علموية الأخلاق النتشوية وتاريخها:
الحجم
يعتبر موضوع الأخلاق من بين أهم المباحث الفلسفية الكبرى التي شغلت تفكير العديد من الفلاسفة والمفكرين،ليس فقط من جانب القيم التي يتضمنها هذا المبحث فحسب،بل بإعتباره منهاجا يسير ويوجه الإنسان بإعتباره كائنا أخلاقيا،مما يجعله متميزا عن باقي الكائنات الأخرى ،وهذا واضح من خلال مراحل التاريخ البشري الذي لطالما حددها في السلوك العملي للإنسان وتنظيم حياته البشرية.
يريد جون لوك في كتابه”رسالة في الفهم البشري”القول التالي”إن الله لم يكن يضمن على البشرية بهذه الدرجة،وذلك بأن يجعلهم مخلوقات من ذوات الرجليين ثم يترك لأرسطو كي يجعلهم كائنات عاقلة…لقد منح الله الإنسان عقلا يفكر به دون أن يحتاج إلى تعلم طرق القياس “.
يحاول جون لوك من خلال هذا القول أن يبرهن على أن الإنسان قادر على التمييز بين الصواب والخطأ إنطلاقا من ملكات فهمه،موضحا بذلك؛أن الله لم ينرك لأساتذة الأخلاق الفرصة لكي يوجهوا الشخص،وأخد سلطة التمييز بين الصواب والخطأ مكانه،محددين منهاج فعله ومردودياته،لأن أستاذ الأخلاق هو ذاته يعيش وسط بنية إجتماعية ذات معايير أخلاقية مبهمة .لحد هذه اللحظة تعرفنا عن الأخلاق في شقها السلوكي العملي،{إفعل\لا تفعل}والتي تميز بين المحمود والمدموم ،وأنه وجب أن نتصرف وفق هذه النتيجة الحتمية{ صحيح \خاطئ}محترمين بهذا أبجديات الأخلاق الواجبة التي لطالما عاكست الأخلاق العواقبية في منهاجها وغاياتها.من خلال هذا التمهيد البسيط حول مفهوم الأخلاق،نستصيغ التساؤلات التالية:ألم يتغير مفهموم الأخلاق مع تطور التفكير الفلسفي من المعنى الأخلاقي الذي نميز فيه بين الخير والشر،إلى المعنى الذي نميز فيه بين الجيد والرديئ؟ومن هو الفيلسوف الذي قلب المفاهيم بلغة المعتاد،وأعاد للمفاهيم أصحيتها وقصدياتها المعلنة بلغته هو؟ألا يمكننا الحصول على أخلاق علموية،بدل الأخلاق السيكولوجية؟ إن الفيلسوف هو مادة متفجرة مروعة غير مألوفة على الإطلاق
من خلال هذا التعليق الذي تركه الفيلسوف الألماني نيتشه( 1844-1900)يظهر لنا جليا أنه لم تكن لذيه أية نية في أن يقدم لنا فلسفة مريحة ،لدرجة أن بعض معاصريه حموا أنفسهم من القراءة له،وهذا أمر بديهي أمام فلسفة تعتبر من بين أهم المرجعيات في نقد الحداثة ونقد الأنوار على وجه الخصوص،من خلال التركيز على فلسفتها ووعودها وعقلها.لقد إنخرط نيتشه في إشكالات عصره بقوة وعنف،ولعل أهمها تحطيم العقل الذي كان له مكانة مهمة في العصر الذي سبقه،”القرن الثامن عشر”،وفي الأن ذاته تأثر بالوضعية العلموية التي كانت سائدة أنذاك،والتي حاولت أن تعلن ثورة على الميتافيزيقا والغيبيات، هذا الإتجاه كان سيعى إلى تفسير الأشياء بالعلم،وبالتالي التعامل مع الموضوعات كظواهر علمية مباشرة،لا تعرف للماورائي معنى،وليس كجواهر وماهيات كما حصل مع فلاسفة القرن الماضي،إنطلاقا من التعامل مع “الأشياء في ذاتها”بما في ذلك الأخلاق والدين،وبهذا المنطق يمككنا القول وبدون شك أن نيتشه كان محكوما بالإبستيمي في نظامه المعرفي الذي جعل من الوضعية العلموية أساس راسخ له.
