث يُلاحظ جيدا رسما تحضيريا على مسودة ، على أنه توجد [ترسيمات ] أخرى ، ولا شيء يثبت أن نيتشه كان سيختار في النهاية ذلك .
حينما وظف النازيون عمل نيتشه لأهداف سياسية ، فإن فكرة التحريف الممنهج لفكره بواسطة أخته قد فرضت نفسها . لقد أصبحت العودة إلى المخطوطات من الآن فصاعدا مرغوبا فيها أكثر فأكثر ، إن لم تكن ضرورية .
هل يبرر التوجه الذي منحته السيدة فورستر إلى إرادة القوة هذا التوظيف ؟
ميشال فوكو : لقد ارتبطت أخت نيتشه بأحد المؤسسين لأول تيار معاد للسامية بألمانيا . لقد سجل نيتشه في أكثر من مناسبة ، في رسائل ، خلافه مع صهره . لا يوجد بالطبع ، في هذا العمل المنشور ، أي أثر لهذا التفاوت . لاحظوا جيدا أنه لا يزال يجهل عما ستكشف عنه الأعمال غير المنشورة في تلك الحقبة ، لأنه لم يتم جردها بعد تماما . لقد قام كارل شليشتا ) (Karl Schlechta، بعد الحرب الأخيرة ، بأول مراجعة . لكنه لم يتمكن من الذهاب بذلك إلى أبعد الحدود .
كيف سيصبح إذن [كتاب] إرادة القوة في الطبعة الجديدة؟
ميشال فوكو : حسنا ! سيختفي هذا العمل الزائف . سيعود إلى وضعه الأول ، كما تركه لنا نيتشه . لن تحل محله إلا شذرات ما بعد الممات ، ستحتل على الأقل مجلدين من الطبعة الحالية .
على أنه سوف لن يتم الاقتراب من نص الأعمال الأخرى لنيتشه؟
ميشال فوكو : لتنسيق الكل ، قرر كلود غاليمارClaude Gallimard) ( مباشرة ترجمة جديدة سيعهد بها إلى قلة من المتخصصين . بيير كلوفسكي (Pierre Klossowski) الذي ينشر في الوقت الراهن المعرفة المرحة وكل الأعمال غير المنشورة المعاصرة التي قام بتأليفها ، أيضا سيترجم الأعمال غير المنشورة التي تعود إلى المرحلة الأخيرة . أنيطت بروفيني Rovini ( مهمة [ترجمة] إنساني مفرط في إنسانيته وزرادشت مع الأعمال غير المنشورة المناظرة لها . سينكب موريس دو غانديلاك Maurice de Gandillac) ( بكتابات الشباب ، التي ظلت مهمشة للغاية وغير مفهومة للغاية حتى الآن . سوف لن يفهم الفريق أكثر من ستة أو سبعة مترجمين ، نظرا للحجم الهائل من النصوص المراد ترجمتها ، ما الذي سيضمن تجانسا كبيرا للغاية .
ماذا يتوقع من كشف العديد من الأعمال غير المنشورة ؟هل ستعمل على تغيير الصورة التي نكونها عن نيتشه ؟
ميشال فوكو : على أي حال ستعمل على إضاءتها [الصورة] مع إدانة بعض السمات التي تقرب نيتشه بفضول ، باهتمامات الفلسفة المعاصرة .
1 ) كرست كتابات الشباب للفلسفة اليونانية . افتتح نيتشه تجربته الفلسفية باعتبارات حول اللغة . في القرن التاسع عشر ، وحتى منذ ديكارت ، تغذت الفلسفة الغربية على التفكير حول العلم ، الفيزياء والرياضيات أساسا . شكل سبينوزا استثناء ، لقد أتى هو نفسه إلى الفلسفة عبر الفيلولوجيا العبرية ، بتأويل التوراة . انضم الأكثر عبرانية والأكثر إغريقية إلى ذلك الاهتمام من أجل المكتوب . لكن هناك ما هو أكثر : يتبين أن نيتشه انضم هو أيضا إلى أبحاث الفلسفة المعاصرة وتساؤله بخصوص اللغة .
هل يعود الاهتمام باللغة إلى تأثير نيتشه ؟
ميشال فوكو : إطلاقا . يتعلق الأمر بمصادفة نراها اليوم . إن أبحاث برتران روسل ، عالم رياضيات ومنطقي ، أعمال هوسرل بألمانيا ، اهتمام فرويد بخطاب اللاوعي ، اللسانيات السوسيرية ، هي التي جددت توجه الفكر الحالي . نكتشف الآن ، والحال أن نيتشه ، هو ذاته ، وضع اللغة موضع تساؤل . وليس فقط من أجل العثور ، باعتباره فقيه لغة ضليع ، الشكل الصارم والمعنى الدقيق لما تمت كتابته ؛ ليس فقط للكشف ، باعتباره شارحا جيدا ، عن الدلالات الخفية ، بل لمساءلة وجودنا وكينونة العالم ذاتها ، انطلاقا مما نقول ؛ لمعرفة من يتكلم في كل ما قيل .
