U3F1ZWV6ZTM1MDgwNzg5ODg1MDQyX0ZyZWUyMjEzMTk5NTcyNTU4MA==

المقامة الابليسية لبديع الزمان :

الحجم

حَدَّثَنْا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ إِبِلاً لِي، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا، فَحَلَلْتُ بِوادٍ خَضِر، فَإِذَا أَنْهَارٌ مُصَرَّدَةٌ، وَأَشْجَارٌ بَاسِقَةٌ، وَأَثْمَارٌ يَانِعَةٌ، وَأَزْهَارٌ مُنَوِّرَةٌ، وَأَنْمَاطٌ مَبْسُوطَةٌ، وَإِذَا شَيْخٌ جَالِسٌ، فَرَاعَنِي مِنْهُ مَا يَرُوعُ الوَحِيدَ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، وَأَمَرَنِي بالجُلُوسِ فَامْتَثَلْتُ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِي فَأَخْبَرْتُ، فَقَالَ لِي: أَصَبْتَ دَالَّتَكَ وَوَجَدْتَ ضَالَّتِكَ، فَهَلْ تَرْوِي مِنْ أَشْعَارِ العَرَبِ شَيْئاً؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَنْشَدْتُ لاِمْرِئِ القَيْسِ، وَعَبيدٍ وَلَبِيدٍ وَطَرَفَةَ فَلَمْ يَطْرَبُ لِشَيْئٍ مِنْ ذلِكَ، وَقالَ: أُنْشِدُكَ مشِنْ شِعْري؟ فَقُلتُ لَهُ: إِيهِ، فَأَنْشَدَ:

بَانَ الخَلِيطُ وَلَوْ طَوَّعْتَ ما بَانَا *** وَقَطَّعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْلِ أَقْرَانا
حَتَّى أَتَى عَلىَ القَصِيدَةِ كُلِّها، فَقُلُتُ: يَا شَيْخُ هَذِهِ القَصِيدَةُ لِجَرِيرٍ قَدْ حَفِظَتْهَا الصِّبْيَانُ، وَعَرَفَها النِّسْوانُ، وَوَلَجتِ الأَخْبِيةَ. وَوَرَدِتْ الأَنْدِيَة، فقالَ: دَعْني مِنْ هذَا، وَإِنْ كُنْتَ تَرْوِي لأَبي نُوَاسٍ شِعْراً فَأَنْشِدْنِيهِ، فَأَنْشَدْتُهُ:
لا أَنْدُبُ الدَّهْرَ رَبْعاً غَيْرَ مَأْنُوسِ *** وَلَسْتُ أَصْبُو إِلَى الحَادِينَ بِالْـعِـيسِ
أَحَقُّ مَنْزِلَةٍ بِالهَجْرِ مَنْزِلَةٌ *** وَصْـلُ الحَبِيبِ عَلَيْهَا غَيْرُ مَلْبُوسِ
يَا لَيْلَةً غَبَرَتْ مَا كَانَ أَطْيَبَهَا *** وَالْكُوسُ تَعْمَلُ فِي إِخْوَانِنَـا الـشُّـوسِ
وَشَادِنٍ نَطَقَتْ بِالْسِّحْرِ مُقْلَتُهُ *** مُزَنَّرٍ حــلْفَ تَسْبِيحِ وَتَقــــدِيسِ
نَازَعْتُهُ الرِّيقَ وِالصَّهْبَاءَ صَافِيَةًَ *** فِي زيِّ قَاضٍ وَنُسْكِ الشَّيْخِ إِبْلِـيسِ
لَمَّا ثَمِلْنَا وَكلُّ النَاسِ قَدْ ثَمِلوُا *** وَخِفْتُ صَرْعَتَهُ إِيَّاي بِالكُـــوسِ
غَطَطْتُ مُسْتَنْعِساً نوْماً لأُنْعِسَهُ *** فَاسْتَشْعَرَتْ مُقْلتَاهُ النَّوْمَ مِن كِيسِــي
وَامْتَدَّ فَوْقَ سَرِيرٍ كَانَ أَرْفَقَ بِي *** عَلـى تشَعُّثِهِ مِنْ عَرْشِ بَلْقِــيسِ
وَزُرْتُ مَضْجَعَهُ قَبْلَ الصَّبَاحِ وَقَدْ *** دَلَّتْ عَلى الصُّبْحِ أَصْوَاتُ النَّوَاقِيسِ
فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: القَسُّ زَارَ، *** وَلاَبُدُّ لِدَيْرِكَ مِنْ تَشْمِيسِ قِسْـيسِ
فَقَالَ: بِئْسَ لَعَمْرِي أَنْتَ مِنْ رَجُل *** ٍفَقُلْتُ كَلاَّ فَإِنِّي لَسْتُ بِـإِبْـلـيسِ
قَالَ: فَطَربَ الشَّيْخُ وَشَهَقَ وَزَعَقَ، فَقُلْتُ: قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ شَيْخٍ لاَ أَدْري أَبِانْتِحَالِكَ، شِعْرَ جَرِيرٍ أَنْتَ أَسْخَفُ أَمْ بِطَرَبِكَ مِنْ شِعْرِ أَبي نُوَاسٍ وَهْوَ فُوَيْسِقٌ عَيَّارٌ؟؟. فَقَالَ: دَعْنِي مِنْ هَذاَ وَامْضِ عَلى وَجْهِكَ، فَإِذَا لَقِيتَ فِي طَرِيقِكَ رَجُلاً مَعَهُ نِحيٌ صَغِيرٌ يَدُورُ فِي الدُّورِ، حَوْلَ القُدُورِ، يُزْهِى بِحِلْيَتِهِ، وَيُبَاهِي بِلِحْيَتِهِ، فَقُلْ لَهُ: دُلَّنِي عَلَى حُوتٍ مَصْرُورٍ، فِي بَعْضِ البُحورِ، مُخْطَفِ الخُصورِ، يَلْدَغُ كالزُّنْبُورِ، وَيَعْتَمُّ بِالنُّورِ، أَبُوهُ حَجَرٌ، وَأُمُّهُ ذَكَرٌ، وَرَأْسُهُ ذَهَبٌ، وَاسْمُهُ لَهَبٌ، وَباقِيهِ ذَنَبٌ، لهُ فِي المَلْبُوسِ، عَمَلُ السُّوسِ، وَهُوَ في البَيْتِ، آفَةُ الزَّيْتِ، شِرِّيبٌ لا يَنْقَعُ، أَكُولٌ لا يَشْبَعُ، بَذُولٌ لا يَمْنَعُ، يُنْمى إِلى الصُّعُودِ، وَلاَ يَنْقَصُ مَالُهُ مِنْ جُودٍ، يَسُوءُكَ مَا يَسُرُّهُ، وَيَنْفَعُكَ مَا يَضُرُّهُ، وَكُنْتُ أَكْتُمُكَ حَدِيثي، وَأَعِيشُ مَعَكَ في رَخَاءٍ، لَكِّنَكَ أَبَيْتَ فَخُذَ الآنَ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ إِلاَّ وَمَعْهُ مُعِينٌ مِنَّا، وَأَنَا أَمْلَيْتْ عَلَى جَرِيرٍ هذِهِ القَصِيدَةَ، وَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُرَّةَ. قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: ثُمَّ غَابَ وَلَمْ أَرَهُ وَمَضَيْتُ لِوَجْهِي، فَلَقِيتُ رَجُلاً فِي يَدِهِ مَذَبَّةُ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ صَاحِبي، وَقُلْتُ لَهُ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ فَنَاوَلنِي مِسْرَجَةً، وَأَوْمَأَ إِلَى غَارٍ فِي الجَبَلِ مُظْلِمٍ، فَقَالَ: دُونَكَ الغَارَ، وَمَعكَ النَّار، قَالَ: فَدَخَلْتُهُ فَإِذَا أَنَا بإِبِلي قَدْ أَخَذَتْ سَمْتَهَا، فَلَوَيْتُ وَجُوهَهَا وَرَدَدْتُهَا، وَبَيْنَا أَنَا في تِلْكَ الحَالةِ في الغِيَاضِ أَدُبُّ الخَمَرَ، إِذْ بِأَبِي الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيِّ تَلَقَّانِي بِالسَّلاَمش، فَقُلْتُ: مَا حَدَاكَ وَيْحَكَ إِلَى هَذَا المَقامِ؟ قَالَ: جَوْرُ الأَيَّامِ، فِي الأَحْكَامِ، وَعَدَمُ الكِرَامِ، مِنَ الأَنَامِ، قُلتُ: فَاحْكُمْ حُكْمَكَ يا أَبَا الفَتْحِ، فَقَالَ: احْمِلنِي عَلَى قَعُودٍ، وَأَرِقْ لي مَاءً فِي عُودٍ، فَقلْتُ: لَكَ ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:
نَفْسِي فِـدَاءُ مُـحَـكِّـمٍ *** كَلَّفْتُهُ شَطَطَاً فَأَسْـجَـحْ
مَا حَكَّ لِـحْـيَتَـهُ، وَلاَ *** مَسَحَ المُخَاطَ، وَلاَ تَنَحْنَحَ
ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِخَبرِ الشَّيْخِ، فَأَوْمأَ إِلى عِمَامَتِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ ثَمَرَةُ بِرِّهِ، فَقُلتُ: يَا أَبَا الفَتْحِ شَحَذْتَ عَلى إِبْلِيسَ؟ إِنَّكَ لَشَحَّاذٌ!!
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إرسال تعليق

الاسمبريد إلكترونيرسالة