لقد كان نيتشه منخرطا في النزعة العلموية التي كانت سائدة في عصره بشكل نقدي في غالبية الأحيان،ولكن رغم ذلك لم يخرج عن إطارها العام.وذلك عن طريق تأكيده على ضرورة كسب مساهمة الفيزيولوجيين والأطباء لدراسة الأخلاق وتفسرها،بدل تفسيرها سيكولوجيا.ومن خلال هذه العبارة يتضح لنا جليا نقد نيتشه للمنهج السيكولوجي في تفسير الأخلاق،لأنها غير حامل للعلموية الكافية التي توجد في الفيزيولوجيا والطب،ونيتشه كان يسعى إلى أن يكون أكثر علمية في تفسيراته الأخلاقية،بغيةتحديد سلم القيم ومراتبها.
لقد نظر نيتشه إلى الأخلاق والقيم بإعبارها ظواهر وإنطلاقا من هذا المنظور العلموي الوضعي سوف يشرع نيتشه في فحص أخلاق عصره ،فيكتشف أنها مطبوعة بطابعين :الزهد الديني من جهة،والمعقولية الفلسفية من جهة أخرى ، الطبع الأول فكرسته المسيحية ،أما الثاني فقد عرف دروته مع فلسفة كانط،وأفلاطون الذي وحد بين الأخلاق والألوهية،وجعل من الخير مبدأ الأخلاق ووجود الإله في الآن ذاته-ومثله نجد كانط الذي جعل الأمر مطلقا لا يناقش لأنه مستمد من واجب عقلي والتعامل معها كأنها أوامر إلهية لا يمكن الطعن فيها.هذا ما دفع بنتشه إلى تسميتها بأخلاق التضليل والخداع لأنها تطلب من الإنسان أن يميت نزواته الحيوية،وهذا أمر مستحيل ومخالف لطبيعة الإنسان،وتطلب منه أن يسلك مراتب العقل وهذا أمر يفوق طاقته.
وعندما يريد نيتشه أن يقوم بإستعراض تاريخ الأخلاق وجده عبارة عن صراع بين أخلاق العبيد وأخلاق السادة، وغاية هذا الصراع هو الوصول “الإنسان الإرقى”وهكذا فتاريخ الأخلاق محكوم بقانون الحلاث الثلاث من جهة،وفكرة التقدم من جهة أخرى ،فأخلاق السادة تبدأ من العصر اليوناني الروماني،والذي إنتهي بسيادة أخلاق العبيد،وهي أخلاق اليهودية والمسيحية ،فيتغلب عامة الناس على الأرستقراطية الرومانية وتضحى السيادة للعبيد والضعفاء،وفي عصر النهضة يعيد التاريخ كرته فتظهر من جديد أخلاق السادة،غير أن ذلك لم يدم لفترة طويلة لأن أخلاق العبيد سوف تعتود متغلبة من جديد،وذلك بسبب الإصلاح الديني الذي كان مدعوما من طرف العوام والدهماء….ويدور التاريخ دورته المعتادة فتعود أخلاق السادة من جديد،وذلك مع نبلاء القرن السابع عشر والثامن عشر،ولكنها لن تدوم مرة أخرى طويلا ،لأنها سوف تهزم من طرف أخلاق العبيد بسبب الثورة الفرنسية،التي كانت هي الأخرى ثورة للعوام،وهكذا دواليك،غير أن هذا الصراع التاريخي سوف ينتهي بنتيجة واحدة ووحيدة ،وهي سيطرة أخلاق العبيد على الساحة،وما ظهور أخلاق السادة إلا بشكل عرضي،هذا ما يجعلها تختفي بسرعة.