2 ) وبالنسبة للأعمال التي ظلت غير منشورة والتي كانت معاصرة للأعمال المنشورة ، فإنها تسلط عليها ضوءا غريبا . لما يقوم كاتب ما بكتابة خطاب متصل ، فإن المسودات التي يتركها وراءه تشكل مقاربة بعيدة عن النص النهائي إلى حد ما . ففي حالة كتابة حكمية ، تشكل الشذرات المتخلى عنها نصوصا أخرى : لا يشير نشرها إلى التكون البطيء لوحدة ما ؛ إنه يضاعف وينمي خلافا لذلك ، التبدد الحكمي . تحت غيمة النصوص المنشورة بواسطة المؤلف تظهر بذرة كاملة من النصوص الممكنة الأخرى ـ وهي [نصوص] مختلفة جذريا ، حتى وإن كانت متطابقة تقريبا . أصبح الكتاب ، محاطا بأعمال غير منشورة عمل على استبعادها في الظل ، مثل عالم من أحداث معزولة ، لكنها مرتبطة بعضها ببعض بشبكة غامضة من التكرارات ، التناقضات ، الإقصاءات ، التغييرات . يكرس الخطاب نفسه ، خارج كل رابط تركيبي أو بلاغي ، مثل غبار أحداث . الفكر الذي “يأتي ” ، القول الذي ” يحدث ” ، اقتحام الخطاب ـ هذه هي المشاكل والأشكال التي تنتمي مشتركة إلى نيتشه ومعاصره ملارميه . إنها تحاصرنا ، نحن أيضا اليوم .
سيقودنا الشكل الحكمي إذن إلى المركز ” النظري ” لعمل نيتشه ؟
ميشال فوكو : بالفعل . ففي قلب فكر نيتشه ، ثمة قضية الصيرورة والعود الأبدي ، أعني الآخر والمثيل . وما يعتبر آخر حتما هو الصيرورة : انفجار ، تمزق ديونيزوسي للزمن الذي يحدث ” تفجير ” الفكر . على أنه في ذات الوقت بالنسبة لنيتشه ، فإن ما يصير هو نفس الشيء ، فما هو آخر فهو في نفس الوقت المثيل ، حيث العود الأبدي أو الأصح العود الأبدي للمثيل . أيضا الحكمة التي هي في علاقة اختلاف شامل مع ما يحيط بها هي في الوقت نفسه ، كذلك ، ال”شيء نفسه ” وما تستثنيه . وهكذا توجد القضية المركزية معاد إنتاجها في شكل الخطاب نفسه .
هل تعتبر الصيرورة والعود الأبدي محورين لهذا الفكر ؟
ميشال فوكو : نعم . تظهر الصيرورة خاصة في النصوص الأولى ، لاسيما في أصل التراجيديا .العود الأبدي ، في المعرفة المرحة وزرادشت . إن تجربة الصيرورة ، بالنسبة لنيتشه ، في بداياته ، هي أساسا تجربة تراجيدية : ففي الصيرورة تتلاشى الفردية كما تتلاشى في الإرادة .
3 ) يتبقى أخيرا إسهام الأعمال غير المنشورة للفترة النهائية . لقد شكل العمل قيد التحضير بالنسبة لنيتشه حدثا سوف يهز العالم حتى أسسه . لوحظ لدى نيتشه بروز فكرة أن الفلسفة لا هي تأمل ولا هي نظرية ممارسة . إنها نشاط على اتصال مباشر بالعالم . اللغة ، الخطاب ، لا يعكسان العالم . إنها بشكل مباشر جزء من العالم . على أن العالم ، بالمقابل ، يشكل دعامة لما يُقال بداخله . كما أن هذا العمل الأخير ، في ذهنه ، الذي خلخل الخطاب الفلسفي بشكل جذري ، كان مدعوا إلى تغيير العالم .
هل لدينا أي فكرة عن التوجه الجديد الذي توقعه ؟
ميشال فوكو : في حقيقة الأمر ، لم يقل ذلك ، على الأقل في النصوص التي يضمها [كتاب] إرادة القوة. هل ستصبح الأعمال غير المنشورة أكثر وضوحا ؟ أشك في ذلك . كان يدرك ذلك من بعيد ، دون معرفة ما الذي يشتمل عليه هذا التغيير الجذري . لقد منح اسم الإنسان الأعلى لهذه الصورة غير المشكوك فيها التي كان عليها طرد الإنسان من ضوئه المؤقت . ”
Le Monde , 24 mai 1967
ــ
مصدر النص : Le Monde Hors Série édition 2019 , Friedrich Nietzsche L’éternel retour
ميشال فوكو (1926 ـ 1984 ) فيلسوف فرنسي ، اشتغل بالتدريس بالكوليج دو فرانس ، وفيه قام بإلقاء محاضرات في “تاريخ أنساق الفكر ” . قام بالإشراف رفقة جيل دولوز على طبع الأعمال الفلسفية الكاملة لنيتشه لدى دور نشر غاليمار .
إرسال تعليق