وهكذا نرى بأن فكرة تقدم التاريخ عند نيتشه ،لا تسير في خط إتصالي مترابط،وإنما في خط إنفصالي تقاطعي محكوما بالصدفة والعرضية.
إن أخلاق العبيد التي يستمدها الكائن البشري من أفكار المسيحية،تصدر بمجملها عن العجز والضعف والجبن،ففي الوقت الذي تركز فيه السادة على التمييز بين الجيد والرديئ وتقوم على البطولة والمقدرة والشهامة التي عرف بها النبلاء الأرستقراطيين الأقواياء،الذين إذا ما صدر منهم خيرا فذلك دليل على الإمتلاء والبطولية،وليس الخوف والخنوع ما يدفعهم لفعله ،تركز أخلاق العبيد على التمييز بين الخير والشر،وعلى الإنتقام من السيد لأنه شر بالنسبة لهم،وبما أنهم يسلمون بعجزهم فإنهم يلجئون إلى قلب المفاهيم والأشياء،وذلك بتسميتها عكس إسمها الحقيقي.مثلا فالشعور بالعجز يسميه العبد(طيبوبة)،وعدم القدرة على رد الفعل يسميه(صبرا)،والخضوع (طاعة)،والعجز على الإنتقام (عفوا).
وفي إعتقادي أن نيتشه حاول أن يصالح الإنسان مع ذاته،عبر إزالة لتام الأخلاقويات الرخوة التي يحاول عن طريقها الكائن البشري تحقيق غيايات حقيرة لا تعبر عن إنسانيته وعن تجاوزه لوضعه.لهذا فنحن في حاجة ماسة إلى نتشه لفهم براديغم علاقاتنا الحياتية التي أضحت حياة أقنعة،أكثر من أي وقت مضى.
خلاصة القول تكتمل في أن هذا الإنتقاد اللاذع الذي واجه به نيتشه المسيحية ،فهو في سبيل تخليص أوروبا والعلم إذ لم أخف المبالغة في قولي،من الإنحلال ،ولتخلص من هذه الأخلاق وجب فضح مصدرها والأساس الذي تقوم عليه،وهذا يتطلب النظر إلى الأخلاق عموما بوصفها أنواعا من السلوك الصادر عن الطبيعة الإنسانية،وما يؤسسها من غرائز حب السيطرة وإرادة القوة ،أما تلك التصورات التي تنسب الأخلاق إلى الله،فهي أراء باطلة،هذا ما جعل نيتشه ينحو منحا علمويا على غرار معاصريه،فيخلص إلى أن الأخلاق هي ليست سوى لغة تعبر عن ما يروج في نفسيتنا تعبيرا رمزيا،والأحوال النفسية هي الأخرى ليست سوى لغة رمزية تعبر عن الوظائف العضوية في جسم الإنسان،وبالتالي فالأخلاق تجد نفسها في الفيزيولوجيا.لأنها تتماشى مع طبيعة الإنسان وقوانينها،عكس أخلاق الرحمة والشفقة التي لا تعبر عن قانون التطور والطبيعة ،فالتطور والتقدم يتحققان بإرادة الحياة والتحقيق الأفضل.إذن البديل للأخلاق السائدة حسب نيتشه،هو تحقيق “الإنسان الأعلى”الذي يعتبر المثل الأعلى للأخلاق.
المراجع المعتمدة:
الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري: كتاب قضايا في الفكر المعاصر،مركز دراسات الوحدة العربية،الطبعة الخامسة، ص 47
2- نفس المرجع ص 48-49-50
3-ياسر شعبان: كتاب الفلسفة نشأتها وتطورها وتاريخ العقل البشري،دار النشر:كنوز القاهرة،ص 119
4- المرجه نفسه:ص120-121
5- ذ :قلامين صباح،محاضرات في فلسفة الأخلاق، سلسلة المحاضرات العلمية ،.مركز جيل البحث العلمي لبنان، ص 11
6- نفسه:ص 12-13.
..........
عبد الكريم لمباركي
إرسال تعليق